في تاريخ 14/07/2021، أصدر مجلس شورى الدولة (الغرفة الثانية) قراراً بردّ الطعن بمرسوم إشْغال الأملاك البحرية في منطقة الناعمة. وكانت جمعيّتان تُعنيان بالبيئة (الخطّ الأخضر ونحنُ) طعنتا في تاريخ 10/9/2018 بالمرسوم الصادر في تاريخ 06/06/2018 والذي يتضمّن التّرخيص لشركة تجارية (يمثّلها جهاد العرب) بإشْغال مساحة شاسعة من الأملاك العامة البحرية في هذه المنطقة. وفي حين بنَتْ هاتان الجمعيتان الطّعن على مجموعةٍ من المخالفات القانونية الجسيمة، فإنّ المجلس (الغرفة الثانيّة) عمد إلى ردّه بحجّة أنّه ليس للجمعيّات البيئيّة أيّ صفة أو مصلحة مباشرة في تقديمه، من دون أن يتكبّد عناء النظر في المخالفات المُدلى بها. وبنتيجة ذلك، انتهى المجلس إلى تحصين هذا المرسوم والمراسيم المشابهة له ضدّ الرقابة القضائيّة بعدما جرّد الجمعيات البيئية، ومن باب أوْلى، المواطنين، من صفة الطعن فيها وصولاً إلى تجريد ذاته من سلطته ودوره في حماية الأملاك العامّة. وفي حين ينسجم هذا القرار مع منحى[1] اتّخذه المجلس في قضايا مماثلة، إلّا إنّه من المُلفت أنّه صدر بالأكثريّة (المكوّنة من رئيس الغرفة الرئيس طلال بيضون والمستشار فيها سميح مداح) بعدما سجّلت المُستشارة المُقرّرة لمى ياغي رأياً مخالفاً بل معاكساً تماماً لوجهته. ويأتي هذا الرأي المخالف بمثابة بارقة يُؤمل منها أنْ تُمهّد لتغيّر في اجتهاد المجلس، وبخاصّة أنّه صدر عن قاضيّة تنتمي إلى جيل القضاة الشباب في مواجهة قضاة من الرعيل القديم في المجلس وقارب بعضهم سنّ التقاعد. هذا ما سنحاول الإحاطة به في هذه المقالة.
مرسوم النّاعمة، شاهد بليغ على قسمة الغنائم
أوّل المحذّرين من مرسوم الناعمة كان نقيب المهندسين السّابق جاد تابت الذي أعلن[2] أنّ الحكومة تتهيأ لإصدار مراسيم إشْغال أملاك بحرية في مناطق عدّة خلافاً لرأي المجلس الأعلى للتنظيم المدني وبصورة مخالفة للقانون. وبالفعل، لم تنقضِ أيام حتى وافقت الحكومة في الجلسة المنعقدة في 16/05/2018 على مضمون مرسومين، هما مرسوم الناعمة (رقم 3247) ومرسوم آخر (رقم 3248) بالتّرخيص بإشْغال أملاك عامة بحريّة في منطقة ذوق مصبح العقاريّة (وسنسمّيه أدناه مرسوم الذوق). وأكثر ما يلفت عند التدقيق في هذيْن المرسوميْن هو التقارب الكبير في مضمونهما. فبالإضافة إلى التّقارب في المساحات التي يرخّصان بإشْغالِها (71234 متراً مربعاً بالنسبة إلى مرسوم الناعمة و67677 متراً مربعاً بالنسبة إلى مرسوم الذّوق)، شمل الترخيص إقامَة الإنشاءات نفسها في كلا المنطقتين وهي: “مسطّح مائيّ محصور بالإضافة إلى إنشاءات من أجل إقامة تجهيزات رياضية وسياحية ومطعم ونادٍ صحيّ وجسر فوق سطح المياه وحدائق ومرفأ خاصّ للمراكب السياحيّة ورصيف صيانة للمراكب dry dock”. ويجد إصرار الحكومة على إصدار هذيْن المرسوميْن بالتزامن وبالشروط نفسها تقريباً وخلافاً لرأي التّنظيم المدنيّ تفسيره حين نعلم قرب الأشخاص المستفيدين منهما من قطبيْن أساسييْن في الحكومة آنذاك، بما يظهّر حصول عملية محاصصة واضحة بينهما. ففي حين منح مرسوم الناعمة الترخيص لشركة الهبة العقارية التي يتضح أنّ جهاد العرب (المقرّب جداً من تيار المستقبل) أحد أبرز المساهمين فيها ومفوّض التوقيع عنها، منح مرسوم الذوق الترخيص لشركة دريم باي ذي سي ش.م.ل (Dream by the sea S.A.L.) التي يتضح أن داني خوري (المقرب جدا من التيار الوطني الحر) هو المفوض بالتوقيع عنها والحائز على الأغلبية الكبرى من أسهمها (89% من عدد الأسهم).
