دير عمار 2: نموذج التسويات السياسية التي تقود الدولة إلى الإفلاس


2022-01-19    |   

دير عمار 2: نموذج التسويات السياسية التي تقود الدولة إلى الإفلاس

ليس من خفّة ولامبالاة أكثر من تعامل السلطة السياسية مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية. كل شيء يُقاس بالمصلحة السياسية والشخصية. الاتهامات المتبادلة بالفساد والسرقة لا تستدعي من أيّ سلطة رقابية التحرّك. يمرّ الاتهام بوصفه اتّهاماً سياسياً لا تبعات قضائية له، لكن هكذا اتهامات تُوضّح فعلاً كيف تُدار الدولة وكيف يُظلم الناس. هكذا مرّ اتهام علي حسن خليل المتكرّر لجبران باسيل بمحاولة تمرير سرقة 50 مليون دولار في صفقة دير عمار مرور الكرام. وقبلها مرّ اتهام باسيل لخليل بعرقلة مشاريع الكهرباء كبناء معمل دير عمار مرور الكرام. يتناسى الطرفان، على سبيل المثال، أنّ عدم إنجاز معمل دير عمار الذي كان يُفترض أن يؤمّن 450 ميغاواط من الطاقة في العام 2015، ليس مسألة تحتمل التعامل معها كما لو أنّها خلاف في الرأي. هو خلاف ساهم بشكل مباشر بانهيار قطاع الكهرباء، ومن ثم ساهم بانهيار الاقتصاد والنقد. هنا لا يُصبح مهمّاً من يتحمّل مسؤولية إفشال المشروع ومن هو الحرامي الفعليّ. الأهم أن إنجازاً ضخماً لم يُنفّذ في الوقت المناسب، أي عندما كان البلد في بحبوحة مالية ووفر في ميزان المدفوعات، ليس لشيء سوى لأنّ المساومات السياسية أو ربما بكلام أكثر فجاجة شروط المحاصصة أو العمولات لم تكتمل.

عدم تنفيذ معمل دير عمار يعني ببساطة أن الخزينة اضطرّت إلى تمويل عجز كهرباء لبنان بما بين مليار وملياري دولار سنوياً. وهذه المليارات بعد العام 2016، حيث عاد ميزان المدفوعات إلى العجز وحيث صارت كلفة الاستدانة أكبر بكثير، نظراً لتراجع التصنيف الائتماني للبنان، يعني خسائر لا تُقدّر بثمن. فبناء المعمل كان العمود الفقري لخطّة الكهرباء التي تشمل أيضاً رفع التعرفة وتحقيق التوازن المالي لكهرباء لبنان بما يسمح لها بدفع ثمن الفيول بدلاً من الخزينة، على أن يعقب ذلك تعيين الهيئة الناظمة التي تعطي تراخيص للقطاع الخاص لمواجهة الزيادة المستقبلية في الطلب. 

كل ذلك لم يحصل، وكان البديل استمرار التقنين مقابل تكليف الخزينة مبالغ باهظة لتعويض عجز المؤسسة عن دفع ثمن الفيول، فلو نفذت الخطة، لما كانت الدولة اضطرت إلى تعويض عجز المؤسسة ودفع ثمن الفيول. والخسائر هنا لا تقتصر على الخزينة، فالاقتصاد تكلّف خسائر لا تحصى، إذ اصطلح بين العاملين في القطاع على اعتبار أن كل كيلوواط/ ساعة لا يوضع على الشّبكة يؤدّي إلى خسارة الاقتصاد 70 سنتاً. ولما كان متوقعاً أن يساهم معمل عمار برفد الشبكة ب450 ميغاواط (450 ألف كيلوواط)، فهذا يعني خسارة غير مباشرة للاقتصاد تُقدّر بنحو 315 مليون دولار سنوياً. 

