شورى الدولة يمنع الصفدي من التذرّع بالمادة 70 من الدستور: أو لا حصانة للوزراء أمام ديوان المحاسبة


2023-05-09    |   

شورى الدولة يمنع الصفدي من التذرّع بالمادة 70 من الدستور: أو لا حصانة للوزراء أمام ديوان المحاسبة
صورة من الموقع الرسمي لوزراة الأشغال العامة والنقل

أصدر مجلس القضايا لدى مجلس شورى الدولة القرار رقم 492 بتاريخ 27 نسان 2023 والذي قضى برد طلب نقض قرار ديوان المحاسبة رقم 318/ر.ق الصادر بتاريخ 24 أيلول 2020 والذي خلص فيه الديوان إلى إدانة وزير الأشغال العامة والنقل السابق محمد الصفدي وتغريمه بمبلغ قدره مليون وخمسامية ألف ليرة لبنانية بالإضافة إلى غرامة تساوي راتب ثلاثة أشهر وذلك بسبب المخالفات الحاصلة في ملف تلزيم مشروع إقامة جسور في منطقة البحصاص-طرابلس.

ومن دون الدخول في تفاصيل القضية لناحية الأخطاء المرتكبة في تنفيذ المشروع المذكور، لا بدّ من التوقف على الأهمية القانونية لقرار مجلس شورى الدولة كونه يؤدّي إلى الحدّ من الافلات من العقاب وتنصّل أركان السلطة السياسية من تحمّل مسؤولية أفعالهم بحجّة الحصانات الدستورية. فقد تذرّع الوزير الصفدي من أجل نقض قرار ديوان المحاسبة بالمادة 70 من الدّستور التي تنصّ على أنّ محاكمة الوزراء تتمّ أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء لارتكابهم الخيانة العظمى وإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم “فلا يمكن بالتالي إخضاع الوزير إلى الأحكام التي ترعى أوضاع موظفي الإدارات العامة والعاملين في المؤسسات العامة”. ويتابع الوزير الصفدي تفسيره الخاصّ للحصانة مُعتبرا “أن رقابة ديوان المحاسبة تشمل فقط الموظفين من دون الوزير في التسلسل الإداري” إذ ينحصر دور الديوان في حال وجود مخالفة مرتكبة من قبل الوزراء في إعلام مجلس النواب بهدف تمكينه من “وضع يده على تلك المخالفات حتى إذا رأى فيها ما يوجب ملاحقة الوزراء أمام المجلس الأعلى المنصوص عليه في المادة 80 من الدستور قام باتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك”.

وهكذا ذهب الوزير طالب النقض إلى توسيع الحصانة الوزارية لحدودها القصوى. فبعد التفسير التعسّفي للمادة 70 من الدستور بشكل يمنع محاكمة الوزراء جزائيا أمام المحاكم العادية في قضايا تفجير المرفأ أو عدد من قضايا الفساد المالي، ها هو الوزير الصفدي يكتشف في المادة 70 ذاتها حصانة جديدة تمنع حتى على ديوان المحاسبة من فرض غرامات على الوزراء وهي العقوبة الوحيدة التي يحقّ للديوان إنزالها بالمخالف عملا بالمادة 60 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة وتعديلاته (المرسوم الإشتراعي رقم 82 تاريخ 16 أيلول 1983).

وقد رفض مجلس شورى الدولة هذا التفسير معتبرا أن رقابة الديوان عملا بالقانون هي مطلقة ولا تنحصر بالموظفين بل تشمل أيضا كل من هو بحكم الموظّف ويقوم “بإدارة أو استعمال أو قبض أو دفع الأموال العمومية وكلّ من يتدخل في إدارتها أو يساهم في الأعمال التحضيرية لها بمراقبتها والتصديق عليها، أي كل من له علاقة بإدارة أو استعمال أو صرف الأموال العمومية بأي مرحلة من مراحل هذه العملية”.

وما يحسم عدم تمتع الوزراء بحصانة تمنع محاكمتهم أمام ديوان المحاسبة باعتباره المحكمة الإدارية التي تتولى القضاء المالي، هي المادة 112 من قانون المحاسبة العمومية الصادر في 30 كانون الأول 1963 والتي تنصّ صراحة على التالي: “الوزير مسؤول شخصيّا على أمواله الخاصة عن كل نفقة يعقدها مُتجاوزا الاعتمادات المفتوحة لوزارته مع علمه بهذا التجاوز، وكذلك عن كل تدبير يؤدي الى زيادة النفقات التي تصرف من الاعتمادات المذكورة اذا كان هذا التدبير غير ناتج عن احكام تشريعية سابقة”. فالمخالفة التي تذكرها هذه المادة تدخل في إختصاص ديوان المحاسبة التي تشمل صلاحياته كل نفقة يتم عقدها خلافا للقانون، ما يعني أن تحميل الوزير مسؤولية شخصية على أمواله لا يمكن أن يتمّ فهمه إلا في حال كان لهذه المسؤولية من تداعيات يمكن ترتيبها قانونا على الوزير من خلال إخضاعه لرقابة دوان المحاسبة.