ويتعزّز مظهر المحاصصة الغنائمية في هذين المرسوميْن من خلال اشتراكهما في المخالفات نفسها للقانون وفق ما ورد في الطعنيْن المقدّميْن لإبطالِهما. ومن أبرز هذه المخالفات الآتية:
- تجاوز المدّة الأقصى للتّرخيص بإشْغال الأملاك العامة حيث حُدّدت مدة الترخيص بثلاث سنوات (مرسوم الناعمة) أو بسنة تجدّد تلقائيّاً حتى ثلاث سنوات (مرسوم الذوق) في حين أنّ المدّة القصوى للترخيص الجائزة قانوناً هي سنة واحدة وفق ما تنص عليه صراحة المادة 17 من القرار رقم 144/س تاريخ 10/6/1925.
- منْح وزير الأشغال العامة صلاحيّات واسعة منها صلاحيّة تعديل الإنشاءات المرخّص بها أو زيادتها، وذلك على نحو يشكّل إخلالاً بالمادة 16 من القرار رقم 144/س الذي يفرض صدور أي ترخيص من هذا النوع بمرسوم جمهوري يوقعه رئيسا الجمهورية والحكومة.
- تقييد صلاحية الإدارة في إلغاء التّرخيص بالإشْغال وتحديداً في حال ثبوت خطأ مرتكب من الوزارة أو القوّة القاهرة وذلك خلافاً لمبدأ الهشاشة أو عدم استقرار الأوضاع المكرّس في المادة 18 من القرار 144/س.
- الإخلال بمبدأ تواصل الشاطئ ووحدته وذلك خلافاً للمادة 11 من القانون رقم 64 تاريخ 20/10/2017 الذي يفرض تأمين تواصل الشاطئ للعموم.
- منح حق حصريّ باستخدام الأملاك العامّة في غياب أي مبرّرات سياحية أو صناعية تثبتها إفادات صادرة عن الدوائر المختصّة (وفي مقدمتها المجلس الأعلى للتنظيم المدني) وفق المرسوم 4810/1966، علماً أنّ هذا الأخير رفض إعطاء إفادة من هذا النوع، مشدّداً على رفضه الكلّي لإنشاء نادٍ لليخوت. وعليه، تكون الحكومة قد تجاوزت بموافقتها على هذا الترخيص، رفضاً ملزماً من قبل المجلس الأعلى للتنظيم المدني لها.
- السماح بإقامة إنشاءات دائمة على الأملاك البحرية بما يتعارض مبدئياً مع المادة 1 من المرسوم 4810/1966 وبخاصّة أنّه ليس هنالك ما يوجب إقامتها على مقربة من الشاطئ (مطعم ونادٍ رياضي..).
هذا بالإضافة إلى صدور المرسومين من دون تعليل ومن دون ذكر للأسباب الموجبة خلافاً لقانون الحق في الوصول إلى المعلومات.
إجراءات الطعن
بالنظر إلى المخالفات البديهية التي تضمّنها المرسومان وتأثيراتهما المباشرة على الشاطئ (ترميم مساحات، إقامة منشآت منها مرفأ وسنسول، …)، تضمّن الطعن بهما طلب وقف تنفيذهما فوراً وقبل الانتهاء من إجراءات المحاكمة، على اعتبار أنّ تنفيذهما قد يؤدّي إلى تغيير المعالم البيئيّة بشكل كامل.
