لأول مرة في تاريخهما ربما، سيتواجه قيس سعيد ونبيل القروي، المرشّحان للانتخابات الرئاسيّة، في مناظرة تلفزية قبل سويعات من يوم الصمت الانتخابي. مواجهة سيتابعها ملايين المشاهدين بين متسابقيْن نحو منصب الرئاسة، لتكون المشهد الأخير في مواجهة ستحسمها صناديق الاقتراع يوم الأحد 13 أكتوبر 2019، لتفصح بشكل نهائي عن ساكن قرطاج الجديد. هذان الرجلان اللذان شغلا الرأي العام، وأزاحا أسماء عديدة نافستهم في الدورة الأولى من الإنتخابات الرئاسية، يسلكان اتجاها واحدا وينشدان هدفا واحدا، ولكن بقصتيْ صعود مختلفتين وأحزمة انتخابية متناقضة.
بعد التزام الصمت قسرا منذ 23 أوت 2019، في سجن المرناقية غرب العاصمة تونس، خرج نبيل القروي في 09 أكتوبر الجاري ليعدل مسار الدورة الثانية من الإنتخابات الرئاسية التي كادت تنتهي صامتة إثر رفض المرشح الثاني قيس سعيد إطلاق حملة انتخابية منفردة تمسكا بمبدأ تكافؤ الفرص. ليبدأ القروي جولة برقية على ما أتيح من قنوات وإذاعات ومدن في حيز زمني لا يتجاوز 48 ساعة. في المقابل رجل يتحرك ببطء وبعيدا عن الأضواء مستعملا سلاح الصمت وإقلال الظهور اللذين أثبتا أنهما كانا مفتاح نجاحه وصعوده المفاجئ. لا يقتصر التناقض بين الرجلين في أسلوب الدعاية لنفسيهما، أو في الأحزمة الجغرافية والديمغرافية المتباينة التي يتحركان فيها، بل يشمل الاختلاف التام بينهما سيرة الصعود إلى الدرج قبل الأخير من منصة الحكم. حكاية وإن بدت أشبه بفيلم تُكتب فصوله يوما بيوم، وبنهاية مفتوحة على جميع الإحتمالات، إلا أن دلالات الرحلة والكشوفات الإحصائية للرجلين، تعكسان في جزء كبير منهما التناقض الاجتماعي والثقافي والإقتصادي الذي يحكم تونس منذ الاستقلال.
سيناريو الرحلة حتى المشهد قبل الأخير
• من مدرج الجامعة وعالم التسويق؛ تبدأ الرحلة
لم يكن قيس سعيد قبل سنة 2011 معروفا سوى لدى طلبته في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية في تونس، كأستاذ جامعي صارم ومحبوب في آن واحد، بعيد عن الشأن السياسي وصراعاته في ساحات الجامعات التونسية. أما خارج مدرج قاعة المحاضرات، فقد خط مسيرة أكاديمية مشرفة بمشاركته في إعداد مشروع لتعديل ميثاق جامعة الدول العربية بين سنتي 1989 و1990 كعضو فريق خبراء الأمانة العامة لجامعة الدول العربية. ليتقلّد لاحقا منصب الأمين العام للجمعية التونسية للقانون الدستوري بين سنوات 1990 و1995، ومن ثم رئاسة قسم القانون في جامعة سوسة بين سنوات 1994 و1999.
على عكسه تماما، ولج نبيل القروي، الرجل القادم من عالم التسويق والإعلانات دائرة الضوء مبكرّا. فبعد النجاح الذي حققه رفقة شقيقه غازي بتأسيس مجموعة دولية مستقلة من وسائل الإعلام والإعلان تحت إسم “قروي وقروي”، انتقل للخطوة الموالية عبر بعث قناته الخاصّة “نسمة” في تونس منذ سنة 2007. بمحتوى ترفيهي، وبُعد مغاربي، نأى نبيل القروي بنفسه وبقناته عن السياسة عموما، مقدّما فروض الولاء للنظام مرغما بحسب أقواله إلى حدود شتاء 2010 -2011. منذ ذلك التاريخ، تغيرت حياة الرجلين نحو مسارات جديدة في بلد شرّع أبوابه منذ تلك اللحظة لكل شيء وأي شيء.