وبما أن المادة 60 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة عددت الحالات التي يتم فيها فرض غرامة على المخالف “وذلك بالإضافة الى الالزامات المدنية والعقوبات الجزائية والمسلكية التي يمكن أن تقضي بها المراجع المختصة” ما يعني أن المشترع وفقا لقرار مجلس شورى الدولة “قسم الإجراءات  العقابية التي يمكن اتّخاذها بحقّ الموظف المخالف – وبالتالي الوزير- بين غرامة مالية يعود لديوان المحاسبة فرضها وعقوبات مدنية أو جزائيّة أو مسلكيّة تفرضها المراجع المختصة الأخرى، كلا في ما خصّه وما تسمح به النصوص القانونية ذات الصلة، هذا إضافة إلى العقوبات التي يمكن أن يفرضها المجلس الأعلى بناء على اتّهام المجلس النيابي، الأمر المتوافق مع مدى صلاحية ديوان المحاسبة بوصفه محكمة مالية التي تقتصر صلاحياتها على مراقبة استعمال الأموال العمومية ومحاكمة المسؤولين عن مخالفة القوانين والأنظمة المتعلقة بها، ولا تتناول الملاحقة المسلكية أو الجزائية أو المدنية”.

والحقيقة أن زعم الوزير الصفدي يثير مسألة دستورية بالغة الأهمية أشار إليها مجلس شورى الدولة في قراره من دون أن يتوسع فيها. فالمادة 70 معطوفة على المادة 71 من الدستور لا تنص فقط على محاكمة أعضاء الحكومة أمام المجلس الأعلى في حال اتهامهم من قبل مجلس النواب لكنها تضيف التالي: “ويحدد قانون خاصّ شروط مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء الحقوقية”· والمقصود بالمسؤولية الحقوقية هي المسؤولية المدنية (responsabilité civile) أي ضرورة تحمّل الوزير ماديا وزر الأخطاء التي يرتكبها في معرض ممارسته لمهامه والتي ينتج عنها ضررا يلحق بالدولة أو بالأفراد[1].

والمسؤولية المدنية تتمظهر في شكلين: مسؤولية الوزير تجاه الدولة ومسؤوليته تجاه الأفراد. فالخطأ الذي يرتكبه الوزير يجب أن يسمح للمتضرر سواء كان الدولة أو أي فرد عادي بالحصول على التعويض المناسب، أي ان الوزير ملزم بالدفع من ماله الخاص جبرا للضرر الذي قد يكون قد ألحقه.

لذلك، عندما ينص الدستور على تحديد المسؤولية المدنية للوزراء بقانون خاص في المادة نفسها التي تتناول مسؤولية هؤلاء الجزائية، فهو في الواقع يستثني هذه المسؤولية المدنية من الإجراءات الخاصة التي لحظها من أجل محكمة الوزراء أمام المجلس الأعلى، أي أنه يستثني مسؤولية الوزراء المدنية من الحصانة. لكن هذا القانون الذي ورد في المادة 70 من الدستور لم يصدر حتى اليوم، وهذا ما تنبه اليه مجلس شورى الدولة ما يعني وفقا لما جاء في قرار هذا الأخير انتفاء “وجود أي نص خاص يمنع محاكمة رئيس مجلس الوزراء والوزراء أمام القضاء المالي المختص”. وعليه، قرّر مجلس شورى الدولة رد طلب النقض المقدّم من الوزير الصفدي واضعا حدّا لحصانة جديدة أريد لها أن تُضاف إلى الحصانات العديدة التي تتذرّع بها دائما السبطة السياسيّة من أجل الإفلات من العقاب وتأبيد سيطرتها على المجتمع ومؤسسات الدولة من دون حسيب أو رقيب.

 وعلى الرغم من أن التعليل القانوني لمجلس شورى الدولة لا تشوبه شائبة في هذه النقطة، لكن بإمكاننا تحصين ما ذهب اليه من خلال التذكير بمشروع القانون الذي أحالته حكومة الرئيس عبدالله اليافي في 25 أيار 1963 إلى المجلس النيابي والمتعلق “بأصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى المنصوص عليه فـي المادة 80 من الدستور”. فقد اعتبرتْ الحكومة في الأسباب الموجبة لهذا القانون الذي لم يبصرْ النور حينها التالي: “أما فيما خصّ المسؤولية المدنية التي قد تترتّب على الوزراء والتي أشارت إليها المادة 70 من الدستور، فإنّ ما ورد في المادة 112 من قانون المحاسبة العمومية والمادة 56 من قانون ديوان المحاسبة بشأن مسؤولية الوزراء على أموالهم الخاصّة عن كل نفقة يعقدونها متجاوزين الاعتمادات، وعن كل خطأ في إدارة الأموال العمومية، أو تدخل دون الصفة القانونية، يبدو كافيا، ولا سيما أن ما نصت عليه هاتان المادتان هو أبعد ما ذهبت إليه التشريعات الحديثة”.