وهنا جاء الإجراء الأوّل المخيّب للآمال. فقد أصدر مجلس شورى الدولة قراريْن بردّ طلبيْ وقف تنفيذ المرسوميْن المطعون بهما وذلك في تاريخي 01/10/2018 (الذوق) و13/11/2018 (الناعمة). وقد بنى المجلس قراريْه على دفاع أولّي قدّمته هيئة القضايا جاء فيه ضرورة ردّ طلب وقف التنفيذ باعتبار أنّ الجمعيتين لم تحدّدا طبيعة الضرر الذي من شأنه أن يلحق بهما نتيجة تنفيذ المرسومين المطعون بهما. وتبعاً لقرار رفض وقف التنفيذ، تقدّمتْ الأعمال في كلا المنطقتين على نحو أدّى إلى فرض تغييرات واقعيّة فيهما.
تبعاً لذلك، وفي حين بقيَ ملف مرسوم الذّوق في الأدراج لمدّة تفوق السنتيْن بفعل تأخّر المستشار المقرّر في هذه الدعوى عن وضع تقريره، تقدّمت إجراءات المراجعة المتعلّقة بمرسوم النّاعمة حيث صدر تقرير المستشارة المقرّرة لمى ياغي في تاريخ 12/02/2020 ليصدر من ثمّ قرار المجلس بالأكثرية في تاريخ 14/07/2021.
وقبل المضي في تفنيد هاتين الوثيقتين الهامّتين، تجدر الإشارة إلى أنّ شركة الهبة العقاريّة ركّزت في دفاعها على مسألة انتفاء الصفة والمصلحة لدى الجهة المستدعية طالبة ردّ الطعن شكلاً من دون البحث في أساس الدعوى. كما أضافتْ إلى ذلك حججاً جاز وصف الكثير منها بالعبثية، كأنْ تبرّر المخالفة الجسيمة بمنح الترخيص لمدة ثلاث سنوات بأنّ القانون أجاز تجديدها بـ “[3] الرضى الضمني” أو كأنْ تبرّر وضع شروط على الدولة لإلغاء الترخيص بأنه يأتي من ضمن تطبيق القواعد العامة الهادفة إلى تحقيق المصلحة العامة.
تقرير ملفت يوسّع حق الجمعيات البيئية في الدفاع عن الأملاك البحرية
بعد فترة من تبادل اللوائح بين الجهة المدّعية والشركة المستفيدة من المرسوم، أصدرتْ المُستشارة المقرّرة لمى ياغي تقريرها في المراجعة المقدّمة ضدّ مرسوم الناعمة. وقد جاء بمثابة نقلة نوعيّة في عمل مجلس شورى الدولة في قضايا إشْغال الأملاك البحرية وبشكل أعم في القضايا البيئية. وقد تمّ ذلك بعدما أعلنتْ ياغي أنّ لدى إحدى الجمعيتين مصلحة أكيدة للتقدّم بالدعوى، لتنتقل من ثمّ إلى إثبات بعض المخالفات المُثارة في الطعن تمهيداً لإعلان وجوب إبطال المرسوم برمّته. وعليه، شكّل هذا التقرير عملاً قضائيّاً مميّزاً سواء لجهة الحجج التي بُنيِ عليها لقبول صفة المداعاة أو أيضاً لجهة الدعوة إلى إبطال مرسوم إشْغال أملاك بحرية. هذا ما سنعمل في ما يلي على تفصيله بالنظر إلى أهميّته.
- التوسّع في صفة الجمعيات البيئية
في هذا الصدد، بنَت القاضية ياغي تعليلها لقبول صفة الجمعيّات البيئية على اعتبارات ثلاثة:
الأوّل، إنّ الشخصيّة المعنويّة تُمنح لكلّ تجمّع يبغي تحقيق أهداف مُوحّدة يحميها القانون وأنّ الحقّ في التقاضي هو حكماً إحدى نتائج اكتساب هذه الشخصية،
الثاني، أنّ الاجتهاد الفرنسي استقرّ على أنّه يعود للقاضي الإداري تقدير مصلحة الجمعيات لتقديم مراجعاتها بالنظر إلى الأهداف التي حدّدتها والتي عملت على تحقيقها خلال الفترة التي سبقتْ صدُور القرار الضارّ وسبقت تالياً تاريخ تقديم الطعن وذلك عملاً بمبدأ التخصّص الذي يفرض أن يحصر كلّ تجمّع نشاطه بهدف محدّد. فلا يمكن للجمعية وفق القاضية ياغي أن يكون لها الوجود المطلق الذي يتمتّع به الشخص الطبيعي،
الثالث، على ضوء ما سبق، عمدتْ القاضية ياغي إلى تقييم مصلحة الجمعيّتين المدّعيتين في تقديم الطّعن المذكور على ضوء أهدافِهما. وفي حين استبعدتْ أن تكون إحداهما متخصّصة في قضايا البيئة بحجّة أنّ موضوعها واسع جداً، قبلت صفة الأخرى، بعدما سجّلتْ أنّ موضوعها يتمثّل في “المحافظة على البيئة وحمايتها وطرح المخاطر البيئية وتعميم الوعي البيئي”. وقد علّلت ياغي ذلك بأنّه في حال ثبوت إدْلاءات الجهة المستدعيّة، فإنّ من شأن المرسوم المطعون فيه أن يؤثّر على الشاطئ والبيئة المحيطة وأن يخالف تالياً أحكام قانون البيئة. وإذ خلصت إلى ذلك، رأت أنّ الطعن يصبح بالنتيجة منسجماً ومُتوافقاً مع الهدف المحدّد المعالم الذي أُسّست هذه الجمعيّة لأجل تحقيقه.
وبذلك، بدا واضحاً أنّ القاضية ياغي رأت أنّ المعيار الوحيد لقبول صفة الجمعية في تقديم الدعوى هو أن يندرج الطعن في القرار الإداري ضمن دفاعها عن أهدافها. ومن هذه الزاوية، شكّل موقفها تطوّراً ملحوظاً بالنسبة إلى قرارات سابقة صدرتْ عن مجلس شورى الدولة في قضايا الأملاك العامة، وهي القرارات التي كانت “المفكرة القانونية” قد انتقدتْها مراراً، وبشكل خاص في مقالتها المنشورة في عددها الخاصّ[3] عن القضاء الإداري تحت عنوان: “وتستمر معركة الصفة والمصلحة أمام مجلس شورى الدولة: مخاوف من تجريد الدولة من آخر المدافعين عنها”.
- مخالفات بديهية من شأنها إبطال المرسوم
ما أنْ أكّدت القاضية ياغي صفة إحدى الجمعيّتيْن، حتّى خلصتْ بسرعة إلى القول بأنّ المرسوم مشوبٌ بمُخالفة بديهيّة للقانون. لم تشَأ القاضيّة ياغي في المقابل الغوص في جميع المُخالفات عملاً بقاعدة الاقتصاد في الأسباب التي تفيد أنّه بوجود سبب قانوني واحد لإبطال القرار المطعون فيه، تنتفي الحالة لمعالجة سائر أسباب الإبطال. وعليه، أشار تقريرها إلى مخالفتيْن فقط:
الأولى، هي تجاوز مدة الإشغال المرخّص به مدّة السنة خلافاً لقرار 144/س. وهنا ذكّر التّقرير بأنّ منح الإدارة (المرسوم) ترخيصاً يتجاوز هذه المدة إنّما يتعارض مع نصّ قانونيّ صريح ممّا يوجب إبطاله. ولم تكتفِ ياغي هنا ببداهة النص، إنّما ذهبتْ إلى تدعيم موقفها من خلال تفسير فلسفة وضع حدّ أقصى للترخيص وهو تخويل الإدارة تأمين أفضل استعمال واستثمار ممكن للملك العامّ من دون أن تكون مقيّدة بأيّ مهلة زمنية طويلة (أكثر من سنة). وقد أضاف التقرير إلى ذلك أنّه بمنح الترخيص لثلاث سنوات، تكون الإدارة “قد حوّلت الحرية التي منحها إياها القانون والتي يبرّرها في هذه الحالة موجب العمل على تأمين دوام الاستعمال والاستثمار الأفضل للملك العام، إلى صلاحية مقيّدة زمنياً من شأنها أن تحرم الإدارة من الحق في تقدير الفوائد الاقتصادية البيئية والإنمائية والموازنة ما بين المعطيات كافة قبل اتخاذها قرار تجديد الترخيص أكان هذا القرار صريحاً أم ضمنياً، الأمر الذي من شأنه أن يشكّل مخالفة للقانون وأن يؤدّي إلى إبطال المرسوم المطعون فيه نتيجة لذلك”.
