مرة جديدة يضع ديوان المحاسبة يده على إحدى القضايا التي سبّبت هدراً للمال العامّ، مُشرّحاً أوجه الهدر ومُحدّداً المسؤوليات عنه، وتبعاته وكيفية مواجهتها. وهو في تراكم عمله واستمراره في إصدار تقارير تضيء على بعض من الفساد المعشّش في مختلف الإدارات، إنما بدأ يُرسّخ فكرة أن لا صفقة يمكن أن تبقى مستترة إلى الأبد. فالهيئات الرقابية، إذا ما أرادت، قادرة على نبش الماضي ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم مهما طال الزمن. وهذه تحديداً الرسالة التي يكررها رئيس ديوان المحاسبة القاضي محمد بدران ومفادها أنّ لا خلاص إلا بتعزيز الهيئات الرقابية لتكون قادرة على القيام بمهامها، وبما يؤدّي إلى منع حدوث المخالفات أو الصفقات المشبوهة أو على الأقلّ الحدّ منها. كما يشير إلى أنها فرصة لإعادة البناء مستقبلاً على أسس سليمة وصلبة منعاً لتكرار الأزمات التي واجهها البلد.
والديوان، بعد أن أصدر تقريراً مفصلاً عن قطاع الخلوي في العام 2021 (إضافة إلى عدد من التقارير التي تطال قضايا إشكالية أخرى مثل تلزيم المطار وتلزيم البريد)، يعود اليوم لاستكمال ملفه بشكل أكثر دقة وتفصيلاً، عبر التقرير الصادر في 11/4/2023، متناولاً ما عُرف إعلامياً بفضيحتي مبنى قصابيان في الشياح ومبنى “تاتش” الجديد في الباشورة، واللتيْن لا تزالان عالقتين أمام القضاء وتُشكّلان ضغوطاً إضافية على الدولة، لناحية احتمال تحمّل المزيد من الخسائر والتعويضات وصولاً حتى إلى خسارة المبنى الذي تستعمله “تاتش” حالياً، إذا لم تسارع الجهات المعنية إلى حسم أمرها والتصدّي للمحاولات المستمرة لنهب المال العام.
وتأسيساً على هذه القضية، أوصى الدّيوان باعتماد الجهات المختصّة والإدارة مبدأ المنافسة كشرط أساسيّ في شراء واستثمار العقارات وتجنّب شراء عقارات مرهونة أو مثقلة بالديون وضرورة أن تعمد إلى نقل ملكيتها إثر عمليات البيع وفحص متانة ومدى صلاحية العقار. كما أوصى باعتماد التخطيط ضمن رؤية واضحة عند إجراء مشاريع مماثلة نظراً للتعثر الذي وقعت به وزارة الاتصالات نتيجة فشل الصفقتين وما تسبّبتا به من أضرار بالغة بالمال العام.
وفي هذا السياق، يضيء بدران على ما كان واضحاً في التقرير، أي الصوت المرتفع وغير المألوف في تقارير الجهات الرقابية. وهو بذلك يجزم أن المطلوب هو المعايير العالية للرقابة والمسؤولية. فالوزير لا يفترض أن يُحاسب فقط عندما يسرق، بل عندما يتقاعس في القيام بواجباته، انطلاقاً من أن الوزارة ليس وجاهة فقط، بل مسؤولية أولاً.
سابقة تحميل المسؤولية لستّة وزراء
لم يموّه الديوان، في التقرير الصادر عن الغرفة الثانية برئاسة القاضي عبد الرضى ناصر وعضوية المستشارين محمد الحاج وجوزف الكسرواني، المسؤوليات. بل كان واضحاً ومباشراً في تحميل 6 وزراء دفعة واحدة المسؤولية عن هدر المال العام، هم على التوالي: نقولا الصحناوي، بطرس حرب، جمال الجراح، محمد شقير، طلال حواط، وجوني القرم (وهي مسؤوليات نتناولها أدناه)، إضافة إلى تحميله المسؤولية لشركة زين التي كانت تدير “تاتش” وبشخص رئيسيْ مجلس إدارتها سابقاً كلود باسيل وبيتر كاليوبولوس، وللجنة إشراف المالكين في قطاع الخلوي (يعين أعضاؤها من قبل وزير الاتصالات ومهمتهم مراقبة شركتي الخلوي) وبشكل خاص عضو الهيئة السابق أنطوان الحايك. وهو في اتهامه للوزراء الستة يسجل سابقة في تاريخه، حيث كان الاتهام يطال في السابق وزيراً أو وزيرين في الحد الأقصى، ما ينبئ بأمرين: إصرار الديوان على المضي قدماً في كشف مكامن الفساد، والتحرر من المحاذير التي كانت تعرقل عمله في السابق. وهذه الخلاصة تبدو جليّة في تأكيد الديوان بأن الغاية الأولى هي الحفاظ على المال العام، ومعرفة كيف تمّ هدره والسعي إلى استرداده.
