لتقي رئيس لجنة كفرحزير البيئية جورج عيناتي بشاب من بلدته. وبما أنه موسم أعياد، يبادره جورج ب “ينعاد عليك”. يسكت الشاب قليلاً ثم يجيب بحزن بالغ: “ما الذي يريده الناس أن ينعاد علينا؟ موت أبي؟ أم السرطان الذي يعشش في منازل كفرحزير؟ أم استمرار التهام الشركات لأراضي بلدتنا عبر المقالع التي وصلت إلى منازلنا؟”
استدرك جورج وقال للشاب الذي خسر والده قبل أيام بمرض السرطان: “ميلاد مجيد يا بني”. جورج نفسه لم يعد يقول لأحد من أهالي كفرحزير في الكورة سوى “ميلاد مجيد”. انتبه الرجل الذي يقضي حياته في معارك متتابعة مع شركات الترابة المتمركزة في شكا، أن لا أحد يريد لهذه الأيام أن “تنعاد”.
تهجير كفرحزير
صديق جورج، وابن بلدته موريس شلهوب يقضي الأعياد هذا العام للمرة الأخيرة في كفرحزير. في العام المقبل يكون قد أكمل هروبه منها.
يملك موريس خمسة دونمات من الأراضي في منطقة وادي القاش، وتحديداً بالقرب من عين القاش. تتمتع هذه المنطقة بموقع مميز في كفرحزير. صحيح أنها لا تطل على البحر كما المجيدل، أحد أحياء البلدة، وأطراف كفرحزير الأخرى، لكنها مرتاحة إلى وفرة المياه وأحضان كروم الزيتون التي كانت تحيط بها من كل جانب: “بالصيف برود وبالشتا دفا”، يقول موريس مبرراً بناءه منزلاً من طابقين في عين القاش بمساحة لا تقل عن 250 متراً مربعاً.
حول البيت، لم يترك موريس نوعاً من الشجر المثمر إلا وزرعه “منحب ناكل من شجرتنا”. جهّز مساحات خاصة لزراعة الخضار، وقال لزوجته “سنكبر ونشيخ هنا في هذا البيت الجميل”. عندما بدأ موريس بناء بيت أحلامه، لم تكن الشركات قد كشّرت عن أنيابها في المقلع الذي صارت آلياته اليوم على بعد نحو مائة متر من منزله. كان رفاق موريس يختارون بيته لجلسات سمرهم الأسبوعية. “وكان ذلك يسعدني. أشعر بأهمية بيتي وجماله وموقعه الحسن”.
مع اقتراب الحفر في المقلع، لم يعد أفراد العائلة يسمعون بعضهم البعض. بدأ الصغار موجات من الأمراض الصدرية التي لا تنتهي. لم يعد بوسعهم فتح نوافذهم والأبواب. أما الشجر المثمر، فصار يموت واحدة وراء الأخرى بعدما ألتهمه الغبار وقطع عنه الأوكسيجين. ومع التفجيرات ليلاً نهاراً شعر موريس أنه يسكن في ساحة حرب، فيما أخبار موت أهل بلدته بالسرطان تأتيه دورياً.
وأخيراً كان لا بد من أولويات مستجدة: البيت أم صحته وصحة عائلته؟ حمل موريس وزوجته صغارهم ورحلوا نحو منزل أهله في قلب كفرحزير. اشترى أرضاً في حدث الجبة في قضاء بشري وبدأ بالبناء من جديد. يغص الرجل لسبيين: خسر نحو 400 ألف دولار هي كلفة بيته وأرضه التي شجّرها واهتم بها. واضطر إلى ترك مسقط رأسه، البلدة التي فتح عينيه عليها وعاش طفولته بين أقرانه وفي أزقتها وساحاتها. اليوم يذهب “غريباً” شبه مطرود من بيته ومن بين أهله.
“شبه مطرود؟” لا “مطرود” يقول موريس الذي يعتبر أنه تعرض لمحاولة اغتيال أيضاً، وليس فقط إلى تهجير.