وهكذا يظهر جليا أن السلطة السياسية نفسها أقرّت في سنة 1963 بأن ديوان المحاسبة يحقّ له فرض الغرامات الماديّة على الوزراء الذين لا يستفيدون من حصانتهم بالمسائل الجزائية للتنصّل من تحمّل مسؤولياتهم المدنية. لا بل أكثر من ذلك، تذكر الأسباب الموجبة المادة 56[2] من قانون تنظيم ديوان المحاسبة القديم (مرسوم اشتراعي رقم 118 تاريخ 12 حزيران 1959) التي كانت تنص على التالي: ” تشمل الرقابة على الموظفين أعمال كل من يقوم بإدارة الأموال العمومية وكلّ من يتدخّل فيها دون أن تكون له الصفة القانونية يعتبر في حكم الموظف، في تطبيق أحكام هذه الرقابة، كل شخص عهد إليه تولي إدارة الأموال العمومية سواء أكان ذلك بالتعيين أو الانتخاب او بالتعاقد” أي أن الحكومة نفسها وافقت بشكل لا يقبل أيّ تأويل تطبيق أحكام هذه المادة التي تتكلم عن الموظّفين ومن يدخل في حكمهم على الوزراء دون أيّ تذرّع بوجود حصانة ما. فعملا بهذا التفسير، تحلّ الموادّ المذكورة أعلاه في قانون المحاسبة العمومية وقانون تنظيم ديوان المحاسبة محلّ القانون الخاصّ المنصوص عليه في المادة 70 من الدستور حول مسؤولية الوزراء المدنية. يبقى أن ذلك لا يجب أن يبرّر عدم صدور حتى اليوم هكذا قانون يحدّد بشكل واضح أيضا حقّ الأفراد والهيئات غير الحكومية بالتعويض المادي ويحصّن أكثر حقوق الدولة في استرداد حقوقها عن الضرر الناجم عن عمل الوزراء، سواء فيما بتصل برفع قيمة الغرامات أو بكيفية إصدار سندات تحصيل للأموال المهدورة.

وقد أثير هذا الموضوع خلال الجمهورية الثالثة في فرنسا (1875-1940) إذ لم يكن يوجد نص واضح يحدد الجهة المخولة بمحاكمة الوزراء عندما يتعلق الأمر بمسؤوليتهم المدنية على الرغم من أن قوانين الموازنة اعتبارا من 1921 باتت تنص دائما على تحميل مسؤولية شخصية للوزراء الذين يعقدون نفقات تتجاوز الاعتمادات المسموح بها أو تخالف القانون. وقد برز رأي يعتبر أن المجلس الأعلى مخوّل تحديد مسؤوليّة الوزير المدنية. وقد رفض العلامة “ليون دوغي” هذا الأمر معتبرا أنه قطعا لا يمكن قبول اختصاص المجلس الأعلى كونه محكمة استثنائية، وأنه عملا بمبدأ عام للقانون لا يمكن إقامة الدعوى المدنية أمام محاكمة جزائية استثنائية[3]

بقي أن نذكر أن ديوان المحاسبة سجل مؤخّرا رقما قياسيا في التقرير الصادر عنه في تاريخ 28 آذار 2023 حيث أشار إلى مسؤوليات ستة وزراء تعاقبوا على وزارة الاتصالات بين 2012 حتى اليوم. 


[1] “La responsabilité des ministres peut encore être civile, c’est-à- dire pécuniaire. Elle suppose toujours un acte illicite, illégal, accompli par eux” (A. Esmein, Eléments de droit constitutionnel français et comparé, Tome 2, 1921, p. 265).

[2] والتي أصبحت المادة 60 المعدلة اليوم في القانون المعمول به حاليا.

[3] « Mais pourrait-elle (l’action civile) être portée devant le sénat, haute cour de justice? Assurément non, en vertu du principe général de notre droit, d’après lequel les tribunaux répressifs d’exception ne peuvent jamais statuer sur les poursuites à fins civiles » (Léon Duguit, Traité de droit constitutionnel, Tome 4,  p.875).

يمكنكم هنا الاطلاع على قرار مجلس القضايا لدى مجلس شورى الدولة كاملاً

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مؤسسات عامة ، قرارات إدارية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني