شكلت حادثة وفاة القاضي التونسي مختار اليحياوي المفاجئة (في أيلول ٢٠١٥) مناسبة لاستذكار مسيرته المهنية التي كانت ببعض محطاتها علامة فارقة في الذاكرة القضائية الجماعية في تونس، لاسيما عبر رسالته الشهيرة التي وجهها عام ٢٠٠١ إلى الرئيس التونسي آنذاك زين العابدين بن علي. لذا يهم المفكرة القانونية أن تسلط الضوء على تلك المحطة المهمة في التاريخ القضائي التونسي والعربي، لما لها من دلالات على صعيد فهم التحركات القضائية الاستقلالية في وجه السلطة، وهي تحركات ما زلنا بأمسّ الحاجة إليها اليوم في المنطقة العربية. وكان باحثون في المفكرة التقوا مرات عديدة بالقاضي اليحياوي في فترة ٢٠١١-٢٠١٣، كما أجرى الكاتب معه مقابلة مطولة في كانون الثاني/يناير ٢٠١٢.
قاض مميز، لكن بعيد عن الحراك الاستقلالي
تحتل إذا واقعة القاضي اليحياوي مكانة مميزة في الذاكرة الجماعية للقضاة التونسيين، كأول مواجهة مباشرة مع السلطة الاستبدادية تحظى بتغطية إعلامية كبيرة منذ قضية القضاة الشبان عام 1985. وكان قضاة الجمعية التي تحمل نفس الإسم تعرّضوا لملاحقات كثيرة بفعل مطالباتهم شديدة اللهجة والتي استفزّت آنذاك الحكم البورقيبي[1]. وبين 1985 و2001، خلت الساحة القضائية من أي مواجهة مهمة في المساحة العامة تستحق الذكر[2]. وقد أتاحت لنا المقابلات مع القاضي يحياوي وبعض القضاة الذين تابعوا قضيته دراسة تطور موقعه حتى قبل حادثته الشهيرة، الأمر الذي يسمح لنا بتكوين صورة أفضل لمسيرة “القاضي المقاوم” وفهم ظروفها المهنية والسياسية: فمتى يترك القاضي عمله “الصامت” من أجل التصادم علناً مع السلطة، وكيف؟
شرح لنا القاضي اليحياوي أنه دخل القضاء عام 1982 بضغط من والده، بعد أن مارس المحاماة لمدة ثلاث سنوات في أحد المصارف الكبيرة في تونس. وكان يعلم آنذاك أن “القضاء لا يكفي حتى لإعالة العائلة”. وعليه، القاضي الذي اكتسب شهرة عالمية بفعل مواجهته السلطة، نرى أنه دخل القضاء من باب الصدفة تقريبا، فيما كانت أهواؤه تأخذه إلى مجالات أخرى كانت ستؤمن له مدخولاً أفضل. وهنا يظهر حجم الاستثمار المعنوي والأخلاقي الذي وضعه القاضي اليحياوي الشاب في بداية مسيرته القضائية. فالتضحيات المادية (المدخول) والفكرية (الأبحاث) التي قام بها دفعته إلى أكبر قدر ممكن من الانتظارات المعنوية تجاه هذه المهنة التي ضحى من أجل دخولها. وإذا كانت حالة القاضي يحياوي وحدها لا تكفي طبعا لبناء علاقة سببية مباشرة بين ظروف دخول المهنة القضائية ودرجة الحساسية اللاحقة تجاه التعدي على استقلالية القاضي من قبل السلطة، فإنها تسمح لنا بتلمس بعض الفرضيات في هذا الإتجاه. ويمكننا تصور مثلا الحالات المعاكسة التي يدخل فيها قضاة إلى المهنة كوسيلة لتسلق السلم المادي أو الاجتماعي، قد تجعل نظرتهم للمهنة مبنية على عوامل مختلفة لا تحتل من بينها المزايا المعنوية التقليدية للقضاء مكانة خاصة أو مسيطرة، مما قد يؤدي إلى تفاعلات مختلفة مع السلطة وتدخلاتها.