كان موريس وصديقه جميل في رحلة في جبال كفرحزير. قادتهما أقدامهما إلى أسفل المقلع وهما يقطعان نحو هضاب الزيتون، وتحديداً تجاه الناحية التي تحد بلدتي كفرحاتا وكفتون جنوب كفرحزير. فجأة صرخ جميل بموريس “انتبه في حجارة جايي علينا”. لم يكد موريس ينظر باتجاه الأعلى وهو يركض حتى وصلت صخورا بأحجام مختلفة إليهما “نجونا بأعجوبة من الموت”. جُرحت يد جميل ووقع موريس على الأرض بعدما شعر بوجع في ركبته.
يقول موريس ل”المفكرة” أنه بالكاد تمكن من رؤية شاشة هاتفه ليطلب نجدة الأصدقاء والأقارب. في الأعلى من حيث تدحرجت الصخور كان هناك آليات لشركات الترابة وعمال. تبين أن ركبة موريس “قد طُحنت”. رفع موريس دعوى على شركة الترابة التي كانت آلياتها في المكان بتهمة محاولة القتل، وما زالت دعواه في المحكمة “لن أستسلم” يقول.
هل تصبح كفرحزير جزيرة؟
حين تترك الأوتوستراد الذي يصل بيروت بطرابلس، وتحديداً عند بوابة الكورة وزغرتا والأرز صعوداً من شكا، لن يمر وقت طويل قبل أن يستقبلك أحد أكبر مقالع شركات الترابة ليشكل فاصلاً بين كفرحزير التي تتربع على الهضبة اليمنى، وبين بدبهون، تلك القرية الصغيرة على يسارك والتي أكل المقلع قلبها. تشعر أن بيوت بدبهون ستقع من على حافة مقلع لا يقلّ ارتفاعه عن مائتين إلى ثلاثمائة متر عمقاً. إذا سُمح للعابرين النزول إلى أسفل المقلع الذي صيّر الجبل هناك وادياً (ممنوع دخوله لأي كان)، سيشعرون أن مياه البحر سترتد إليهم، أو على الأقل، سيصلهم فقش الموج لولا حاجز ساحل شكا وأنفة والطريق الدولية نحو طرابلس فالحدود السورية. لقد حفروا الجبل الذي كان يعلو البحر بنحو 350 مترا أو أكثر وما بدلوا تبديلا.
يمكن للعابرين عبر نفق شكا باتجاه الشمال أن يروا من الهري المقلع الثاني لشركات الترابة يمعن التهاماً في جبال كفرحزير. لم تعد المنطقة محجوبة عن بعضها البعض. صارت وديان كفرحزير وهضابها الخضراء سهلاً. لو قدر لمياه البحر الوصول إليه لتحول إلى أرخبيل بملايين الأمتار المربعة. مع شراء الشركات أراضي عبر الزمن من أهالي كفرحزير، قامت البطريركية المارونية ببيع الشركات عقارا لا تقل مساحته عن مليون متر مربع. تطرح الصفقة بين البطريركية والشركات تساؤلات كثيرة وفق ما يقول أهالي كفرحزير ومن بينهم عيناتي. للعقار قصة لا يعرف أهل كفرحزير كيف انتهت بهذه الطريقة وماذا حصل. كان العقار لرجل من كفرحزير لم يرد بيعه للشركات. اختلف مع أشقائه فتبرع به لدير مار الياس. فجأة صار العقار ملكاً للبطريركية المارونية شريكة هولسيم وبالتالي بيع للشركات التي تتقاسم الجبل والقضاء عليه.
بين المقلعين وتواطؤ الجميع، تحاول كفرحزير وأهلها الصمود. وعن أي صمود نحكي؟ كيف لبلدة تشعر بكل هذه المظلومية والتخلي من قبل الدولة ومؤسساتها ومعهم جهات دينية أن تصمد؟ كيف لهؤلاء الناس الذين يؤمنون بالحق وبالنضال السلمي أن يتفهموا لاعدالة مواجهتهم مع الشركات؟ ومعها موقف أمهم، الدولة، التي تتركهم فريسة سهلة في وجه وحش الصناعة المخالفة للقانون، ولكل المعايير التي يفرضها. كلها أسئلة يرميها ابن كفرحزير سعادة ضاهر بحرقة، ليختم بالقول “اليوم بدنا وقفة شبيهة لتلك التي أوقفت مقلع الأرجيل في سهل الكورة في الثمانينات، وإلاّ سوف تتحول الجبال إلى بحر، وسيجرون البحر إلى كفرحزير”. بالنسبة له “ما يؤخذ بالقوة لا يّسترجع إلا بالقوة. ولذا “رح نوقف ع الطريق وإذا بدهم يمشّوا جرافاتهم وآلياتهم ف على جثثنا. رح نتظاهر ونعتصم تحت سقف القانون لندافع عن حقوقنا وأرضنا وصحتنا مع أولادنا، فلم يعد لدينا ما نخسره”.
ما يقوله أهالي كفرحزير عن بلدتهم بعنفوان وحماس يفسره كلام مختارها يعقوب جوزف عيسى الذي يتحدث عن بلدته وكأن كتاب التاريخ نسيها هناك على أجمل تلال الكورة بكل حضورها “كفرحزير كان فيها محكمة المنطقة، وكانت مانعة يفوت أي مدعى عليه أو متهم مكبل اليدين والقدمين. كان الفرنسيون يأتون به مقيدأ لغاية بوابة كفرحزير حيث يفكون قيده ليتمكنوا من دخولها”. البلدة التي انتصرت للحرية والإحترام في نطاقها، “تعجز اليوم عن رد مستبيحيها”، يقول بأسف.
القانون الذي لا ينتصر له المسؤولون
اليوم، يقف أهالي كفرحزيرمجردين من كل سلاح إلا سلاح القانون والحق: في أياديهم قرارات تصنيف بلدتهم سكنية وزراعية، وفي اليد الأخرى وقوعها خارج مرسوم المقالع والكسارات، ومعها عدم امتلاك الشركات ترخيصاً بالعمل في المقالع، وكذلك إصدار قرارا بلديا محليا يمنع الحفر فيها، وأخر من اتحاد بلديات الكورة يطلب مؤازرة أمنية لوقف الشركات ومقالعها. والأهم ناسها الذين يمرضون، كما أهالي القرى المواجهة والقريبة من الشركات، بالسرطان الذي وصلت معدلاته إلى الأعلى مع حوض الليطاني في البقاع.
في وجه كل هذه المستندات المحقة، يُصدم أهالي كفرحزير بكل ما يتأتى من الدولة وإداراتها. يستنجدون بمحافظ الشمال فيحضر بسيارته ومع عناصره، ويغادر عندما يصل إلى حدود المقالع فتمنعه الشركات من دخولها بعد إقفال أبوابها. أدار محرك سيارته، فيما ينظر إليه أهالي كفرحزير الذين أملوا أن رؤيته للواقع على الأرض سوف تجعله يتلمس هول مأساتهم، فاعتقدوا أنه أتى لنجدتهم. يطلبون منه كتابا رسميا بتكليف القوى الأمنية مؤازرة البلديات لإقفال المقالع ومنع الآليات من العمل فيها، فيتوه الطلب في أدراج المحافظة. كيف لكفرحزير أن تمنع تهجير أبنائها؟ كيف ترد الغبار عن منازل أهلها الذين صار لديهم مهمات إضافية في غسل الجدران والشجر والمصاطب ومسح الغبار عشر مرات في اليوم؟ والأهم تشييع موتى السرطان مرة إلى مرتين في الأسبوع.
