أكّد ديوان المحاسبة في تاريخ 5/10/2023 على قراره السابق برفض الموافقة المسبقة عن توقيع صفقة تشغيل القطاع البريدي لمدة تسع سنوات، لصالح التحالف المكوّن من Merit Invest و Colis Prive France (وكلتاهما مملوكتان من الشركة الفرنسية CMA CGM). وقد جاء القرار ردا على طلب إعادة النظر المقدم من وزير الاتصالات جوني قرم في تاريخ 19/9/2023، تبعاً لجلستين استيضاحيّتين تمّ خلالهما الاستماع إلى إفادة كلّ من وزير الاتصالات جوني قرم (في سابقة قلما تحصل في ديوان المحاسبة) ومدير عام البريد محمد زهير يوسف، وإفادة رئيس هيئة الشراء العام د. جان العليّة.
ورفضت الهيئة المكوّنة من الرئيس عبد الرضى ناصر والمستشارين محمد الحاج وجوزيف الكسرواني، طلب إعادة النظر المقدم من الوزير في الأساس لكونه “لم يحمل ولم يأتِ بأي معطى جديد وحاسم من شأنه تغيير” نتيجة القرار الصادر بتاريخ 23/8/2023 القاضي بعدم الموافقة على مزايدة تلزيم تشغيل المرفق العام البريدي في لبنان. وعليه أكّدت الهيئة على قرار ديوان المحاسبة موضوع طلب إعادة النظر وذلك للأسباب التي انبنى عليها في متن القرار المطلوب إعادة النظر فيه، مستعيدةً أهمّ الاعتبارات التي انبنى عليها قرار حجب الموافقة المسبقة، وأبرزها الآتية:
أن الإدارة لم تتقيد بمبادئ قانون الشراء العام الواردة في المادة الأولى من قانون الشراء العام، والتي تعدّ من الانتظام العام ولا يجوز مخالفتها تحت أي ظرف أو مسمى. وهو بذلك أشار ضمنا إلى عدم منح العارضين مهلة كافية لتقديم عروضهم فضلا عن عدم وضع دراسة جدوى وتحديد المؤهلات على نحو يتناسب مع العرض،
وأن الإدارة أخلّت بموجبها بالإعداد للصفقة عند وضعها دفتر الشروط الخاص بالصفقة الحاضرة نظراً لافتقاره للوضوح والشفافية والدقة والموضوعيّة، “إذ يعتريه الغموض والأخطاء القانونيّة والماديّة، إضافة إلى تضمينه الكثير من المعايير الاستنسابيّة غير القابلة للتطبيق”. وبذلك، يعود ديوان المحاسبة ليذكر بالمخالفات الكثيرة الواردة في دفتر الشروط والتي أسهب في تبيانها في قراره الأخير (12 مخالفة)،
أن الإدارة لم تنجح في تبديد التساؤلات بشأن “تبديل المؤهلات الواجب توافرها لدى العارضين للاشتراك في المزايدة دون الالتفات لما لهذه التعديلات من نتائج على عدم نجاح الصفقة وعدم تحقيقها لأهدافها”، تبعاّ لتمكين مشاركة أصحاب التراخيص الذين يملكون الخبرة في نقل الطرود البريدية في المزايدة في الصفقة لتلزيم أعمال وخدمات البريد. الأمر الذي “لا ينسجم ولا يتناسب البتة” مع الهدف الأساسي للصفقة ألا وهو تشغيل القطاع البريدي في لبنان، وهو ما يتعارض مع “مبدأ من يملك الأقلّ لا يملك الأكثر”. وقارن الديوان الأمر “بالممرض الذي مهما أوتى من خبرات لا يستطيع القيام بإجراء عمليّة قلب مفتوح وإن كان للممرّض دور في مساعدة الطبيب أثناء إجراء العمليّة”ـ وكان ديوان المحاسبة وصف في قراره المطلوب إعادة النظر فيه تعديل المؤهلات على هذا النحو على أنّه حصل على مقاس “العارض الوحيد” الذي كان تمّ استبعاده من قبل. وهو بذلك بدا وكأنه يسجّل على وزير الاتصالات إسرافه في محاباة العارض الوحيد.
يثير القرار المذكور أعلاه ملاحظات عدة أهمها الآتية:
1- التأكيد على أهمية دور ديوان المحاسبة بتعزيز مبادئ الشراء العام
يشكل قرار الديوان دليلا جديدا على توجهه في أداء دوره في مراقبة حسن سير الإدارات العامّة وبخاصّة في مجال الشّراء العامّ، وفي التمسك بآرائه رغم الضغوط التي قد يتعرض لها من قبل القوى السياسية المستفيدة من هذه الصفقات. ومن المفيد بمكان لفت النظر هنا إلى الإجراء الذي اتخذه بالاستماع إلى إفادة الوزير بموجب محضر رسمي في بادرة قد تكون الأول من نوعها في عمل الديوان. كما بادر للاستماع إلى رئيس هيئة الشراء العامّ على نحو يعكس التكامل والتعاون بين الديوان والهيئة وهو التكامل الذي بدا واضحا في متن التعليل المعتمد منه في قراره السابق.