ولكن، ما هي المسؤوليات التي عزاها الديوان للوزراء المختلفين؟
بالنسبة إلى نقولا الصحناوي، أشار الديوان إلى أخطاء عدة أهمها أنه وافق على إبرام عقد إيجار مبنى قصابيان رضائياً من دون إجراء مناقصة أو استدراج عروض مسبق، كما تجاهل وأهمل الاعتبارات التي أثارها سلفه شربل نحاس لجهة عدم صلاحية المبنى.
بالنسبة إلى بطرس حرب، أعاب عليه الديوان أنه اكتفى باتخاذ قرار فسخ عقد إيجار مبنى قصابيان على خلفية معلومات وصلته عن وجود صفقة مشبوهة تتعلق باستئجار مبنى قصابيان، من دون اتخاذ أي إجراء لاسترداد المال المهدور سواء من الإدارة السابقة في وزارة الاتصالات أو من الشركة المشغّلة وفق عقد الإدارة معها. علماً أن واجبه الدستوري يرتّب عليه ليس فقط وضع حد للهدر إنما أيضاً محاسبة الجهات والأشخاص الذين تسببوا بهذا الهدر الذي تجاوز 10 مليون دولار (اكتفى بتقديم إخبار بناء على تقارير صحافية، وليس شكوى، حول وجود شبهات من دون أن يتخذ أي إجراء إضافي بعد حفظ الإخبار من قبل النيابة العامة المالية).
بالنسبة إلى جمال الجراح، أعاب عليه الديوان استئجار مبنى تاتش في وسط بيروت والموافقة على نفقات استكماله بغياب أي عروض أخرى مناسبة، فضلا عن أنه تم تكييف العقد على أنه عقد إيجار مبنى منجز، بما يخالف الواقع الذي يؤكد أن المبنى لم يكن منجزاً عند التوقيع وأنه لم يصبح كذلك إلا بفضل تمويل شركة “ميك 2” لأعمال تجهيزه.
بالنسبة إلى محمد شقير، فإنه وافق على توقيع عقد شراء مبنى تاتش بثمن مرتفع جداً من دون إجراء مناقصة أو طلب عروض أسعار، فضلا عن أنه لم يحسم من ثمن المبيع نفقات استكمال المبنيين والتي بلغت قيمتها 22.6 مليون دولار، ما يعني أن “ميك 2” سددت المبلغ مرتين. هذا عدا عن أنه أوحى بوجود صفقة إيجار مشبوهة من دون القيام بالإجراء المناسب لملاحقة المسؤولين عنها.
أعاب على الوزراء شقير وحوّاط وقرم إهمال تسديد الدفعات المتوجبة والأهم إهمال إعطاء الأوامر لوضع إشارة عقد البيع بخلاف ما نصت عليه المادة 4 منه وهو ما جعل ملكية شركة “ميك 2” للعقار غير محصنة ومعرضة للضياع.
باختصار، يشكل التقرير وثيقة إدانة لنظام متكامل مبنيّ على الصفقات والسمسرات، التي لا همّ لدى من نفذّها سوى السطو على المال العام المؤتمن على حمايته.
مبنى قصابيان: الكشف على المبنى بعد استئجاره
تعود القضية المطروحة برمّتها إلى العام 2005، حين وجدت إدارة “تاتش” أنها بحاجة إلى مبنى أوسع من الذي تشغله مقابل المرفأ، يتناسب مع تطور خدماتها ومع خططها المستقبلية. في ذلك الحين أعلمت الوزارة أنها بصدد التفاوض مع مالك مبنيين في منطقة المتحف مقابل بدل إيجار سنوي قدره 700 ألف دولار، مشيرة إلى أن هذا البدل يقل عن بدل الإيجار السنوي المترتب عن مركزها حينها.