وسرعان ما نرى القاضي الشاب يسلك طريقاً مميزاً داخل السلك القضائي عبر احتلال مراكز مهمة بالنسبة الى عمره. وهذا ما يكسر شيئا ما النظرة النمطية إلى القاضي المستقل المقاوم، الذي من المنتظر أن يمضي مسيرته في ظل زملائه المنسجمين المدعومين من السلطة وفي مراكز هامشية : “بكل صراحة، أنا من بداية انخراطي في القضاء اشتغلت في دائرة أولى مدني في تونس. الدائرة هذه مختصة بالقضايا الهامة (…). وجدت نفسي في مواقع حساسة مفصلية في القضاء”. ومن الواضح أن المسار المهني للقاضي الشاب لم يكن مسار قاض غضبت منه السلطات التونسية منذ البداية، إذ عين في مراكز “حساسة” كما يسميها هو. وتؤكد شهادات قضاة تونسيين آخرين معروفين بتعاطفهم مع اليحياوي وقضيته، و بالتالي لا سبب للتشكيك بصدقية شهاداتهم، أن القاضي اليحياوي لم يكن معروفا في المجال القضائي العام قبل حادثة 2001، على الأقل على صعيد الحراك الاستقلالي. وقد فوجئ كثيرون منهم عندما رأوا هذا القاضي “المجهول”، أو على الأقل المتحفظ، يقف تلك الوقفة الشهيرة أمام رئيس الدولة. وتؤكد الصحافة الغربية الصادرة في ذلك الوقت هذه النظرة إلى القاضي اليحياوي “المجهول”، فتقدمه صحيفة لو موند – Le Mondeالفرنسية مثلا كقاض “بدون أي التزام سياسي أو مدني معروف”[3].
ولكن ما يثير الاهتمام هو أن القاضي اليحياوي يروي رواية مختلفة عن تلك التي يرويها زملاؤه والإعلام. ف”التحفظ” أو “الغياب” العام الذي تكلم عنه مراقبو الساحة القضائية عن يحياوي ما قبل ٢٠٠١، هو بالنسبة إليه شكل مختلف من المقاومة القضائية. فهو وإن كان لم يأخذ يوما قبل 2001 مواقف علنية ضدّ النظام وتدخلاته في القضاء، إلا أنه يروي يوميات قضائية فيها العديد من المناوشات مع النظام ورجاله الأمنيين والقضائيين، في ظل حرص من القاضي المشاكس على الالتزام آنذاك بحدود المساحة القضائية والوسائل التي تتيحها: “هو الوزير هو رئيس المحكمة هو المدعي العام، الوكيل العام، هو الداخلية، الكل يتدخل، أنا وصلت في مرحلة معينة ثلاثة أشهر لم أدخل إلى رئاسة الجلسات احتجاجا لأن ثمة أعواناً سريين قاعدين يهددون في الجلسة، قاعدين وانا طلبت ألا يدخلوا إلى المحكمة (…) انا احتججت وهددت بتعليق الجلسات”. ويظهر جليا في هذا المثل كما في غيرها من الحالات التي رواها اليحياوي الفارق بين المقاومة العلنية التي تمارس في المساحات العامة أو الإعلامية، وتلك التي تمارس في كواليس المحاكم، عبر الأحكام أو عبر مواقف وتصرفات لا تخرج إلى العلن. فلا يمكن بحثيا اختصار الاهتمام بالمقاومات القضائية بالجزء الظاهر من العمل المقاوم الذي غالبا ما يتأخر للظهور إلى العلن فيحظى بالتغطية الاعلامية، بينما جزء مهم من هذه المقاومات قد تأخذ بعدا تقنيا في الاحكام أو مهنيا داخل قصور العدل.