أمّا السبب الثاني للإبطال فقد أثارته القاضية ياغي من تلقاء نفسها، ويتّصل بتضمين المرسوم ترخيصاً بردم مساحات من الأملاك العامة البحرية. وقد رأت ياغي أنّ أعمال الردم تعتبر من الأشغال العامة وأنّه يتمّ تنفيذ هذه الأشغال عادةً نتيجة عقود إدارية كعُقود امتياز الأشغال العامة وأنّ القانون يُوجِب مراعاة أصول وآليات معيّنة عند تقرير اللجوء إلى التعاقد. كما أشار التقرير إلى أنّه لا يتبيّن من المرسوم أنّه تمّت مراعاة هذه الأصول وفقاً لما يقتضيه القانون أو أنّ الإدارة وضعتْ أيّ مواصفات أو شروط لتنفيذ هذه الأشغال.
ولم تَنْسَ القاضية ياغي أن تُضمِّن تقريرها فهمها لدور القضاء الإداري بصفته مؤْتمناً على حماية الأملاك العامّة، والذي يقوم على “اعتناق التشدّد في تطبيق وتفسير النصوص والقواعد التي ترعى أصول التصرف بهذه الأملاك”. ومن البيّن أنّ ياغي بدتْ من خلال ذلك وكأنّها تدعو أكثريّة الهيئة الحاكمة إلى الاستجابة لما خلصتْ إليه انْطلاقاً ممّا يجب أن يكون دورُها. ويكتسي هذا التّذكير أهميّة خاصّة في ظلّ الظروف الحاضرة وبخاصّة في ظلّ طروحات[4] التخلّي عن أملاك الدولة لتعويض خسائر القطاع المصرفي في موازاة إعفاء من تسبّب بها من أيّ مسؤوليّة ملحوظة فيها.
لا انعطافة حقوقيّة بل مجرّد رأيٍ مخالف
في حين شكّل تقرير ياغي بارقة أمل في حصول انعطافة حقوقيّة في مسألة صفة الجمعيّات ومصلحتها للطّعن في القرارات الإداريّة، سارع قضاة المجلس المعنيّون في هذه القضية إلى رفض مضمونه والالتفاف عليه وصولاً إلى ردّ الدّعوى شكلاً لانتفاء الصّفة من دون إيلاء أيّ اهتمام للمخالفات الجسيمة (وغالبها بديهية) التي شابتْ المرسوميْن المطعون فيهما. والملفت أنّ هذا الرّفض لتوسيع صفة الجمعيات البيئية بالطعن في القرارات الإداريّة حصل بصورة حادّة وعلى نحو يعكس مواجهة فاقعة بين نهجيْن متناقضيْن تفصلهما هوّة عميقة ليس بينهما أيّ مجال للتلاقي أو تبادل وجهات النظر أو حلّ وسط حول دور مجلس شورى الدولة ومدى صلاحيّته في مراقبة شرعيّة القرارات الإداريّة وبخاصة في قضايا البيئة والأملاك العامّة.
- مطالعة مفوّض الحكومة: حق ملكية الدولة مطلق
تمثّلت أوّل تجلّيات هذه الحدّة في مطالعة معاون مفوّض الحكومة القاضي فؤاد نون. فلمْ يكتفِ هذا الأخير باستبعاد صفة الجمعيّة للطّعن في المرسوم لأسباب تقنيّة، بل ذهب أبعد من ذلك في اتّجاه افتراض سوء النية لدى كلّ من يطعن بمراسيم مشابهة في موازاة تنزيه المشاريع التي ترخّصها الإدارة عن أي شبهة سوء إدارة أو فساد أو مخالفة للقانون. وهذا ما نستشفّه من مطالعته حيث جاء حرفياً: “أنّ قبول صفتها (أي المستدعية) بناء على التقرير يجعل من مراجعة الإبطال مراجعة شعبية لكلّ من لا تساوره نفسه بإنشاء مشاريع خاصّة قد تأتي بالخيرات إلى الوطن وتساهم في ازدهاره”. فبِخلاف الفقه الإداري[5] الذي يرى أنّ من شأن توسيع الصّفة أن يشرك الجمعيّات (والمواطنين) في مراقبة شرعيّة القرارات وتالياً حماية النظام القانوني، لا يرى نون في ذلك سوى باباً سينفُذ منه سيّئو النيّة لتَعطيل المشاريع الخاصّة التي ترخّص بها الإدارة لتحقيق الخير العامّ والازدهار. فكأنّما ثمة قرينة أنّ كل من يدّعي ضدّ الإدارة على خلفية ترخيصها بإقامة مشاريع خاصّة سيّئ النية وأنّ أيّ متعهّد ترخص له الإدارة يأتي بالمقابل بالخيرات إلى الوطن ويساهم في ازدهاره.