مرت سنوات منذ ذلك الحين من دون أن يشهد الملف أي تطورات، لكن في العام 2011، تذكّر مدير “تاتش” كلود باسيل إبلاغ الوزارة بأن الشركة لم تحصل على موافقتها على الكتاب المرسل في العام 2005، مرفقة كتابها بعقد إيجار مبنى قصابيان لمدة 10 سنوات بمجموع بدلات يبلغ 38.4 مليون دولار، مع كلفة انتقال تبلغ 5.1 مليون دولار.
لم يتأخر الوقت قبل أن يرفض الوزير شربل نحاس الطلب بسبب قدم المبنى وحالته السيئة، إضافة إلى معارضته دفع مبالغ مرتفعة بهذا الشكل للإيجار، ما أدى إلى توقّف مشروع الانتقال مجدداً.
لكن مع استبدال الحكومة وتعيين نقولا الصحناوي وزيراً للاتصالات، كرر باسيل طلبه استئجار المبنى نفسه، لكن هذه المرة لم تعترض الوزارة، بل طلبت عبر لجنة إشراف المالك تعديلاً بسيطاً على العقد يعطي الشركة حق إنهائه بصورة مبكرة، من دون إبداء أيّ تحفظ على قيمة الإيجار أو الاسستفسار عن حالة المبنى. وبالفعل، أرسلت الشركة في اليوم نفسه (30/3/2012) عقداً معدلاً إلى لجنة الإشراف. لكن في 22/5/2012، عادت وتراجعت عن طلبها استئجار المبنى، مبررة الأمر بعدم استجابة وزارة الاتصالات على صرف المبالغ اللازمة لهذه الغاية. والأهم أنها قررت، بموافقة الوزارة، نقل بعض الأقسام إلى طابقين استأجرتهما في مبنى في منطقة الرينغ، على نحو يستجيب لحاجات الشركة وينفي الحاجة إلى مبنى جديد وفق ما صرحت به إدارة الشركة نفسها.
ومن اللافت أنه رغم ذلك عاد عضو لجنة الإشراف أنطوان حايك (الذي كان عُيّن من قبل الصحناوي، وكان يعتبر الرجل الأقوى في الوزارة) ووجّه بصورة فجائية رسالة عبر بريده الإلكتروني الخاصّ إلى حساب كلود باسيل، أرفقها بالمسودة النهائية لعقد إيجار مبنى قصابيان طالباً السير بالاتّفاقية مجدداً. وخلال 20 دقيقة من تلقيه الرسالة، أرسل باسيل مسودة العقد إلى محامي الشركة طالباً التصرف بصورة فورية، واصفاً الموضوع ب “المستعجل جداً”، ومؤكداً وجوب التوقيع وبدء العمل. وهو ما أدى إلى التشكيك بأن رفض استئجار المبنى لم يكن إلا خطوة تكتيكية تهدف إلى استئجار الطابقين، ثم المضي قدماً باستئجار المبنى. وبعد 6 أيام أرسل باسيل المسودة النهائية إلى لجنة الإشراف موحياً أن المبادرة لإنجاز العقد أتت منه، لتوافق الأخيرة على العقد، ويتم توقيعه في 17/9/2012، وإذ انخفضت قيمة الإيجار المقترحة سابقا طيلة مدة العقد (10 سنوات) نحو 6 مليون دولار لتصل إلى 31.4 مليون دولار، فإن كلفة الانتقال ارتفعت بالمقابل من دون شرح أو تفسير من 5 إلى 10.9 مليون دولار، أي بقيمة تكاد تعادل تماما التخفيض الحاصل على عقد الإيجار.
بعد ذلك، وعلى نقيض الاستعجال في إبرام الصفقة، استغرقت الشركة 9 أشهر لبدء الخطوات اللازمة للانتقال إلى المبنى الجديد. وعليه، يشير ديوان المحاسبة إلى أن “ميك 2” (التي كانت صرحت أنها عاينت المبنى وتثبتت من متانته) استغرقت 9 أشهر قبل أن تكتشف أنه ليس متينا كفاية وأنه مصاب بعيوب هندسية في أساساته، ويحتاج إلى أشهر لإصلاح العيوب فيه وإلى نحو 1.5 مليون دولار لتصليحه، ما سيؤدي إلى تقليص مساحة المبنى بشكل كبير وتأخير الانتقال إليه لأشهر إضافية.