الرسالة الشهيرة: الضرورات تبيح المحظورات
كما سبق وأظهرته العديد من التقارير الدولية والصحفية حول قضية القاضي يحياوي، وجه هذا الأخير في 6 تموز 2001 رسالة مفتوحة إلى رئيس جمهورية تونس زين العابدين بن علي، بصفته رئيسا لمجلس القضاء الأعلى، مطالبا فيها برفع اليد السياسية عن القضاء التونسي[4]. ويذكر هنا أن الصحف والمواقع الإلكترونية التونسية والأجنبية كانت تناقلت قبل يوم من رسالة اليحياوي خبر نصّ كان كتبه عشرات القضاة التونسيين الذين لم يفصحوا عن أسمائهم ونشروه على الإنترنت. وقد أعلن فيه القضاة عن رفضهم القاطع “لمحاولة السلطة الزج بالمؤسسة القضائية في صراعها مع المجتمع المدني”[5]. وهي مبادرة قد تكون أثرت على قرار القاضي يحياوي في الذهاب إلى العلن. في جميع الأحوال، أكد اليحياوي أنه قد حاول إرسال الرسالة بشكل طبيعي إلى عنوان رئاسة الجمهورية إلا أنها عادت إليه مع إشارة “بلا عنوان”، فوضع عندها الرسالة على الانترنت لتصبح “مفتوحة”[6]. وقد استعمل في الرسالة هذه عبارات جدّ واضحة للتعبير عن “الوضع المأساوي” الذي وصل إليه القضاء التونسي[7]. وقد صنف فيها القاضي اليحياوي القضاة إلى أربعة أصناف: القضاء “الموازي” الذي وضع نفسه في خدمة السلطة وهو يتألف من مجموعة من “الانتهازيين المتملقين” الذين نجحوا في الاستيلاء على المجلس الأعلى للقضاء وعلى مجمل المراكز الحساسة و”يتاجرون بالولاء لتكريس الخضوع” والتبعية، والقضاة “المقهورون” أمام “القمع والترهيب” والوشاية (والخاضعون له)، والقضاة المستقلون “الحقيقيون” الذي أصبح استقلالهم موازياً لاستقالتهم، وفئة رابعة أخيرة وضمنية منبعثة من هؤلاء، وهم القضاة “الشعلة” الذين يضحّون بكل شيء من أجل إيصال الحقيقة إلى أذن الحاكم، كما يفعل اليحياوي نفسه. ومن زاوية ثانية، ترسم الرسالة ما يراه القاضي واجباً (الخروج عن موجب التحفظ) بعدما انسدت مجمل أبواب العمل الأخرى. ويلتقي اليحياوي هنا مع قضاة النادي المصري في 2005 الذين اعتمدوا معادلة “الضرورات تبيح المحظورات”، وهو موقف يتناقض مع مقاربة القضاة المهادنين الذين غالبا ما يفهمون موجب التحفظ كموجب مطلق لا يجوز الحياد عنه تحت أي اعتبار حتى أمام الاعتداءات الواضحة على استقلالية القضاء. والملفت أيضا أن انتقادات اليحياوي في الرسالة قد خرجت عن إطار التنظيم القضائي وإصلاحه لترسم صورة قاتمة عن النظام السياسي والاجتماعي في تونس برمته.
ودون العودة إلى تفاصيل القضية التي وثقت في أكثر من مكان وتقرير، يمكننا التذكير كيف تم التحقيق مع القاضي يحياوي بسرعة قياسية: فبعد أيام من الاعلان عن الرسالة، رفع رئيس المحكمة الابتدائية تقريراً بإدانة تصرفاته. تبعه تقرير للمتفقد العام في الوزارة، قبل أن يصدر وزير العدل في اليوم نفسه قرارا بوقف القاضي اليحياوي عن العمل في 14 تموز 2001 وحرمانه من الراتب، مع احالته الى مجلس القضاء بصفته مجلسا تأديبيا بتهمة “الاخلال بواجبات المهنة والمس من سمعة القضاء”[8]. وإذ عينت الجلسة الأولى لمثول اليحياوي أمام المجلس التأديبي في 2 آب 2001، أصدر وزير العدل قبل يوم واحد من هذا الموعد قرارا برفع “التحجير والحرمان من كامل الراتب”. وقد ترافق ذلك مع قرار بارجاء جلسة التأديب لأجل غير مسمى. وقد فسر حينها هذا القرار على أنه محاولة من قبل السلطة لتهدئة موجة التضامن العارمة مع يحياوي، محليا ودوليا. إلا أن يحياوي، وفي مقابلة مع مجلة “Jeune Afrique” صدرت في آب 2001، قد أعاد انتقاد الإدارة الحالية على خلفية المسائل القضائية في تونس مما أثار غيظ مسؤولين كبار في وزارة العدل والنظام[9]. وكما روى يحياوي نفسه لعدة بعثات دولية في مجال حقوق الانسان[10]، فقد تم استدعاؤه إلى منزل أحد كبار المسؤولين القضائيين وأرغم هناك على التوقيع على بيان يكذب ما جاء في المقال. وتمت إعادة تحريك الملف في كانون الأول 2001 قبل أن يقرر المجلس التأديبي في 31 من ذلك الشهر إعفاء القاضي يحياوي نهائيا