لا بل أنّ نون ذهب أبعد من ذلك في اتّجاه تقويض ما تضمّنه تقرير المستشارة المقرّرة لجهة دور مجلس شورى الدولة في تفسير وتطبيق القوانين على النحو الذي يمكّنه من ممارسة حماية فعلية للأملاك العامة للدولة التي يؤتمن، وفق ياغي، عليها. وهذا ما نستشفه من حيثية أخرى لا تقلّ حدّة جاء فيها حرفياً: “أنّ التقرير لم يأخذ بعين الاعتبار أنّ مراسيم الإشْغال تتعلق بملك الدولة وأنّ الدولة لها الصفة وحدها للدفاع عن ملكها ولها حق التصرف ضمن ما نصت عليه القوانين والأنظمة.. وأن حق ملكية الدولة كسائر حقوق الملكية هو مطلق ولا يعود للأفراد أو للجماعات المنظمة مناقشة كيفية التصرّف بحقها أو إسداء الأوامر لها”. ومؤدّى هذه الحيثية هو منح الإدارة سلطة مطلقة بالتصرّف بحق ملكيتها الذي وصفه نون أنّه مطلق وتالياً تحصين أيّ قرار إداريّ يصدر في هذا الخصوص، في موازاة تجريد القضاء الإداري من أيّ اختصاص في مراقبة شرعية القرارات المتّصلة بالأملاك العامة بما ينفي ما جاء في التقرير من ائتمان المجلس لحماية هذه الأملاك. ولا يغيّر من ذلك قوله إنّ للدولة وحدها الصفة للدفاع عن ملكها، طالما أنّه لا يتصوّر أن ترفع الحكومة دعوى أمام مجلس شورى الدولة لإبطال قرارات صادرة عنها.
وما يزيد من قابلية هذه المطالعة للانتقاد هي مجموعة من المغالطات والتناقضات الواردة فيها. فهي من جهة اعتبرتْ حق الملكية مطلقاً في حين أنّه ليس كذلك بل يمارس وفق الإطار الذي يحدّده القانون سواء كان خاصاً أو عاماً. وهي من جهة ثانية خلطت بين مفهوم الدولة (صاحبة الأملاك العامة) والإدارة التي تشكل ذراعاً تنفيذياً للدولة، وهي ذراع تخضع أعمالها بالضرورة لرقابة القضاء الذي هو جزء من الدولة. والأهمّ، أنّه يصرّح من جهة أنّ للدولة أن تتصرّف بأملاكها الخاصة وفق القانون ليسارع إلى إغلاق الباب أمام أيّ طعن بقرار إداريّ على خلفية أنّه أعطى ترخيصاً بإشغال ملك عام خلافاً لأكثر من قانون. وقد بلغ التّناقض أقصاه حين اعتبر أنّ المشروع المرخّص به (الذي يشمل إقامة إنشاءات على الشاطئ وردم البحر وحصر استعمال الشاطئ بجهة واحدة بما يحدّ من استمرارية الشاطئ) يخرج بأيّ حال عن غاية الجمعية المستدعية التي هي تنظيم البيئة وطرح المخاطر وتعميم الوعي البيئي.
وبذلك، بدتْ المُطالعة وكأنّها تعلن بوضوح كلّي ومن دون مواربة انحياز مفوّض الحكومة لدى مجلس شورى الدولة لتوجّه هذا المجلس والذي عبر عنه مراراً بالتخلّي عن مسؤوليّاته في حماية الملك العام. والملفت أنّ هذه المطالعة حرّرت في تاريخ 20 شباط 2020 أي بعد بروز معالم الانهيار المالي والاقتصادي والمصرفي نتيجة سوء إدارة الشأن العام، بما يظهر بوضوح الهوّة بين هذه المطالعة والواقع.