بعد ذلك، ولمدة سنة ظل الخلاف بين الشركة صاحبة المبنى التي رفضت الاعتراف بتقرير دار الهندسة وبين لجنة الإشراف التي رفضت تحمّل “ميك 2” لتكاليف تصليح وتدعيم المبنى، إلى أن اتفق في 24/9/2013 على توقيع ملحق للعقد تتحمل شركة قصابيان بموجبه 700 ألف دولار من كلفة التدعيم على أن يحسم بالتقسيط من مبلغ الإيجار السنوي ابتداء من السنة الثالثة، إضافة إلى تمديد مجاني لمدة 6 أشهر لعقد الإيجار بحيث ينتهي في 16/3/2023 بدلاً من 17/9/2022. وعليه، لا تسترد الشركة جزءا من هذه الكلفة إلا في حال استمرت في العقد.
في 14/12/2013، أي قبل أيام من استقالة الحكومة، وافق الصحناوي على كلفة أعمال التدعيم التي ارتفعت إلى (1.8 مليون دولار) فيما كان تم تقديرها من قبل بمليون ونصف د.أ.
لكن بعدما خلفه الوزير بطرس حرب، اقترح أن تقوم “ميك 2” بفسخ العقد في أسرع وقت ممكن لوقف الهدر (من دون أن يتخذ أي إجراء لاسترداد المال المهدور)، فبدأ نزاع جديد مع الشركة المالكة للمبنى، التي اعتبرت أن العقد المعدل ألغى إمكانية الفسخ المبكر. وقبل يوم واحد من فسخ العقد (16/9/2015) أرسلت “ميك2” كتاباً إلى الشركة المالكة تعلمها فيه بتراجعها عن إنهاء العقد، خلافاً لرأي الوزارة. كما طلبت الشركة تسديد إيجار السنة الرابعة، وهو ما استجابت له الوزارة بعد نجاح المالك بالاستحصال على قرار بالحجز على أموال الشركة (14/11/2016). لينتهي الأمر بدفع إيجار 4 سنوات، إضافة إلى دفع جزء من التصليحات الخاصة بالمبنى، بما مقداره 10 مليون دولار، من دون الانتقال إليه، بالرغم من أن الحجة للمسارعة في استئجاره كانت الحاجة الملحة إليه، مع الإشارة إلى أن الشركة ظلت تستعمل الطابقين المستأجرين حتى العام 2019، تاريخ انتقالها إلى مبنى الباشورة.
وإذ أُقفل ملف الانتقال إلى مبنى قصابيان في العام 2015، إلا أن القضية لا تزال عالقة في القضاء حتى اليوم، نتيجة مطالبة المالك بتسديد إيجار السنوات العشر المحددة في العقد إضافة إلى عطل وضرر بقيمة نحو 20 مليون دولار. وإذ ادّعت النيابة العامة المالية على عدد من مدراء الشركة، انتهى قاضي التحقيق في بيروت إلى وقف الملاحقة ضدهم بحجة أن العقد تم إبرامه بإرادة الوزير الذي لمجلس النواب وحده محاسبته.
وعليه، تم إرسال أوراق الدعوى إلى مجلس النواب، حيث وقّع 26 نائباً عريضة اتهام بحق الصحناوي وحرب إلى جانب الوزير جمال الجراح على خلفية وقائع أخرى وردت في إحالة أخرى للنيابة العامة المالية وفي تقرير ديوان المحاسبة بتاريخ 5/4/2022. إلا أن الهيئة العامة لمجلس النواب لم تنعقد للنظر في هذا الاتهام في الموعد المحدد لها (7 كانون الأول) تبعا لرفض كتل القيام بأي عمل نيابي قبل انتخاب رئيس الجمهورية. هذا الأمر لم يحُل من انعقاد جلسة تشريعية فيما بعد في 18 نيسان 2023.