من مهامه. واللافت أن الإدارة قد امتنعت عن إبلاغ اليحياوي قرار عزله رغم المطالبات المتكررة منه والدعاوى الإدارية المقدّمة بصورة مستعجلة للحصول على صورة عنها[11]. ويسجل أن المحكمة الادارية قد ردت طلبه ذاك لأسباب شكلية تتصل بصلاحية النظر وفق أصول الإستعجال[12]. أما الدعوى الأساسية في الطعن بالقرار والتي قدمت الى المحكمة الادارية، فقد تم “تنويمها”، حسب استراتيحية القضاء الإداري المعروفة آنذاك لتلافي القضايا الحساسة بالنسبة للنظام، ولم يتم بتها الا بعد الثورة. ولم تقتصر ردة فعل السلطة على معاقبة القاضي اليحياوي تأديبيا وإبعاده فقط، إنما حاول النظام ضرب صورة القاضي المنتفض المقاوم بحد ذاتها والتي بدأت تتكون في تونس والعالم، عبر الترويج المستمر لقراءات مختلفة لتحركه، وخصوصاً القراءة التي ربطت بين توجيهه الرسالة إلى رئيس الجمهورية وخسارته لدعوى قضائية كبيرة ذات طابع عقاري أمام إحدى المحاكم التونسية. وبهذه الطريقة، كان النظام يحاول إظهار “القاضي الثائر” بوجه آخر، وجه القاضي الذي لم يتحرك سوى عندما تم المساس بمصالحه الشخصية المالية[13].
ما بعد الرسالة: من القاضي إلى البطل
على ضوء الأسطورة القضائية التي بنيت حول قضيته، تبدو الرواية التي قدمها لنا القاضي يحياوي بنفسه عام ٢٠١٢ مثيرة للاهتمام. وهي تسمح بمقاربة ما حدث عام 2001 بشكل مختلف، ليس من أجل التقليل من شجاعة هذا القاضي الذي تحدى نظاما بأكمله وقدم تضحيات كبيرة في سبيل ذلك، إنما لنفهم كيف تحول الذاكرة القضائية أحداثاً معينة إلى معالم رمزية يسمح استحضارها والتكلم عنها بتقوية عزيمة الاستقلاليين في أوقات الشدة. وهذا ما حصل تماما في هذه القضية. قال لنا القاضي يحياوي بوضوح أن اللجوء إلى وسيلة الرسالة شكل نوعا من استراتيجية خاصة للخروج من القضاء، بقدر ما شكلت انتقاداً لسوء إدارته. فالاستقالة في القضاء التونسي أيام نظام بن علي لم تكن تجدي، يشرح لنا اليحياوي، خاصة من قبل قاض تولى مناصب حساسة كالقاضي اليحياوي. لا بل كانت تؤدي الاستقالة إلى تغذية شكوك الإدارة تجاه القاضي المستقيل بشكل يؤجل إلى ما لا نهاية قبول الاستقالة المذكورة ويعرض القاضي المشكوك بأمره إلى شتى المضايقات والضغوطات. وتصبح بالتالي أفضل طريقة للخروج السريع من الجسم القضائي هو عمليا القيام بعملية “انتحار قضائي”، وهي عبارة وافق القاضي يحياوي على اعتمادها بعد أن استعملناها نحن لأول مرة في المقابلة معه: ”في القضاء لما تقدم استقالة، لا يستجيبون لك مباشرة. ليس بمجرد ان تقدم الاستقالة تخرج. يمكن تاخد سنوات وانت تنتظر حتى يجيبون على الاستقالة… كوسيلة ضغط لم يكونوا يعترفون بالاستقالة. هم بالانظمة الاستبدادية يعزلون، ولا يقبلون الاستقالة“. فالقاضي يحياوي لم يكن آنذاك يؤمن بامكانية الاصلاح نظرا إلى تجربته المريرة مع الإدارة في السنوات الأخيرة لممارسته المهنة بشكل أفقده الأمل بأي تغيير، كما يقول، وهو ما يفسر قيامه بعمل فردي من دون أي تنسيق مسبق مع أي من القضاة أو حتى المهتمين بالشأن القضائي. وقد أكد لنا مباشرة أنه كان يتوقع الخروج من القضاء في إثر هذه الرسالة، لا بل سعى إلى الخروج بفعل هذه الرسالة، قبل أن يكون هدفه تغيير نظام أقوى منه بكثير:
“أنا لما وجهت الرسالة كنت مستعد وعارف انه سوف يقع عزلي. حتى المواقف اللي كانت تصدر هي فقط للمزايدة باعتبار أن ما كان عندي شك في النتيجة… لكن كنت محضر روحي لشيء آخر، كنت مستعد لآخد زوجتي وعائلتي وننتقل الى أوروبا، مش نعيش في تونس. ما كان عندي القدرة الشخصية لمقاومة جهاز نظام بالشكل هذا. جواز السفر تاعي حاضر وزوجتي وأولادي لان نخرج من البلاد. أول شيء النظام عمله هو منعي من السفر وأنا ما زلت قاضي، حتى قبل عزلي، أول قرار اتخذته الوزارة ضدي هو منعي من السفر وبقيت ممنوع من السفر لمدة 10 سنوات، وهذه كانت قاسية، ما دام أنا لم أعد قاضي وممنوع من السفر ما كان عندي طريق آخر الا مقاومة النظام”.
طبعا ليس الهدف هنا القول بأن تحرك القاضي يحياوي كان لدوافع شخصية، إذ أن إرادة الخروج بحد ذاتها يعود سببها إلى معارضة اليحياوي الشديدة لوضع القضاء التونسي آنذاك. الهدف هو السعي الى توثيق نشوء وتطور الحالات المقاومة داخل القضاء، لفهم المسارات المقاومة التي قد يتبعها القضاة في أجواء غير ديمقراطية. ويقول اليحياوي بوضوح أن فكرة مقاومة النظام، بمعنى محاربته على الأرض من أجل تغييره أو تحسينه، لم تكن حاضرة بقوة عند توجيه الرسالة انما نشأت بعد إعلانها وعلى أثر نتيجتها، بحيث وجد القاضي يحياوي بعد خروجه من القضاء نفسه أسيراً للنظام، الذي يضطهده ويمنعه من السفر ولا يترك له مجالاً آخر “سوى مقاومة النظام”. وسرعان ما أنشأ القاضي اليحياوي مركز استقلال القضاء في تونس مع مجموعة من الحقوقيين والمحامين، ولكن من دون مشاركة أي من القضاة، في زمن كان هؤلاء خاضعين فيه لضغوط شديدة. وعندما سألنا القاضي اليحياوي إذا كان قد تضامن معه القضاة في العلن، قال لنا: “كانت الأغلبية مع موقفي والجمعية أخرجت أكثر من بيان، كان أسرع وأشد من بيان الهيئة الوطنية للمحامين رغم أن المحامين كانوا أكثر استقلالية”، ولكن كانت لهم حسابات معينة ففضلوا التريث، كما شرح لنا.
تحول القاضي اليحياوي إلى رمز من رموز النضال من أجل استقلال القضاء التونسي والعربي. ومن خلال دراسة هذه الحالة، تظهر أمامنا أولى بوادر ما قد يشكل إحدى خصائص الحالة القضائية التونسية زمن الاستبداد، ألا وهي إنتاج مقاومات ذات طابع فردي تأخذ تدريجيا طابع البطولات القضائية التي تغذي الوعي الاستقلالي رمزيا، لكن بدون إنتاج تحركات جماعية ذات هوية ثابتة كما هي الحال مع نادي القضاة المصري آنذاك. وحتى انتفاضة مكتب جمعية القضاة عام ٢٠٠٥ تحولت سريعا إلى مقاومة يقودها بعض القضاة والقاضيات المنفيين، فيما عاد العمل الجماعي عبر الجمعية ليختفي من الساحة الاستقلالية.
ومع وفاة مختار اليحياوي المؤلمة، لا بد من أن نتذكر شجاعة الخطوات وأهمية التضحيات التي اتخذها وعانى منها هذا “القاضي الثائر”، كما سمته حينها الصحافة الغربية[14]. كما أن قضيته تسمح لنا بتطوير فرضيات أخرى جديدة حول نشوء الممانعة القضائية في أجواء غير ديمقراطية، أكثر تعقيداً من فرضية الثورة الرومنسية: ألم يكن المحرك الأساسي في نشوء مقاومة القاضي اليحياوي التفاوت بين التقدير الشخصي للمخاطر الناتجة عن توجيه الرسالة والمخاطر الفعلية التي تعرض لها، ما قذفه إلى موقع القاضي المقاوم؟ وهل ينتقل القضاة إلى الشارع أو الجمعية أو الصحافة أو أي مساحة عامة أخرى فقط عندما يفشلون في إحداث التغيير من داخل المهنة؟ وما هي العلاقة إجمالا بين المقاومات العامة والمقاومات من داخل المهنة عند القضاة، وهل تختلف فعالية كل وسيلة؟ وكيف يمكن دراسة المقاومات المهنية التقنية التي لا يغطيها الإعلام؟ أسئلة تسمح قضية اليحياوي برسم بعض الإجابات الأولية لها، بانتظار دراسات أعمق في المستقبل.
للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك/ي الضغط هنا
نشر في العدد 3 من مجلة المفكرة القانونية – تونس
[1] تشكل ظاهرة القضاة الشبان في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي استثناء ربما بالنسبة للنمط المطلبي الفردي الذي يميز الوضع القضائي التونسي
. وقد تأسست الجمعية عام
1971، وسرعان ما انتهجت لهجة تصادمية مع السلطة بعيدة عن أسلوب الودادية الدبلماسي التوافقي
. وقد هددت الجمعية باللجوء إلى الإضراب عدة مرات في تاريخها لتحقيق بعض المطالب، وصولا إلى إضرابها الشهير في
10-11 نيسان
/أبريل
1985. وعلى إثر ذلك الإضراب تم عزل العديد من قيادات الجمعية القضائية كما تم حل جمعية القضاة الشبان من قبل وزارة الداخلية في العام نفسه
. لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع، يمكن مراجعة : وحيد الفرشيشي
, “استقلال القضاء والتكتّلات الجماعيّة للقضاة في تونس
” في
حين تجمع القضاة,2009, 205-253; الهادي سعيد
, القضاء نضال ومسؤولية(تونس: مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله للنشر والتوزيع
), 1998.
[2] إذا استثنينا ربما قضية يذكرها بعض القضاة الاداريين في مقابلاتهم، ألا وهي قضية
“معاقبة
” رئيس المحكمة الإدارية عام
1992 بسبب صدور عدة أحكام عن المحكمة الإدارية بإعادة عدة قضاة من مجموعة القضاة الشبان إلى مراكزهم بعد الصرف الذي تعرضوا له في الثمانينات إثر الحادثة التصادمية المذكورة أعلاه
. إلا أن هذه المواجهة حصلت تحديدا من داخل المحاكم عبر أحكام المحكمة الإدارية التي استفزت السلطة، و ليس عبر احتلال المساحة العامة كما حصل في حالة القاضي يحياوي، وهي لم تحظى في جميع الأحوال بالتغطية الإعلامية المحلية والدولية التي حظيت بها قضيتا مختار اليحياوي وجمعية القضاة عام
2005.
[4] Le Monde interactif, 12/7/2001وغيرها من الصحف آنذاك
.
[5] أنظر الموقع السويسريٍ
Swissinfo :
http://www.swissinfo.ch/ara/index.html?cid=2141732، تمت زيارته في التاسع من نيسان
2012.
[6] أنظر مثلا
Labidi, O. (2008), Le régime disciplinaire des magistrats de l’ordre judiciaire, Mémoire, Université de Tunis .p.29 ,El Manar
[8] كتاب صادر عن رئيس مجلس التأديب موسى بنموسى، في
24 جويلية
2001.
[9] L’Observatoire Pour la protection des défenseurs des droits de l’Homme,
Tunisie :l’affaire Yahyaoui. Le combat d’un homme pour l’indépendance de la justice, 2002.
[10] أنظر التقرير نفسه مثلا
.
[11] Olfa Labidi, op.cit, pp 123 s:
[12] محكمة ادارية،
20-2-2002.
[13] وهكذا، نقرأ في قرار وزير العدل الصادر في
14-7-2001 نقلا عن تقرير السيد رئيس المحكمة الابتدائية في تونس المؤرخ في
11 جويلية أن السيد المختار اليحياوي قام بتصرفات عدة خلال شهري جوان وجويليه
2001 تعبيرا منه عن عدم رضاه عن الحكم المدني الذي صدر ضده في قضية تتعلق بعقار رفعها ضده أحد المتقاضين
. بالطبع، نفهم من ذلك سعيا من قبل السلطة الى تحجيم اعتراضه وتظهيره على أنه لا يعدو كونه غيظا يصيب اي متقاض عند خسارة دعواه مع تجريده من اي ابعاد متصلة بالصالح العام
.