• رياح الثورة تغيّر المصائر
بعد رحيل بن علي، إستطاع رجل الإعلام والإعلان أن يلتقط ملامح المرحلة المقبلة بعد انهيار منظومة الرقابة الإعلاميّة ونظام البوق الواحد والصوت الأوحد عقب جانفي 2011، ليفهم مبكرا الدور المفصلي لوسائل الإعلام وقدرتها على التأثير في المشهد السياسيّ في مناخ كان فيه الناس متعطشين للمعلومة والآراء. وعيٌ أحسن استغلاله منذ أن بدأت دوّامة العنف نهاية سنة 2012، والتي بلغت أوجها باغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد الإبراهمي تباعاً في 06 فيفري و25 جويلية 2013. فقناة نسمة الترفيهيّة بالأساس، تحوّلت خلال تلك الحقبة إلى أحد أهمّ المنابر السياسيّة المعارضة بعد صعود حركة النهضة الإسلاميّة إلى الحكم. موقع مكّن القروي من توطيد علاقته بالرئيس الحاليّ الباجي قائد السبسي الذي قدّم نفسه حينها ربّان “سفينة نوح” السياسيّة، لتؤدي القناة دوراً حاسما في الدعاية الانتخابيّة لحزب نداء تونس والظفر بالانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة سنة 2014.
خلال نفس تلك الفترة، ظهر قيس سعيّد بعد أشهر من الثورة ليسرق الأضواء من أسطول الخبراء القانونيين الذين احتلوا وسائل الإعلام المختلفة سنة 2011. كان لصوته ذي الطبقة المميزة ولغته العربية الفصيحة وخطابه المنتقى بعناية بالغة مفعول السحر على من استمعوا إلى مداخلته وهم يرون ما لم يألفوه من صراخ وعراك وعبارات ممجوجة ومكرّرة لدى الباقي. انطلقت رحلة أستاذ القانون الدستوري مع الشأن السياسي منذ ذلك التاريخ، ليعود قبيل انتخابات المجلس الوطني التأسيسي خطيبا خلال فعاليات حملة لمقاطعة هذه الانتخابات معتبرا إيّاها التفافا على الثورة و”سطوا على الإرادة الشعبيّة” من قِبل الأحزاب السياسيّة. خلال هذا الخطاب، طرح سعيّد لأول مرة ملامح مشروعه السياسي القائم على إنشاء مجالس محليّة في المعتمديات ومن ثمّ تصعيد الأعضاء المنتخبين إلى المجالس الجهويّة وأخيرا إلى البرلمان. لكن، وسط جلبة الانتخابات، والاستثارة الجماعية لتجربة اقتراع حرّ لم تجربه الناس منذ عقود، ضاع صوته وتلاشى مشروعه. لم يُطل قيس سعيّد الغياب، ليظهر مرات عديدة إبان احتدام صراع الاستقطاب الثنائيّ في السنوات الثلاث اللاحقة، محافظا على موقفه ووفيّا لخطابه حول إفلاس منظومة الأحزاب وعقم آلية الاقتراع الراهنة، داعيا الناخبين مرّة أخرى إلى المقاطعة واستكمال المسار الثوري خارج المنظومة السياسيّة القائمة وآلياتها.