دفع ثمن مبنى من دون تملّكه
بالتوازي، انتقلت الشركة إلى البحث إلى مبنى آخر، فوقع الخيار على مبنى الباشورة، الذي تحوم الشبهات حول صفقة استئجاره. وأول الغيث يظهر في مسارعة الوزير جمال الجراح بعد نحو أسبوع عمل من نيل الحكومة الثقة (28/12/2016) إلى الطلب من رئيس مجلس إدارة “ميك 2” بدر الخرافي معلومات حول مقرات الشركة والبدلات المسددة عنها، لتبدأ بعد ذلك إجراءات شكلية قادت جميعها إلى المبنى الذي تملكه شركة “سيتي ديفلومنت”، حيث وافق الجراح على توقيع عقد الإيجار لقاء بدل قدره 6.4 مليون دولار سنوياً وعلى توقيع عقد إنجاز المبنى مع شركة مملوكة من مساهمي “سيتي ديفلومنت” أنفسهم بقيمة 22.6 مليون دولار. واللافت أن الإيجار احتسب على أساس أن المبنى جاهز (Core and Shell)، في حين أن “ميك 2” هي التي تكلفت بتجهيزه من أموالها الخاصة، ما كان يحتم أن يكون الإيجار على أساس مبنى غير منجز (أقل بنحو 30 % من المبلغ المدفوع).
ما أن تسلّم الوزير محمد شقير حقيبة الاتصالات خلفاً للجراح، حتى شرع بالتفاوض مع الشركة مالكة المبنى بهدف تحويل عقد الإيجار إلى عقد شراء، وهو ما تحقق بعد أشهر قليلة من استئجار المبنى (31/7/2019). إذ أعلن عن شراء المبنى ب68.6 مليون دولار، يدفع منها نقداً 23.6 مليون دولار دفعة أولى على أن يقسط المبلغ الباقي على ثلاث دفعات يضاف إليها 5.1 مليون دولار فوائد، من دون تناول كيفية استرداد بدل الإيجار المسدد سلفاً عن السنة الأولى والبالغ 6.4 مليون دولار. كما لم يذكر عقد البيع عملية استكمال المبنيين والتي بلغت قيمتها 22.6 مليون دولار، ما يعني أنها “ميك 2” سددت المبلغ مرتين، مرة كمساهمة منها في استكمال المبنى ومرة كثمن لشرائه بعد استكماله.
وبالرغم من انتقال “تاتش” إلى المقر الجديد، إلا أنها تخلّفت عن دفع الأقساط المستحقة من دون سبب واضح، ما أدى إلى رفع الشركة المالكة دعوى، في آذار 2022، تطلب فيها إخلاء المبنى، علماً أن “ميك2″، لسبب مجهول، لم تدفع ثمنه نقداً، بالرغم من امتلاكها 500 مليون دولار في حسابها حينها، ما رتب عليها فوائد كبيرة (في حال تجاوز مسألة عدم جواز أن تشتري شركة مكلفة بإدارة الشبكة فقط عقارات). ولم تكتف الشركة، ومن خلفها وزارة الاتصالات، بذلك، بل لم تضمن حقها في المبنى، وتركته مرهوناً لصالح فرنسبنك ومن دون وضع إشارة عقد على الصحيفة العينية للعقار تمنع تصرف المالك به. وهي بالتالي، تكون قد اشترت مبنى مرهونا من دون أن تتملكه. وهو الأمر الذي لا يزال مستمراً حتى اليوم.
بالنسبة لديوان المحاسبة، ورد في أكثر من موضع أن “الشركة استعجلت إبرام الصفقة أكثر مما استعجلت تأمين مبنى مناسب لحاجاتها”. وهو خلص إلى أنه من خلال الرقابة على الأداء يتضح جلياً أن الإدارة فشلت في تحقيق الأهداف التي وضعتها لنفسها، وبالتالي لم تحقق الكفاءة والفعالية والاقتصادية المطلوبة.
خسائر ضخمة ومتفاقمة
التقرير يُفنّد الخسائر التي تكبّدتها الخزينة من جراء المسؤوليات التي تتراوح بين سوء الإدارة والإهمال وصولاً إلى السطو على المال العام:
مبنى قصابيان: تبلغ النفقات أو المصاريف التي تكبدتها شركة “ميك 2” نتيجة عقد الإيجار مع شركة قصابيان 10.344 مليون دولار، عبارة عن إيجار 4 سنوات إضافة إلى 263 ألف دولار عن أعمال الصيانة، والدراسات والرخص. من دون احتساب ضريبة الأملاك المبنية اشتراكات المياه والكهرباء والرسوم البلدية وما يكون قد استحق نتيجة إلغاء العقود بعد 7/10/2015 أو أتعاب المحامين لمتابعة الدعاوى أو ما قد تنتهي له الدعاوى المقامة ضد شركة “ميك 2” من الشركة المالكة وهي دعاوى ترمي إلى تسديد بدلات السنوات اللاحقة والتي يتجاوز مجموعها 20 مليون دولار.