بداية أزمة دير عمار

تعود قصة معمل دير عمار2 إلى العام 2011، حين أقر القانون رقم 181، واضعاً المعمل كجزء من صفقة شاملة تعد بكهرباء 24 على 24. وعليه، أجريت في العام 2013 مناقصة لبناء المعمل فازتْ بها شركة يونانية تُدعى JP Avax، بكلفة بلغت نحو 500 ألف دولار (360 مليون يورو). حينها، لم تكن قد حُسمت مسألة التمويل، التي كانت سبباً لخلاف سياسي كبير، بين التيار الوطني الحرّ الذي يريد تمويل الخطّة من الخزينة وخصومه آنذاك، ولاسيما “أمل” و”المستقبل”، الذين كانوا يريدون أن تُموّل من الصناديق العربية. وقد ارتبطتْ رغبتُهم تلك برغبتهم في الحؤول دون تحكُّم جبران باسيل في مشاريع الكهرباء على خلفية أن الصناديق المموّلة غالباً ما تشترط منحها حق الرقابة على المشاريع المموّلة من قبلها. هذه التناقضات والصراعات انتهت بتسوية عبّر عنها القانون رقم 181 تاريخ 5/10/2011، الذي خصّص اعتماداً إجمالياً قدره 1772 مليار ليرة لأشغال كهربائية لإنتاج 700 ميغاوات ونقل وتوزيع الطاقة الكهربائية (يشمل مشروع معمل دير عمار ومعمليْ الزوق والجيّة، إضافة إلى إنشاء عدد من محطّات التحويل الرئيسية ومحطات التوزيع). وأجاز القانون للحكومة عقد كامل هذا الاعتماد والمباشرة بالتنفيذ قبل توفّر اعتمادات الدفع في الموازنة. كما تضمّن في المادة السادسة منه الإجازة للحكومة تغطية الاعتماد بواردات استثنائية وإيجاد مصادر تمويل من خلال قروض ميسّرة و/أو بإصدار سندات خزينة بالعملة اللبنانية أو بالعملات الأجنبية. وأضيف إليها عبارة: “يسعى رئيس مجلس الوزراء لدى الصناديق والهيئات الاقليمية والدولية أو سواها لتأمين التمويل اللازم”. 

     مسألة المبلغ الإجمالي للاعتماد كانت بيت القصيد. هنا تكثر التأويلات لما حصل. لكن الأكيد أنه عندما أُنجزت مناقصة معمل دير عمار لم يكن قد تبقّى من الاعتماد المخصّص لمعامل الإنتاج في القانون 181، والمحدّد ب 1282 مليار ليرة من أصل إجمالي مبلغ الـ1772 مليار ليرة الذي ينصّ عليه الاعتماد، سوى ما يُعادل 750 ملياراً، كان يتوجّب إجراء المناقصة على أساسها. إذ صودف أن أنجزت مناقصة معمليْ الزوق والجيّة قبل مناقصة دير عمار ووافق عليها مجلس الوزراء. وعندما أنجزت المناقصة للمرة الأولى لدير عمار، وتبيّن أن كل العروض تتخطى 500 مليون دولار (قدّم نزار يونس بالتحالف مع شركة إسبانية العرض الأفضل)، رفض مجلس الوزراء نقل اعتماد من البند المخصّص للتوزيع إلى بند معامل الإنتاج بما يسمح بالسير بالمناقصة، فألغيَت. بعدها، طُلب من الاستشاري تقليل الأعمال في الموقع، بما يضمن أن يكفي الاعتماد المرصود. وبالفعل، أُجريَت المناقصة الثانية وفازت فيها الشركة اليونانية بمبلغ إجمالي يبلغ 360 مليون دولار.

يقول وزير الطاقة الأسبق سيزار أبي خليل ل”المفكرة القانونية”، في هذا السياق، إن مسألة الضريبة على القيمة المضافة لم تكن مطروحة حينها، لا في المناقصة الأولى التي ألغيت ولا في مُناقصة معمليْ الزوق والجية التي مُوّلت من الدانمارك، وأُنجزتْ من دون أن تطرح وزارة المالية أو أي طرف آخر إشكالية الضريبة على القيمة المضافة، التي اعتبرها الجميع غير متوجّبة بسبب التمويل الأجنبي للصفقة (علما أنه تمويل لم يتمّ ضمانه). وهو لذلك يسأل: ما الذي تغيّر عند تنفيذ مناقصة معمل دير عمار. ليجيب بنفسه إن المطلوب كان عرقلة الصفقة منذ البداية، تنفيذاً لأجندة مجهولة.