• الخطان المتوازيان
بعد سنة 2014، وعلى قاعدة المصالح الشخصيّة والطموحات الذاتيّة، واصل نبيل القروي الذي تمرس في حروب الإعلام، توظيف قناته لتحسين موقعه السياسي داخل حزب نداء تونس، إلحاقه بالهيئة التأسيسيّة للحزب في مارس 2015. لم يحُدّ من طموحات الرجل التي ظلت تتعاظم لينخرط بكل ثقله مسخرا قناته وطاقمه الإعلاميّ في حروب كسر العظام بين مختلف أجنحة الحزب، منحازا إلى معسكر ابن الرئيس، حافظ قائد السبسي الذي كافأه بمنحه عضويّة الهيئة السياسيّة بداية سنة 2016. مع اشتداد الصراعات صلب نداء تونس، اختار القروي هذه المرة أن يبدأ تجربة منفردة، وظّف خلالها الإعلام والعمل الخيري عبر جمعية ناس الخير التي حول إسمها إلى خليل تونس عقب وفاة ابنه سنة 2016، لخدمة طموحه السياسي. بحملات دعائية على قناته حول نشاطات جمعيته في المناطق الأكثر بؤسا في البلاد، أطلق هذا الأخير حملة انتخابية مبكرة وأسس لنفسه قاعدة شعبية من البطون الخاوية والأيادي الممدودة التي أسقطتها الدولة من حساباتها طوال العقود التي تلت الإستقلال. ولكن في نفس الوقت، فتح نبيل القروي جبهات صراع متعددة مع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري لمخالفته لوائح العمل الدعائي خلال الانتخابات البلدية، وضد منظمة أنا يقظ التي نشرت تحقيقات تتعلّق بفساد الأخوين القروي وشركتهما وقناة نسمة بتهم تتمحور حول التهرّب الضريبيّ وغسل الأموال وضد رئيس الحكومة الذي استشعر خطورة طموحات القروي، ليُزج به لاحقا في السجن الذي لم يغادره طيلة شهر ونصف، تاركا زوجته تخوض المعركة بعده مستفيدة من حالة تعاطف شعبي إزاء إيقافه وقناة تفانت في الترويج لخطاب المظلومية.
بعيدا عن هذه المعارك الصاخبة التي كان نبيل القروي يخوضها في منتصف المسرح السياسي ووسط معسكر الإخوة الأعداء، الذين ظنوا أن المنافسة ستنحصر بينهم في نهاية المطاف للظفر بكرسي الرئاسة، كان قيس سعيد يتحرك دون إثارة الجلبة معززا من حضوره عبر جملة من التصريحات والمواقف الصارمة تجاه العديد من القضايا على غرار المساواة في الإرث التي أحرجت باقي الأحزاب. وبقدر ما أثاره موقف قيس سعيّد الرافض للمساواة بمفهومها المباشر ودعوته بدلا منها لترسيخ العدالة، من سخط لدى فئة من التونسيّين، بقدر ما خلق حوله حالة من الافتتان لدى فئة أخرى لم تجد في الطيف السياسيّ من يملك جرأته للتعبير عن رأيهم وليكون صوتهم المسموع. يواصل صوت سعيّد في إدارة الرقاب مرّة تلو الأخرى، بعد أن صارت وسائل الإعلام تقتنص تصريحاته، وتسعى وراء حوارات وإياه، ليخلّف بعد كلّ ظهور إعلاميّ موجة جديدة من الافتتان وأنصارا جددا يقرّبون خطواته شيئا فشيئا من قرطاج ويساندونه. وكعادته، وبعيدا عن الضوء والعيون، كان قيس سعيد يسجل النقاط الواحدة تلو الأخرى مستفيدا من نتائج السنوات الخمس لحكم منظومة التوافق، بما أفرزته من أزمات على مستوى المشهد السياسيّ وفشل اقتصاديّ، وموجة الانشقاقات صلب الأحزاب الحاكمة والمعارضة. تحرّك أستاذ القانون الدستوري بخطوات ثابتة نحو الشباب اليائس والنافر من العمل السياسي بشكله الراهن، والثوريين المُحبطين، ليذكرهم بصواب مقولاته حول فشل منظومة الأحزاب وآلية التمثيل النيابي بشكلها الراهن. لتتوسع شيئا فشيئا دائرة أنصاره ويراكم حاضنة افتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي أغنته عن وسائل الإعلام التقليدية، ليأخذ قراره أخيرا بكسر حالة المقاطعة والترشح للانتخابات الرئاسية دون أن يثير مخاوف باقي المنافسين حتى لحظة الإعلان عن النتائج في 15 سبتمبر 2019.