مبنى الباشورة: المبلغ الإجمالي المتوجب 102 مليون دولار، سُدد منها فعلياً 52 مليون دولار، علماً أن المبلغ المدفوع لاستكمال المبنى عند إبرام عقد الإيجار لم يصر إلى حسمها من ثمن البيع مما أدى إلى تسديدها مرتين، وتصل إلى 22.6 مليون دولار.
ويحدد التقرير المبالغ التي “توجد مؤشرات على تضخيمها” كالتالي:
- بدل الإيجار المسدد عن السنة الأولى انطلاقاً من كون المبنيين غير منجزين ومن كون قيمة بدل الإيجار السنوي، بعد إضافة نفقات استكمال المبنى، تقارب 9 مليون د.أ، ما يشكل دليلاً آخر على تضخيم بدل الإيجار.
- ثمن المبيع حدد ب 68.6 مليون دولار والذي يرجح أن يكون أعلى بكثير من القيمة السوقية آنذاك وفق ما يستشف من تقدير مصرف “فرنسبك” له قبل استكماله، حيث حدد ثمنه بـ22.174 مليون دولار. وإذا أضيف المبلغ المسدد من شركة “ميك 2” لاستكماله وهو 22.6 مليون دولار يتم الوصول إلى تقدير ثمن المبنى بما لا يتجاوز 45 مليون دولار. ويخلص التقرير إلى أن المبلغ الذي يجدر استرداده أو التدقيق في مدى توجبه يقارب 50 مليون دولار.
- تجدر الإشارة إلى احتمال تفاقم الخسائر في حال نجحت الجهة البائعة في دعواها بفسخ العقد وتحصيل غرامة إكراهية قدرها 15 ألف دولار عن كل يوم تأخير أي ما قدره 5.475 مليون دولار عن كل سنة تأخير، لتخلف شركة “ميك 2” عن تسديد رصيد الثمن البالغ 45 مليون دولار (ثلاثة أقساط تدفع في الشهر الأول من 2020، 2021، 2022) أو في حال إفلاس شركة “سيتي دفلومنت” مالكة العقار، مما يؤدي إلى سقوط المبنيين في يد الدائنين أو في حال تنفيذ عقود التأمين من قبل دائنيها (فرنسبك).
هندسات مالية مشبوهة
في التقرير، يسهب ديوان المحاسبة في الإشارة إلى الدعوى التي رفعها المدير العام السابق لتاتش وسيم منصور أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت، في العام 2020، ويشير فيها إلى وجود شبهات عمليات تبييض أموال لإخفاء المنافع غير المشروعة التي تم تحصيلها من صفقتي الإيجار والبيع. ومن أبرز الوقائع التي ذكرها ما يلي:
- تأسيس شركتين في الوقت نفسه قبيل إبرام عقد الإيجار (26/4/2018)، وهما تحديداً: شركة AC Realty المملوكة من حسين عيّاش وشركة BC 1526 المملوكة من نبيل كرم (تأسست في 2/5/2018).
- ضمان بيع العقار للشركتين المُنشأتين حديثاً لضمان اقتسام المنافع غير الشرعية بين المجموعات المعنية بالصفقة. وهذا ما يظهر من خلال محضر صدر عن مجلس إدارة شركة AC Realty بتاريخ 24/5/2018، حيث تمت الموافقة على حصول قرض مالي بالتكافل مع شركة BC 1526 طويل الأجل من فرنسبنك بقيمة 22 مليوناً و174 ألف دولار أميركي لتمويل عملية شراء البلوكين B وC، في مقابل التنازل لمصلحة فرنسبنك عن كامل المبالغ الناجمة عن بدلات الإيجار المعقود مع شركة «ميك 2»، مع التأمين على القرض بضمانة العقار 1526/ الباشورة.