مع ذلك، فإن الرواية الأخرى تشير إلى أنه بعد رفض مجلس الوزراء زيادة الاعتماد، وبالتالي إلغاء نتيجة المناقصة وإعلان إطلاق مناقصة أخرى، تمّ الإيعاز إلى الشركات بتقديم العروض من دون الضريبة على القيمة المضافة، على أن يُصار إلى حلّ المسألة لاحقاً، من خلال اعتماد إضافيّ. لكن مسار الصفقة لم يسِرْ كما تشتهي الوزارة. 

وقبل المضي في استعراض الإشكالات التي طرأت بشأن مدى استحقاق الضريبة على القيمة المضافة، تجدر الإشارة هنا إلى أنّ المشكلة بين شركة JP Avax ووزارة الطاقة كانتْ بدأتْ قبل إثارة هذه المسألة. فالبرغم من إعطائها أمر مباشرة العمل في 19 تموز 2013، لم تتمكّن الشركة من تسلُّم الموقع المخصص لبناء المعمل بسبب إشغاله من قبل الجيش اللبناني (لم يغادر قبل 11 نيسان 2014). وفي هذا الوقت، كانت الشركة تعمل على إعداد الدراسات والمسوحات التحضيرية، إلا أنها لم تتمكّن من إحضار المولّدات التي كانت قد أنجزتها في الدنمارك وعاينها الاستشاري وجرّبها هناك، بسبب عدم توافر الأرض التي ستخزّن فيها. علماً أنها كانت في هذا الوقت تراسلها، موضّحة أنها تتعرض لخسائر كبيرة لقاء تخزين المولّدات في الدانمارك. وعليه، فقد عاد المتعهّد وتخلّى عن هذه المولّدات التي حجزها، حتى قبل صدور القرار المتعلّق بالضريبة. 

قصة الضريبة على القيمة المضافة

يؤكّد القانون 181 نفسُه إذاً أنّ مشروع دير عمار حُجز له الاعتماد بالفعل، ولولا ذلك لما أنجزت إدارة المناقصات المناقصة. فقانون المحاسبة العمومية يفترض توفّر الاعتماد لأيّ مناقصة قبل إنجازها. والأمر نفسه ينطبق على ديوان المحاسبة الذي لا يمكنه الموافقة على أيّ صفقة لا اعتماد لها. وهذا يعني تالياً أن الصفقة مشمولة بالضريبة على القيمة المُضافة لكونها مموّلة من الخزينة. لكن ديباجة القانون 181 التي تركتْ الباب مفتوحاً أمام إمكانية تأمين التمويل له من أحد الصناديق، تشير إلى إمكانية أن تُعفى منها لاحقاً إذا تأكّد أنّ مصدر التمويل هو الخارج. ويتأتّى ذلك من أحكام قانون الضريبة على القيمة المُضافة الذي نصّ على  إعفاء الصفقات المموّلة من الخارج منها انطلاقاً من أنّ أيّ مموّل خارجيّ لا يُموّل الضرائب. 

والتزاماً بالقانون نفسه، نصّ دفتر شروط المناقصة، الذي يُعتبر بمثابة قانونها، أنّ الضريبة على القيمة المضافة “يجب أن تكون مبيّنة على حدة وبشكل منفصل وفي حال لم تذكر في تحليل الأسعار يُعتبر العارض قد احتسبها ضمن السعر الإجمالي تلقائياً”. 

الوزيرة السابقة للطاقة والمياه ندى بستاني أصدرت في 3 كانون الثاني 2022 بياناً ردّت فيه على ردّ خليل على باسيل. وأعادت التأكيد أن لا ضريبة على مبلغ الالتزام. وهي استندت هنا بشكل خاص على القرار الأول الذي صدر عن ديوان المحاسبة بتاريخ 6/4/2013 (هيئة برئاسة القاضي عوني رمضان وعضوية المستشارين رمزي نهرا ولينا حايك)، في إطار الرقابة المسبقة، والذي وافق على قرار التلزيم وترك مسألة الضريبة على القيمة المضافة معلّقة على مصدر التمويل. واتهمت خليل والجهة “التي تبسط سيطرتها على الديوان”، “بممارسة الضغط عليه، حتى صدر بعد عامين من القرار الأول قرار ثاني معاكس على قياس صاحب السيطرة”.

ويتضح عند الاطلاع على القرار الأول أن بستاني نفسها كانت، بصفتها مستشارة لوزير الطاقة آنذاك جبران باسيل، أحد المصادر التي اعتمد عليها الديوان لاتّخاذ قراره. فقد جاء فيه أنّها وكذلك المستشار الثاني للوزارة أنطوان كعدي أفادا في شهادتهما بأنّ المشروع مُعفى من الـTVA، لأنه سوف يتم تمويله من مصادر خارجية، وأن العارضين لم يذكروا الضريبة ضمن أسعارهم لهذا السبب.   

يبقى أن هذا القرار الذي تأثّر بموقف الوزارة يُخالف قوانين المحاسبة العمومية والضّريبة على القيمة المُضافة ودفتر شروط المناقصة، حيث لا يمكن الموافقة على صفقة لا اعتماد لها، وأن مجرد وجود اعتماد في الخزينة يعني أنها مشمولة بالضريبة على القيمة المضافة. أما أن يضع القرار مسألة الضريبة جانباً على أساس احتمال تمويل مستقبلي من الخارج فهي هرطقة قانونية طالما أن ديوان المحاسبة لا يتعاطى بالتنجيم حول مصادر التمويل إنما يوافق على صفقة فقط إذا كان اعتمادها مؤمّناً. وبكلمة أخرى، لو لم يكن الاعتماد موجوداً فعلاً لكان رفضها. وما يزيد من قابلية القرار للانتقاد هو أنّه يتضمن الإشارة إلى وجود الاعتمادات اللازمة لتغطية النفقة مع ذكر رقم التنسيب لهذه الاعتمادات سواء المدورة من العام 2012 أو تلك العائدة للعامين 2013 و2014.

كذلك، فإن لجنة التلزيم في إدارة المناقصات كانت أرستْ المناقصة على صاحب العرض الأقلّ بمبلغ إجمالي قدره 360.966 مليون يورو. والإشارة إلى المبلغ الإجمالي في قرار التلزيم يعني، بحسب المدير العام لإدارة المناقصات جان عليّه، تضمّنه كل الضرائب. وهو يوضح للمفكرة القانونية أن ذلك يتأكد أيضاً في الإشارة إلى “كلفة المشروع”، فالكلفة لا يمكن أن تكون إلا شاملة. وأيّ أمر آخر يمكن أن يمسّ بعدالة المنافسة بين العارضين.

بغض النظر عن صوابية القرار من عدمه، فقد أعطى إشارة الانطلاق لتنفيذ الصفقة. إلا أن وزارة المالية تمسّكت بوجوب أن يدفع المتعهّد الضّريبة على القيمة المُضافة، لكنّ، تطبيقاً لقرار ديوان المحاسبة، اعتبرتْ أنها لا تدخل ضمن مبلغ ال360 مليون يورو. فعندما أراد المتعهّد دفع قيمة الطابع المالي (3% من قيمة العقد في حينها)، احتسبتْ الوزارة قيمة الطابع نسبة إلى ال360 مليون يورو زائد 36 مليون يورو هي الضريبة على القيمة المضافة. ولذلك، كان المتعهد ملزماً تضمين فواتيره هذه الضريبة. وفي كانون الثاني 2014، أرسلتْ الشركة فاتورتيْن للوزارة، الأولى بدل دراسات وتقييم فني، وبلغت قيمتها 30 مليون دولار. والثانية، بدل ثمن المولّدات وقيمتها 133 مليون دولار. وقد تضمّنت الفاتورتان الضريبة على القيمة المضافة.