في وجه ما يحصل، يستعيد المختار يعقوب الياس عيسى تجربته كعنصر في قوى الأمن الداخلي في مخفر شكا: “كنت أراقب معايير التفجير من النوعية للكمية حتى ما تتأثر المنطقة بالتفجيرات”. مراقبة المختار كعنصر أمني يومها تعتمد على معايير موجودة في القانون كما يقول: أين يضعون الديناميت نسبة للتفجير حتى ما يولع، ممنوع استعمال كميات تتسبب بهزات وارتجاجات. تحديد أوقات معينة للتفجير لا تزعج السكان أو تقلقهم. وايضاً أوقات نقل الأتربة. “اليوم انتهت الرقابة”، يقول المختار شارحاً ما يحصل “يستعملون الحفر الرجراج، وبدل ما ينزلوا سيران (يعني جلول) صاروا عم ينزلوا عامودياً وبشكل حاد”. النزول العامودي لأعماق قد تصل إلى 500 و700 متر لفحص طبقات الأرض ونوعية التربة والصخور، يراه المختار خطراً كبيراً على خزانات المياه الجوفية “عم يفتحوا شبابيك ع باطن الأرض وهذا ما يلوث مياهنا”. ثم يشرح المعنى الاقتصادي للحفر “هن شاريين الجبل بالمتر المربع، والقانون يحدد طبقات الحفر، ولازم كل طبقة ياخدوا عليها ترخيص”. لكن الشركات لا تعبأ بأي قواعد وقوانين “في محلات نازل مئة وميتين و300 متر ع القليلة بالحفر وليس بجس طبقات الأرض فقط. ع طريق كفريا صاروا عم يحفروا بالساقية وعم يجرفوا الحوارة فوق عين المي”.
الاتحاد وبلدية كفرحزير تحركا ولو بعد حين، لكن المحافظ لا ينفذ
يأخذ عضو مجلس بلدية كفرحزير يعقوب إبراهيم وهبي قرار بلدية كفرحزير بوقف المقالع كمثال عن طريقة التعاطي مع ملف بلدته في مواجهة الشركات: “أخذنا بتاريخ … قراراً بالإجماع بوقف الحفر نهائيا، وهو أول قرار تأخذه بلدية من بلديات الكورة. فبعدما تثبتنا من انعدام الترخيص بالمقلع وعدم قانونيته، أرسلنا للمحافظ نطلب منه مؤازرة عندما لم تنفذ الشركات قرارنا واستمروا بالحفر. اتحاد بلديات الكورة اتخذ قرارا في الاتجاه نفسه بتاريخ … صار المحافظ يتبرأ من الموضوع، ولم يكن موقفه سليماً أبدا، بل كان متوطئاً. نسمع منه (من المحافظ) كلاماً يقول عكسه للمسؤولين والسياسيين. يقول لنا مرجعي لا يسمح لي، ويقصد وزير الداخلية”. ويضيف وهبي بمرارة “نحن نطلب مؤازرة أمنية للتوقيف، إذ تتمتع البلدية بسلطة قائمة بذاتها وهو سلطة وصاية علينا إذا تجاوزنا القانون. لماذا لا يؤازرنا ومرسوم المقالع والكسارات لا يسمح بها في منطقتنا؟ كفرحزير مصنفة سكنية بما فيها الحرج الذي حفروه في حي المجيدل وهو منطقة سكنية”. يقول بأسف “خسائرنا لا تقدر بثمن لأن أحداً لا يشتري متر الأرض منا ب20 دولار، بينما ونسبة إلى موقع كفرحزير ومواصفاتها هو أعلى بأضعاف الأضعاف، والدليل أن متر الأرض في فدعوس مثلاً بيع ب 1260 دولار”.
بالنسبة له “لا يحق للشركات الحفر حتى لو نالت ترخيصا من وزير أو محافظ”. لم يتم تنفيذ قرار كفرحزير ومعه قرار اتحاد بلديات الكورة بالمضمون عينه، “لأن المحافظ لم يتجاوب معنا، بل شكّل لجنة ليلتف ع القرار البلدي” .
يشرح وهبي “أخذنا القرار ع أساس عنا دولة، ولكنها للأسف لم تقم بواجبها. الآن نبحث اللجوء إلى مجلس شورى الدولة لندعي على كل الموظفين من المحافظ وانتهاء بأي وزير تقاعس عن أداء صلاحياته. يجيبنا المحافظ أن أمر المؤازرة صار لدى رئيسة الدائرة المختصة، فلماذا لم يخرج حتى الآن؟”.
تسال عضو مجلس بلدية كفرحزير عن كل المال الذي يدفع لبلديات ونافذين وأشخاص فيقول “صحيح أن الشركات دفعت لبلدية كفرحزير مبالغ، بس صدقيني هن دافعين قدها ع عشر مرات لشراء الذمم وفي كل مكان”.
نشر هذا المقال في العدد | 58 | كانون الثاني 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
الكورة في فم التنين: من رخّص بالقتل؟