- يُفهم من ذلك أن الشركتين أنشئتا قبل التوقيع على عقد الإيجار وبمناسبة التفاوض عليه، بحيث استُخدمتا كأداة لضمان حقوق الفرقاء المعنيين بالصفقة. ومن شأن هذا الأمر أن يشكّل شبهة على حصول شركة AC المؤسسة بمناسبة هذا العقد على أرباح طائلة من دون مبرّر. وما يعزّز ذلك هو أن شركة AC ليس لها أي رصيد خاصّ في لبنان ولم تقدّم أي رأسمال، بل إنها استخدمت عقد الإيجار ذات البدلات المضخّمة للحصول على القرض من فرنسبنك لشراء العقار. أي أن رأسمالها الوحيد للحصول على قرض بقيمة 22 مليون دولار وشراء نصف العقار تمثّل في أمر واحد، هو صفقتا الإيجار (بقيمة تتجاوز 68 مليون دولار) واستكمال المبنى (بقيمة تتجاوز 23 مليون دولار). وهذا الأمر إنما يشكّل دليلاً قاطعاً على إبرام الصفقة لمصلحة هذه المجموعة بشكل خاص.
- من الثابت أن تحديد قيمة القرض بـ 22 مليون دولار لشراء المبنيين يؤشّر إلى أنه يمثّل القيمة الحقيقية لهما قبل استكماله على نفقة شركة «ميك 2»، طالما أنه لم يكن لشركة AC أي رأسمال في الأساس ولم يثبت استخدامها أي مبلغ إضافي في هذا الخصوص، وعلماً أن المبنى لم يكن منجزاً آنذاك. وهذا الأمر إنما يكشف الإجحاف الحاصل في حق الدولة سواء في عقد الإيجار أو في عقد البيع لاحقاً، حيث دفعت في الحالتين أضعاف ما كان عليها دفعه لو تمت الصفقة وفق شروط السوق. وهذا ما يمكن التأكّد منه من مراجعة عقد القرض المبرم بين الشركتين وفرنسبنك.
هيئة القضايا وفرصة استعادة حقوق الدولة
أهمية استعراض الديوان لهذه المعطيات التي لا تزال أمام القضاء هي أن من شأنها أن تشكّل أداة المواجهة الأبرز مع أصحاب المبنى الساعين إلى استرداده. ولذلك، فإن على هيئة القضايا في وزارة العدل أن تسارع إلى تولي القضية، انطلاقاً من أن الخلاف لا يفترض أن يكون بشأن المستحقات فحسب، من دون أن يعني ذلك عدم تحمل الوزراء والجهات المعنية المسؤولية عن هذا الإهمال غير المبرر، بل بشأن حقيقة الهندسة القانونية التي نُفّذت تمهيداً لعملية استئجار المبنى ثم شرائه بسعر أعلى بكثير من سعره المفترض، إلى درجة أنه حتى مع عدم دفع ال45 مليون دولار المتبقية، فإن مالك العقار حقق أرباحاً طائلة منه.
علماً أن الديوان في توصياته كان ركز على الدور الأساسي لهيئة القضايا في متابعة الملف. وهو دعا إلى:
- أن تعمل وزارة الاتصالات بالتنسيق مع الهيئة على إعداد ملف لتحديد المسؤوليات عن الخسائر المادية التي لحقت فعلا بالأموال العمومية وفقاً لما هو مبين في هذا التقرير تمهيداً لمطالبة المتسببين بتعويض عن العطل والضرر (بالنسبة والتناسبة) تحت طائلة مراجعة الجهات القضائية المختصة.
- أن تعمل الوزارة مع هيئة القضايا ووزارة المالية والشركة المشغلة على نقل ملكية مبنى الباشورة إلى الدولة بأسرع وقت ممكن.
- التعاون بين وزارة الاتصالات والهيئة لتسوية النزاع القائم مع مالك مبنى قصابيان وإنهاء الملف في أسرع وقت ممكن.
- إحالة الملف على النيابة العامة لدى الديوان والنيابة العامة التمييزية وعلى الغرفة القضائية المختصة في الديوان.
وتجدر الإشارة إلى أن التعاون بين الديوان وهيئة القضايا يمكن أن يؤدي إلى تسريع السعي إلى تحصيل حقوق الدولة، خاصة بعد الاجتهاد الأخير للهيئة في قضية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وتحركها لتقديم دعوى ضده من دون الحصول على موافقة وزارة المالية. فالاجتهاد يحرّرها من إلزامية الحصول على موافقة مسبقة من الإدارات المعنية للسير في الإجراءات المطلوبة، بل يفرض عليها القيام بما يتطلبه الدفاع عن مصالح الدولة، تحت طائلة تحميلها مسؤوليّة الإهمال الوظيفيّ.