وقد تأكد موقف الديوان أكثر فأكثر في ختام قراره إحالة الملف إلى الغرفة القضائية المختصّة لدى الديوان لإجراء المقتضى اللازم في هذا الشأن، تمهيدا لمزيد من التدقيق في مخالفات الإدارة. وهذا ما ينقلنا إلى الملاحظة الثانية.
2- الانتقال من رقابة الديوان المسبقة على الصفقات إلى محاسبة استغلال السلطة
فضلا عما تقدم، تعكس إحالة الملف من الديوان إلى “الغرفة المختصة” فيه مؤشرا آخر على جدية الديوان في مكافحة سوء الإدارة كما سبق بيانه. فأن يحيل الملف على هذا الوجه إنما هو بمثابة دعوة للغرفة بالتدقيق في أداء الإدارة المشرفة على مزايدات البريد (الجهة الشارية) وضمنا وزير الاتصالات وأعضاء لجان التلزيم، تمهيدا لاتخاذ إجراءات وعقوبات محتملة بحقهم. بمعنى أن ديوان المحاسبة رأى أن معطيات الملف خطرة لدرجة تستوجب ليس فقط حجب الموافقة الإدارية عن توقيع الصفقة، إنما أيضا محاسبة الإدارة التي أشرفت على المزايدات (الجهة الشارية) وفي مقدمتها وزير الاتصالات ولجان التلزيم، على خلفية سوء إدارة هذا الملف وما قد تسبب أو يتسبب عنه من أضرار جسيمة بحق الخزينة العامة ومستخدمي المرفق البريدي العام. ومن أهم من الأمور التي قد تستدعي التحقيق في هذا السياق، الآتية:
لماذا تغيّر دفتر الشروط بين المزايدتين الثانية والثالثة، فتحول إلى دفتر شروط غير شفاف وغير مهني ولا يرقى إلى مستوى تلزيم مرفق يشكل واحداً من موارد الدولة؟
لماذا تغيّر مخطط الأرباح بين المزايدة الثانية والثالثة، بحيث سيؤدّي السّير بالمزايدة وفق مخطط الأرباح الأخير إلى تفويت إيرادات عامة تقدر ب5 ملايين دولار؟
كيف وافقت لجنة التلزيم على تأهيل عرض شركتي Merit Invest و Colis Prive France في حين تبيّن لهيئة الشراء العام أن العرض لا يراعي المواصفات المطلوبة؟
بالنتيجة، فقد تميّز وزير الاتصالات بقدرته الفائقة على هدر الوقت وتأخير إتمام الصفقة لأكثر من عام بسبب سعيه إلى توجيه عملية التلزيم، مع ما يُرتّبه ذلك من هدر للأموال العامة بسبب استمرار ليبان بوست في إدارة القطاع بشروط مجحفة للدولة. وهو استمر في تعزيز عملية الهدر بعدما رفض مضمون تقرير الديوان الصادر في 23 آب الماضي الذي أوصى فيه بإلغاء نتيجة المزايدة الأخيرة وإطلاق مزايدة جديدة، وإصراره إعادة النظر به. صحيح أن طلب إعادة النظر حقّ من حقوقه لكنه حق يفترض استعماله في حال تبين فعلاً وجود معطيات قادرة على قلب الموازين، وهو ما لم يحصل على ما ورد في البند الثاني من قرار الديوان في إشارته إلى أن طلب الوزير “لم يحمل ولو يأت بأي معطى جديد وحاسم من شأنه تغيير نتيجة القرار”. هذا يعني ببساطة هدر 50 يوماً إضافية منذ أعلن الديوان عدم موافقة على نتيجة التلزيم. وتظهر حركة وزير الاتصالات أن أولويته كانت محصورة بتلزيم القطاع إلى شركة محددة عوضاً عن السعي إلى تلزيم المرفق البريدي بشفافية وبما يحقق مصلحة الخزينة العامة، بدليل سعيه بطرق ملتوية إلى الانقلاب على قرار الديوان، كاللجوء إلى مرجعيات سياسية وفي مقدمتها رئيس مجلس النواب نبيه بري بهدف التأثير على الديوان .
3- ماذا بعد؟
بنتيجة هذا القرار، يطرح السؤال: هل سيرضخ الوزير للقرار فيلتزم بتوصيّات الديوان بإجراء مزايدة جديدة، وذلك تفاديا لإجراءات المساءلة ضدّه؟ أم أنه يلعب ورقته الأخيرة بإحالة قرار الديوان مع مخالفته إلى مجلس الوزراء طالبا منه أن يجيز له تجاوزه عملا بالمادة 70 من قانون ديوان المحاسبة. ومن المؤشرات على ذلك أنه سارع إلى التقاء نجيب ميقاتي عند الساعة الرابعة من بعد ظهر اليوم طالباً منه عرض الموضوع على مجلس الوزراء (يُتوقع أن يُرسل غداً كتاباً رسمياً إلى رئاسة مجلس الوزراء). ومن شأن عرض هذا الموضوع على مجلس الوزراء أن يحرج ميقاتي ومجلس الوزراء معاً، إذ سيكون من الصعب تبرير الانقلاب على تقرير مفصل للديوان يوثّق فيه وجود هدر للمال العام ويؤكد فيه أن إجراءات المزايدة افتقدت إلى الشفافية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.