القرار والمخالفة والهوّة بين أعضاء الهيئة الحاكمة
تمثّل ثاني تجليّات الانقسام الحادّ بين قضاة المجلس، في مضمون القرار الصادر عن أكثرية الهيئة الحاكمة والرأي المخالف الذي أصدرتْه ياغي في هذا الخصوص. فعدا عن أنّ تحرير رأي مخالف يبقى أمراً نادراً واستثنائيّاً في غرف مجلس شورى الدولة، فإنّ النظر في مواضع الاختلاف وكيفية التعبير عنه في كلا الوثيقتين يظهر الهوّة في مواقف وتصوّرات هؤلاء، وهي هوّة شاسعة لدرجة جعلت من شبه المستحيل على قضاة الهيئة أن يتفاوضوا أو يديروا خلافاتهم بشكل بنّاء ولو على صعيد إجراءات المحكمة.
ففي حين أعلن التقرير أنّ للجمعية البيئية صفة الطعن بالمرسوم على خلفية مخالفته قواعد تنظيمية ذات طابع بيئي، قفزت الأكثريّة إلى تنزيه المرسوم من المخالفات المعزوة إليه في مراجعة الطعن من دون أي تعليل. فهي لم تعِرْ مسألة استمرارية الشاطئ أو مسألة استثنائية التراخيص بإشغال الشاطئ العام على سبيل مانع للغير أو مسألة مخالفة قرارات المجلس الأعلى للتنظيم المدني أو مسألة ردم البحر أو مسألة إعطاء تراخِيص بإشْغال الأملاك البحرية مدة أطول من المدّة التي يسمح بها القانون أيّ اعتبار، معتبرةًً إياها كلّها مسائل لا تتّصل بحماية البيئة من دون أيّ تعليل. وما يزيد تجاهل كلّ هذه الاعتبارات سوءاً هو تبريرها لهذا التّجاهل بمستند افترضت وجوده ومضمونه من دون أن تطّلع عليه ومن دون أن تكلّف أيّ جهة بإبرازهِ وهو دراسة الأثر البيئي. فقد جاء حرفياً في القرار أنّ “هكذا إشْغال غير جائز التنفيذ قانوناً إلّا إذا ثبت للإدارة المختصة بالموافقة على هذا التنفيذ أنّ تقييم الأثر البيئي له هو تقييم إيجابي إذ ينتفي إمكان هذا التنفيذ في حال كان سلبياً”. وبذلك تكون الأكثرية قد حجبتْ كلّ الادّعاءات الموجبة لإبطال المرسوم بمجرّد افتراض لم تتكبّد حتى عناء التثبّت من صحته. وهو افتراض لا يصمد أمام أيّ تدقيق جدّي: إذ أنّ وجود دراسة أثر بيئي لا يعني أبداً أنّه ليس للمشروع أي أثر سلبي طالما أنّ أحد الأهداف الرئيسية لوضع دراسات كهذه هو انتزاع تعهدات من الجهة المستثمرة بالتخفيف من الآثار السلبية أو تعويضها. هذا فضلاً عن أنّ هذه الدراسة لا تبرّئ أحداً من واجب احترام مجمل الأحكام القانونية الأخرى لأي جهة كانت وأنّها أصلاً تأتي في سياق تنفيذ المرسوم من دون أن يكون لها أي أثر إيجابي أو سلبي على مدى قانونيته وهي مسألة يحدّدها مدى التزام المرسوم بسائر القوانين المعمول بها.