ومع إعلام مجلس النواب بالملف، وتحديد جلسة للجنة الاتصالات النيابية يوم الثلاثاء المقبل، يرجّح أن يستكمل الديوان عمله بتحويل الغرفة المعنية إلى غرفة قضائية بحيث انتقل التحقيق في الملف من تحقيق إداري إلى تحقيق قضائي، مع توقعات بإصدار سندات تحصيل المبالغ المهدورة على الوزراء الستة مع الحجز على أملاكهم وهو أمر من صلب صلاحيات الديوان، ومساره مختلف عن المسار الذي يمكن أن يتبع في مجلس النواب للادعاء عليهم.
إلى ذلك، كان لافتاً شن وزير الاتصالات الحالي جوني القرم شنّه حملة على التقرير ومن خلفه على ديوان المحاسبة، متهماً إياه بعدم التنسيق معه قبل إصداره، ونافياً ما جاء فيه لناحية تلكئه في وضع إشارة على الصحيفة العقارية لمبنى “تاتش” في الباشورة، مما يبقي ملكية الشركة للعقار عرضة للضياع. ورغم أن شركة “سيتي دفلومنت” كانت طلبت في الدعوى التي قدمتها في 1/3/2023، إلغاء العقد وإخلاء المبنى، فإن الوزير لم يحرك ساكناً، حتى شهر حزيران من العام نفسه لاجئاً إلى “حل مجتزأ وغير مضمون النتائج”، فطلب استشارة من الديوان بشأن دفع المبلغ على سعر 3900 ليرة للدولار من دون أن يكون هنالك أي اتفاق مع الجهة البائعة على ذلك. وقد أوضح الديوان أنه ليس من اختصاصه البت به، علما أنه كان بالإمكان تجنب مسألة سعر الصرف ودفع المستحقات بالشيكات المصرفية بالدولار والتي تملكها الشركة في المصارف.
ويشار هنا أن تسديد المبلغ حاليا لا ينهي احتمال إلغاء عقد البيع بفعل التخلّف الحاصل في تطبيق بنوده. وهو ما سيجعل الدولة، في سعيها للحفاظ على المبنى، مضطرة، على الأرجح، لإثارة وجود جرائم جزائية والانضمام عملياً إلى الدعوى المباشرة التي أقامها المساهم في الشركة وسيم منصور بالتعاون مع المفكرة القانونية وهي الدعوى العالقة حالياًأمام قاضي التحقيق في بيروت فريد عجيب، لحماية مصالحها ومصالح شركة ميك 2.
إلى ذلك، وبالرغم من إشارة الوزير إلى طلبه وضع الإشارة في آذار الماضي (بعد سنة من رفع الدعوى)، إلا أن الإفادة العقارية الخاصة بالمبنى تؤكد أن الإشارة لم توضع حتى اليوم. وعليه، فإن الهدف المُراد من شراء المبنى، وهو تملّكه، لم يتحقق بعد، بالرغم من مرور 4 سنوات، بغضّ النظر عما يعلنه الوزير من إنجازات، علماً أن قضية بهذا الحجم وبما يمكن ان تسببه من ضرر على المال العام، كان بالإمكان أن يجعل منها الوزير قضية مركزية يستنفر فيها قدرات الوزارة أو حتى قدرات مجلس الوزراء لحلّها، بدلاً من التحجج بإغلاق الدوائر العقارية.
وللمفارقة وتأكيداً على تقاعس الوزارة عن القيام بواجبها بحجج مختلفة، أرسل المدّعي العامّ لدى الديوان القاضي فوزي خميس اليوم كتاباً إلى المدير العام للدوائر العقارية جورج معرواي يطلب فيه وضع إشارة عقد بيع لصالح شركة “ميك 2” على العقار ومنع التصرف به إلى حين انتهاء التحقيقات التي باشرتها، حرصاً على المصلحة العامة والأموال العمومية، لأن عدم وضع الإشارة يعني أن ملكية الشركة للعقار ستكون عرضة للضياع في حال أفلست شركة “سيتي دبلومنت” أو عمد مصرف “فرنسبنك” إلى تنفيذ التأمين الملقى لصالحه على العقار لأي سبب كان. إلا أن قانونية هذا الطلب قد تكون محل اعتراض من الشركة المالكة، الأمر الذي يفرض بصورة ملحة أن تسارع هيئة القضايا إلى وضع خطة الدفاع عن مصالح الدولة بالتنسيق مع وزارة الاتصالات والنيابة العامة المالية عملا بتوصيات الديوان.