في الوقت الذي كان يمثل فيه سبعون مصنعاً من المتهمين بتلويث نهر الليطاني أمام محكمة زحلة أمس، ومعظمهم استفادوا من المهل التي أعطاها القاضي المنفرد الجزائي في زحلة محمد شرف لتركيب محطات تكرير، كانت وزارة الصناعة تحضّر للقرار الحاسم. فقد أصدرت قراراً قضى بإقفال 29 مؤسسة صناعية وإنذار عشرة، لعدم التزامها المعايير البيئية وتركيب محطات المعالجة والتكرير، بهدف الوصول إلى “صفر تلوث صناعي في الليطاني”، وفق ما أعلن مؤخراً وزير الصناعة وائل أبو فاعور، في إثر اجتماع تنسيقي مع المصلحة الوطنية لنهر الليطاني.
المصانع التي تواجه قرار الإقفال هي من الفئات الأولى حتى الخامسة، وهي تتنوع بين مصانع نشر الحجر ومسالخ مواشٍ ودواجن وألبان وأجبان، ومواد غذائية متنوعة. وكانت المصانع نفسها قد استنفذت المهل المعطاة لها من دون اتخاذ التدابير الآيلة لإيقاف تلويث النهر، بحسب الكشوفات الفجائية التي قامت به اللجنة المؤلفة من وزارتي البيئة والصناعة والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني. ويُلحظ أن الوزارة أنذرت عشر مؤسسات أخرى بسبب رميها الترسبات في عقارات مجاورة لها بعد معالجة المياه المبتذلة لإعادة استخدامها في عمليات التصنيع. وتوعدت الوزارة في بيان أصدرته، استمرار الكشوفات الفجائية للتأكد من استمرار عمل محطات المعالجة، ولأخذ العينات وإخضاعها للفحوص المخبرية. وتطرح خطوة الوزارة الإيجابية تساؤلاً عن سبب عدم شمول معمل ألبان لبنان بقرار الإقفال برغم استنفاذه لكل المهل القضائية المعطاة له وآخرها في 28 أيلول 2019، والممنوحة من محكمة الجزاء في بعلبك. ويملك ألبان لبنان بالشراكة كل من النائب نبيل دفريج ورجل الأعمال محمد زيدان وينك عودة.
وبالعودة إلى الجلسة التي انعقدت أمام القاضي شرف بتاريخ 16 تشرين الأول، يظهر أنه بعد مرور عام كامل على بداية المسار القضائي لهذه الملفات التي خرج منها العشرات بصدور أحكام، بات الإنتظار لساعات على مقاعد المحكمة خيرا من مواجهة قرار بالإقفال. فقرابة الساعة العاشرة والنصف صباح نهار الأربعاء، امتلأت القاعة حالما جلس القاضي محمد شرف على قوس المحكمة وأمامه “كدسة” ملفات تعود لسبعين مؤسسة صناعية، استدعت أن يعاونه مساعدون قضائيون.
وخُصصت الجلسات للنظر في ملفات معامل النبيذ التي باشرت مؤخراً أشغالها لدى انتهاء موسم قطاف العنب. وملفات أخرى تتصل بالمستشفيات المدعى عليها، وأخرى تنوعت ما بين معامل ألبان أجبان وباطون ومواد غذائية.
مستشفيات
في مسألة المستشفيات المدعى عليها، استجوب القاضي شرف ممثل المستشفى اللبناني الفرنسي الذي أكد أن المستشفى تقوم بتحويل مياه الصرف الصحي إلى شبكة الصرف التابعة لبلدية زحلة، وهي متعاقدة منذ نحو 5 سنوات مع جمعية Arc en Ciel التي تقوم بمعالجة النفايات الطبية الصلبة. ولفت إلى أنها تأخذ هذه النفايات ثلاث مرات أسبوعياً. من جهته، طلب القاضي منه أن يُبرز دراسة الأثر البيئي، فأكد بأن وزارة البيئة أشارت إليه أن يُكلف إحدى الشركات الخاصة لتقوم بها.