إلّا أنّ أكثر ما يبرز خطورة التوجّه الذي اختارته الأكثرية هو ما نقرأه في مخالفة القاضية ياغي. فبعدما وضعت “أنّ هذا المجلس لم يبادر إلى اتخاذ أي قرار بتكليف المستدعية التقدم بمثل هكذا إثباتات (حصول ضرر بيئي) كما أنّه لم يطلع على مضمون دراسة تقييم الأثر البيئي ولم يكلّف بإبرازها”، ذهبت إلى حدّ اتهام الأكثرية بحرمان “المستدعية من ضمانات المحاكمة العادلة المتمثلة بإمكانية دحض هذه الاستنتاجات التي لم يرد أي ذكر لها في تقرير المستشار المقرّر، بخاصّة وأنّ الترخيص موضوع المراجعة قد تضمن إجازة بردم البحر الذي ينطوي على بدء بينة بقيام تلويث احتماليّ للمياه البحرية المعنية”. وأن تذهب ياغي إلى حدّ اتهام زميليْها في الغرفة بانتهاك مبادئ المحاكمة العادلة في هذا الخصوص إنما يعكس بشكل شديد الوضوح الانقسام الحاد الحاصل داخل الغرفة بما حال دون الوصول إلى أي تفاهم ليس فقط على مضمون القرار أو مسألة الصفة، ولكن أيضاً على إجراءات المحاكمة بما يضمن عدالتها.
وبذلك، تكون المستشارة أوضحت بصورة صريحة أنّ تعليل الغالبية لإنكار الصفة والمصلحة للمستدعية ما كان ليَستقيم لو أنّها راعت شروط المحاكمة العادلة. وهو تصريح ثمين يأتي بمثابة شهادة بليغة من داخل الهيئة الحاكمة بوجود مخالفة جسيمة للأصول الجوهرية، شهادة مكّنت الجهة المستدعية من التقدّم في تاريخ 28/12/2021 بطلب إعادة محاكمة سنداً للمادة 98 من نظام مجلس شورى الدولة وذلك لعدم اتباع الأصول الجوهرية في التحقيق والحكم. ولا يزال هذا الطلب عالقاً أمامه.
ولعلّ أفضل طريقة نختم بها هذه المقالة هي الإشارة إلى اختلاف آخر بين القضاة المعنيين في هذا الملف، وهو اختلاف في الدرجات والأقدمية. ففي حين عيّنت القاضية لمى ياغي في ملاك مجلس شورى الدولة (في أيلول 2017)، عُيّن القضاة الثلاثة الآخرون وهم طلال بيضون وسميح مدّاح وفؤاد نون في ملاك مجلس شورى الدولة في سنة 1991 وبعضهم ناهز سنّ التقاعد. أمام هذا التباين، وأمام عدد من التقارير الهامة الصادرة مؤخراً في قضايا بيئية عن قضاة آخرين في المجلس من جيل الشباب[6]، نذكر منهم المستشارة المعاونة باتريسيا فارس (عيّنت في ملاك مجلس شورى الدولة في 2019 بوظيفة مستشار معاون) والمستشارة المعاونة ريان روماني (عيّنت في ملاك مجلس شورى الدولة في 2017 بوظيفة مستشار معاون)، وبانتظار مزيد من قرارات المجلس التي قد تفيدنا حول توجّهات قضاته، يهمّنا أن نطرح هنا فرضية أن نكون أمام اختلاف بين جيلين من القضاة حول أحقية المواطن في الدفاع عن شرعية الدولة وأملاكها وتالياً حول دور المجلس في تحمّل مسؤوليته كاملة في حمايتها من دون أي مجاملة أو انكفاء. فرضية تعني في حال ثبوتها أنّ المجلس سيكون في السنوات المقبلة مدعُوّاً لتحوّلات هامّة. فلنراقب.
[1] وتستمرّ معركة الصّفة والمصلحة أمام مجلس شورى الدولة اللبناني: مخاوف من تجريد الدولة من آخر المدافعين عنها، المُفكرة القانونية، 27/6/2020.
[2] المفكرة تنشر مطالعة بوجوب إبطال مرسومي إشغال الأملاك العامة في الذوق والدامور، المفكرة القانونية، 31/5/2018.
[3] العدد 65 من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |: القضاء الإداري: من يحمي الدولة ومن يدافع عنها؟، المُفكرة القانونية، حزيران 2020.
[4] عماد صائغ، “صناديق سياديّة” لنسف الحاضر والمستقبل، المُفكرة القانونية، 12/10/2021.
[5] فرنسوا بلان، الصفة والمصلحة في القضاء الإداري اللبناني، المفكرة القانونية، 27/6/2020.
[6] نزار صاغية ولارا مداح، اكتساب صفة الدفاع عن الجبال، منشورة في هذا العدد.