الحلقة الأخيرة: صراع بين خطاب العقل وكُفر الجوع وغريزة الخوف
بفارق بلغ 2.8%، ترشح قيس سعيد إلى الدور الثاني من السباق الرئاسي، رفقة منافسه نبيل القروي الذي حصد 15.58% من أصوات الناخبين. هذه النتيجة التي فاجأت الرأي العام ومكونات المشهد السياسي، خصوصا ما حققه أستاذ القانون الدستوري، القادم من بعيد بخطاب لم يتعودوه بينهم وأفكار ظنوها دُفنت منذ 2011 مع انطلاق مسار الإنتقال الديمقراطي. لكن فهم كيفية صعود الرجلين، لا يقتصر على قراءة مسارهما السياسي، بل تتوضح الصورة أكثر بتشريح الأرقام التي أصدرتها شركة سيغما كونساي المختصة في سبر الآراء حول تفاصيل الكتل الإنتخابية التي رفعتهما أقرب من أي وقت مضى إلى بوابة القصر الرئاسي. في هذه الإحصائيات، تكمن مفاتيح نجاح المترشحيْن في ثلاث نقاط رئيسية؛ الفئات العمرية، المستوى التعليمي والانتماء السياسي لناخبيْهما. فإن كان نبيل القروي معشوق من تجاوزا عقدهم السادس بنسبة 25.4%، وهم الجمهور الأكبر للإعلام التقليدي وجهاز التلفزيون والمسلسلات التركية التي لم يبخل بها القروي على ناخبيه طيلة السنوات الثلاث الماضية، فإن البنية العمرية لناخبيه كانت في أغلبها لمن هم دون 25 سنة بنسبة 37% وبين 26 و45 سنة بنسبة 20.3%. هؤلاء يمثلون المستهلكين الأكبر لمنشورات مواقع التواصل الاجتماعي وأكثرهم نشاطا عليها وتأثرا بها. أرقام تتقاطع مع مؤشرات العنصر الرئيسي الثاني في فهم الظاهرة، ألا وهي المستوى التعليمي، حيث مثّل من حرموا من الدراسة خصوصا من أحزمة الفقر في العاصمة والمناطق الداخلية، القاعدة الانتخابية الأكبر لنبيل القروي بنسبة 40.8% من ناخبيه تليها من اقتصر تعليمهم على المرحلة الابتدائية بنسبة 29.1%. أما الجامعيون فمثلوا الشريحة الأكبر من ناخبي قيس سعيد بنسبة 24.7% في حين لم يحصل القروي على أصوات أي منهم. أما المعطى الثالث فيتعلق بالانتماء السياسي والناخبين الجدد من مجموع المصوتين للمرشجيْن. إذ تشير أرقام مؤسسة سبر الآراء إلى أن 42% من ناخبي القروي ينتمون أو انتموا سابقا لحزب نداء تونس، و16% من شتات الأحزاب الأخرى. أما غالبية من صوتوا لقيس سعيد فكانوا ممن يجربون الاقتراع ولو لمرة واحدة بنسبة بلغت 36.2%، وهو أغلبهم من الشباب الذين بلغوا السن القانوني للانتخاب بعد محطة 2014 الإنتخابية.
الربط بين مختلف هذه المعطيات، يعكس مكامن النجاح لكل من المتنافسيْن، فبينما عول نبيل القروي على غريزة الاستهلاك المتنامية في المجتمع التونسي، سواء كانت للترفيه أو لإشباع الجوع، وعلى غريزة الخوف من غياب “حامٍ” لقيم النمط الحداثي في حملة ارتكز خطابها على كونه السد المنيع أمام الإسلام السياسي بعد إنهيار وتفكك نداء تونس، أو بحثا عن “روبن هود” يسدد سهامه إلى فقر نخر الجهات المنسية ويوزع غنائمه بسخاء على البطون الجائعة، يحاول قيس سعيد أن يدغدغ الأمل في شباب لم تتجاوز مشاركته في الانتخابات الرئاسية نسبة 9%. رقم يبدو ضئيلا، لكنه استطاع في ظل حالة التشرذم التي تعيشها المنظومة السياسية الكلاسيكية أن يرفع أستاذ القانون الدستوري إلى صدارة الترتيب وهو يؤكد أنه لن يقدم الحلول بقدر ما سيصغي للحلول التي ستبلورها عقول هؤلاء الشباب.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.