بالنسبة لمستشفى الرياق، أيضاً أكد المفوض بالتوقيع عنها بأن المستشفى متعاقدة مع جمعية Arc en Ciel بشأن النفايات الصلبة منذ العام 2002، فيما تصرف المستشفى النفايات السائلة في شبكات الصرف الصحي. وتم تعيين الخبيرة كارول السخن لتكشف على المستشفى كما تعهد ممثل المستشفى بإبراز دراسة الأثر البيئي.
وفي ملف مستشفى الهراوي، تبين أن تقرير الخبيرة لم يرد بعد، فقرر القاضي تكليف رئيس القلم الاتصال بها والاستيضاح عن هذا التأخر. وفي قضية مستشفى البقاع، أصدر القاضي شرف قراراً إعدادياً قضى بفتح المحاكمة وتعيين خبراء. وتبين في ملف مستشفى المياس، أنها كانت مملوكة من قبل شركة سابقاً وانتقلت ملكيتها إلى شركة جديدة، ما استدعى من وكيل المصلحة الوطنية لنهر الليطاني المحامي علي عطايا التريث قبل اتخاذ الموقف المناسب لناحية مسؤولية الشركة السابقة.
معامل النبيذ
مثَل معمل “شاتو كسارة” أمام المحكمة، وتبين أن تقرير الخبيرة ورد إنما أُرجئت إلى حين تسديد أتعاب الخبيرة التي كشفت على المعمل وللتعليق على التقرير. ومَثل أيضاً معمل “سان توماس” حيث تم تكليف خبير لأخذ العينات خلال مرحلة مباشرة الأعمال، والأمر نفسه بالنسبة لشركة “Liban Cave”. أما معمل “شاتو كفريا”، فتبين أن تقرير الخبراء لم يرد بعد، بينما أبرز ممثل الشركة صورا عن عملية توزيع المياه الناتجة عن عصر العنب، وأكد أن المعمل توقف عن الإنتاج ودخل في مرحلة تخمير النبيذ. وتم إرجاء الجلسة إلى حين أخذ العينات ووضع التقرير من قبل الخبيربن المعينين. يذكر أن شاتو كفريا الذي يملك فيه النائب السابق وليد جنبلاط حصة الأسد هو من أوائل المعامل التي أحيلت إلى القضاء لتلويثه نهر الليطاني.
الجمعيات المعنية بمخيمات اللاجئين
جمعية “إنترسوس” التي تتهمها المصلحة الوطنية لنهر الليطاني بتسييل مياه الصرف الصحي الناتجة عن مراحيض مخيمات اللاجئين السوريين إلى نهر الليطاني، مثلت أمام المحكمة بعد تأجيل جلستها في المرة السابقة بسبب تقديمها مذكرة دفوع شكلية. أمس، وبعدما جرى ضم الدفوع إلى أساس الدعوى، تقدمت الجمعية بخريطة توضح فيها مكان تواجد المراحيض، فطلب القاضي شرف من الجمعية بأن تُبرز لائحة تتضمن أرقام وأسماء المخيمات وأماكن وجود مراحيضها على العقارات التي تتواجد عليها المخيمات، وبأن تُبرز ما قامت به الجمعية لضمان الإلتزام بالمعايير العلمية والبيئية. وطلب القاضي شرف من الجمعية بأن تبرز العقود التي على أساسها جرى تلزيم البنى التحتية في المخيمات التي تقدم فيها خدماتها. بالإضافة إلى دعوة المفوض بالتوقيع عن الجمعية الكسندر كريستوف.
في ملف مُشابه، كانت جمعية “الرؤية العالمية” قد مثلت أمام المحكمة في جلسة سابقة، بعدما صدر بحقها في 9 تموز 2019 قرار يلزمها بإنشاء “محطة تكرير مخصصة لتنقية مياه الصرف الصحي في كل مخيم من المخيمات التي أنشئت على أرضها مراحيض ضمن نطاق قضاء زحلة، وذلك خلال مهلة شهر من تبليغها تحت طائلة غرامة إكراهية بقيمة عشرة ملايين ليرة عن كل يوم تأخير“. الجلسة السابقة طلبت إمهالها ريثما تتمكن من الحصول على ترخيص من وزارة الطاقة. والجدير ذكره أن وزارة الطاقة كانت قد ردّت على طلب الجمعية التّرخيص بهدف تنفيذ القرار القضائي بأنها تقوم بدراسة “التقنيات الأنسب لمعالجة المياه المبتذلة في مخيمات النازحين السوريين بما لا يتعارض مع سياسة الحكومة اللبنانية بعدم تنفيذ أشغال ثابتة في المخيمات وبالتنسيق مع كافة الجمعيات العاملة فيها والجهات المانحة”. ولفتت الوزارة بأن هذه الدراسة لن تنتهي ضمن المهلة المعطاة في قرار المحكمة. ويُشار إلى أن الجمعية توجهت إلى محكمة الاستئناف بهدف استئناف قرار القاضي شرف المذكور حينها، وفيما تجري العادة بأن تُصدر محكمة الاستئناف قراراتها في هكذا ملفات في اليوم نفسه إلا أنها تريثت بهدف التمعن في الملف كونه شائكا بعض الشيء لأنه يتعلق بقرارات الوزارة. ومن جهته تقدم وكيل المصلحة الوطنية لنهر الليطاني المحامي علي عطايا، بطلب رد الاستئناف شكلاً بحيث أنه قرار لا يفصل في الدعوى حسبما تشير المادة 213 من قانون أصول محاكمات جزائية. واعتبر عطايا أن قانون حماية البيئة يُجيز للمحكمة بأن تتخذ التدابير المناسبة للقيام باجراءات وقائية على مثال تركيب محطات التكرير (المادة 57 قانون حماية البيئة).
من جهة ثانية، نظرت المحكمة في قضية عدة معامل من بينها ملف معمل سيكومو. وتبين أن الأخير قد أنشأ محطة التكرير، بحسب ما أكد الخبير المكلف بالكشف عليها بول أبي راشد الذي مثل في المحكمة بعدما قام بالكشف على المعمل. أما في قضية معمل ضاهر انترناشيونال فودز، تبين أن تقرير الخبيرين المكلفين من المحكمة لم يرد بعد. ومن المتوقع أن يصدر عدة أحكام منها لشركات: “سكاف، La Douceur، التن للتعهدات، سروجي للتعهدات”. فيما تتجه ملفات أخرى إلى الترافع وللتعليق على تقارير الخبراء، وذلك بتاريخ 3 كانون الأول 2019.
الكشف على معمل ألبان لبنان
كما في زحلة، فإن محكمة بعلبك برئاسة القاضية المنفردة الجزائية لميس الحاج دياب كانت قد كلفت الخبيرين طلال درويش وكمال سليم للكشف على معمل “ألبان لبنان”، وتوجه الخبيران في تاريخ 10 تشرين الأول 2019 إلى المعمل، وبالتزامن توجه مهندسون من المصلحة الوطنية لنهر الليطاني أيضاً، بهدف الكشف على الاجراءات التي اتخذها المعمل، مع العلم أن إدارة المعمل حاولت منع فريق المصلحة من الدخول ثم عادت وتراجعت عن قرارها. المعمل المستثنى من قرار وزارة الصاعة الذي قضى بإقفال المؤسسات ال29 لعدم التزامهم البيئي، لا يزال بحسب الكشف الأخير يحول المياه الملوثة إلى مجرى النهر.
في خلاصة الكشف، بحسب المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، يظهر أن “ألبان لبنان” قامت بإنشاء وحدة معالجة مخصصة لمعالجة مخلفات الأبقار وبسعة ٥٠٠م٣ يوميا. وشرح التقرير الأولي أنه “تم الإنتهاء من المرحلة الأولى والتي يصار فيها حاليا إلى فصل المخلفات السائلة عن المخلفات الصلبة التي تعمل الشركة على تجفيفها في عقار تابع للمصنع قرب وحدة المعالجة ومن ثم استخدامها كمواد عضوية للأراضي الزراعية”.
أما بالنسبة للمرحلة الثانية، وهي المرحلة التي يجري فيها معالجة المياه السائلة الناتجة عن عملية الفصل في المرحلة الأولى، فهي غير منجزة حاليا بانتظار وصول فلاتر التناضح العكسي RO بعد شهرين. وحسبما أكد مدير عام الشركة ميشال واكد للخبيرين، فإن الشركة تعمل حاليا على تجميع النفايات السائلة (كتدبير مؤقت) في حفرة ترابية غير معزولة، قبل صرفها ومن دون معالجة مباشرة إلى نهر الليطاني. ويُشار إلى أن المعمل كان قد طلب في آخر جلسة انغقدت طلب مهلة إضافية يأتي مع العلم أن المهلة القانونية المعطاة له انتهت في 28 أيلول. وإذ أنه من المتوقع أن تبت القاضية الحاج دياب بطلب المعمل في الجلسة الآتية بتاريخ 5 تشرين الثاني، يُذكر أنها كانت قد عممت في جلسة سابقة على مسامع المعامل المدعى عليها أن المحكمة لن تذهب إلى إعطاء أي مهل بعد انتهاء العطلة القضائية (انتهت في 15 أيلول).
مهمة الخبيرين درويش وسليم لم تنته بعد، بل سيتوجهان من جديد إلى المعمل في 25 من الشهر الجاري للكشف على الصرف الصناعي الناتج وخطوط الإنتاج والإطلاع على ماهية وكمية النفايات السائلة والصلبة الناتجة عن العملية الصناعية.
من البقاع إلى الجنوب
في الوقت الذي تنهمك فيه محكمتا زحلة وبعلبك بالنظر في ملفات تلوث نهر الليطاني لمحاكمة معامل ومؤسسات صناعية متهمة بالتلويث، حيث تكثر هذه المصانع في مناطق الحوض الأعلى للنهر بقاعاً، فإن ذلك لا يعني أن الحوض الأدنى ليس بخطر. فالتعديات التي تقوم بها محال تجارية ومباني سكنية واستراحات سياحية على طول مجرى النهر في الجنوب هي الشغل الشاغل لمصلحة الليطاني.
ومؤخراً دخلت على خط القضاء معاصر الزيتون في الجنوب، إذ بات موسم القطاف يهدد النهر بفعل رمي بعض المعاصر والبلديات زيبار الزيتون في مجراه. فاستدعى الأمر من المصلحة الإدعاء أمام النيابة العامة المالية تاريخ 16 تشرين الأول لتطلب إقفال معصرتي زيتون ترميان مخلفاتهما في مجرى النهر في دبين ومرجعيون، وشكوى مماثلة، ضد بلدية كفركلا ورئيسها بتهمة تحويل مياه الصرف الصحي وزيبار الزيتون عبر مجرى شتوي بلدة كفركلت مرورا ببلدة دير ميماس ليصب في نهر الليطاني.
وليست وحدها المصانع والمجارير التي تلوث نهر الليطاني، فلا تُستثنى البلديات ورؤسائها من ملاحقات المصلحة القضائية، وآخرها الإدعاء بوجه بلدية زحلة على خلفية تحويل الصرف الصحي الصناعي غير المعالج والناتج عن المدينة الصناعية في زحلة إلى نهر الليطاني. وفي الجنوب، سلكت المصلحة طريق القضاء لمواجهة مكبات النفايات العشوائية التي تقرب من مجرى النهر أو من أحد روافده. فتقدمت المصلحة بتاريخ 7 تشرين الأول بإخبار ضد كل من بلدية كفرتبنيت ورئيسها وبلدية أرنون ورئيسها، أمام النيابة العامة المالية، تشتكي من وجود مكبات نفايات قريبة من مجرى نهر الليطاني أو روافده. وفيما سارعت بلدية أرنون إلى إزالة المكب وباشرت بتأهيل الوسط البيئي كخطوة تلقفتها المصلحة بإيجابية، استمرت كفرتبنيت باستخدام المكب العشوائي مما استدعى المصلحة إلى تقديم شكوى أمام قاضي الأمور المستعجلة في النبطية طالبة وقف رمي النفايات وحرقها وطمرها في المكب الكائن في البلدة. وبررت المصلحة ادعائها بالضرر الذي يلحق المياه الجوفية ونهر الليطاني. وطلبت المصلحة إقفال المكب نهائياً وبالشمع الأحمر واعتبار رئيس بلدية كفرتبنيت مسؤولا بصفته الشخصية عن تنفيذ القرار.