لكن بحسب المدير العام للكهرباء في وزارة الطاقة آنذاك غسان بيضون، فإن الفواتير بقيت في الوزارة بفعل رفضه إرسالها إلى وزارة المالية، بخلاف ما كان يطلبه الوزير جبران باسيل ثم نظريان، لأنه كان يؤكد أن لا آلية تسمح له بإرسال فواتير تتضمن ضريبة على القيمة المضافة في حين أن ديوان المحاسبة قد وافق على التلزيم من دون أن يتضمّن المبلغ المرصود هذه الضريبة، طالباً تحويل الأمر مجددا إلى الديوان لأخذ موافقته. وقد بقيت هذه الفواتير في الوزارة من كانون الثاني 2014 حتى آب من العام نفسه، حيث أرسل وزير الطاقة الجديد أرتور نظريان  طلب حجز الاعتماد الإضافي الخاص بالضريبة على القيمة المضافة إلى الديوان لأخذ موافقته. 

في ذلك الوقت، كان مرّ نحو سنة على إرساء التلزيم على الشركة اليونانية من دون أن يتمّ صرف أيّ فاتورة من تلك التي أرسلتْها إلى الإدارة. 

بعد ذلك، صدر القرار الثاني عن الديوان في 4/9/2014 (برئاسة القاضي ناصيف ناصيف وعضوية المستشاريْن عبدالله الفتات وفاديا المقنزح رحيم) وقضى بعدم الموافقة على حجز الاعتماد المنظّم لاحتساب الضريبة على القيمة المضافة، مُعتبراً أنّها محتسبة ضمناً في السعر الأساسي للملتزم. وبالتالي لم يعد بإمكان الوزارة دفع الTVA، إلا إذا كانت من ضمن مبلغ ال500 مليون دولار. 

الديوان يرفض زيادة الاعتماد مجدداً

مرّ نحو عام، من دون أن يتحرّك الملف، بعدما رفضت وزارة الطاقة التسليم بالقرار الثاني للديوان، علما أنه لمجلس الوزراء وحده إمكانية الإجازة بإهمال قراراته بشأن الموافقة المسبقة. وبقي الحال على ما هو عليه حتى 20/10/2015، حين أرسل رئيس مجلس الوزراء تمام سلام كتاباً إلى الديوان يطلب فيه توحيد الاجتهاد بين القرارين. وبالفعل، اجتمعت هيئة الديوان في 15/11/2015، وخلصت في قرارها إلى أن دفتر شروط الصفقة هو قانونها وبعد رسو الالتزام على العارضين لا يمكن زيادة أي مبالغ مالية إلى المبلغ الذي توصّلت إليه المناقصة، لاسيما بعد اقترانها بموافقة ديوان المحاسبة وإبلاغها إلى الملتزم المؤقت، لأن ذلك في حال حصوله يُعدّ تعديلاً لسعر الملتزم ومن شأنه المسّ بمبدأ المنافسة بين العارضين. وعليه، أكّدت الهيئة على ما يعتمده الديوان خلال ممارسته للرقابة المسبقة، أي أنه في حال عدم ذكر قيمة الضريبة على القيمة المضافة في خانة مستقلة تكون داخلة ضمن سعر العارض، وبالتالي محتسبة ضمناً في السعر الأساسي، ويكون ما ذهب إليه الديوان في 4/9/2014 متوافقاً ومنسجماً مع ما درج على تطبيقه وهو القرار الواجب التطبيق. 

لم تقبل وزارة الطاقة والمياه بالقرار، وذهبت إلى مجلس الوزراء عارضة الخلاف مع الديوان. لكن المجلس رفض البتّ بالنزاع القائم بشأن الضريبة على القيمة المضافة، مؤكّداً بالتالي على عدم كسر قرار الديوان. 

انتهى ملف دير عمار عند هذا الحد. غادرت الشركة اليونانية من دون تنفيذ المعمل، وبدأت إجراءات مقاضاة الدولة. لكن في العام 2018، كانت نضجت على أنقاض التسوية الأولى التي لم تكتمل، تسوية ثانية وُعد الناس من خلالها مجدداً بالكهرباء.  

عقد جديد … تسوية جديدة

وافق مجلس الوزراء في تاريخ 26/4/2018 على تفويض وزيريْ المالية علي حسن خليل والطاقة سيزار أبي خليل التفاوض لإيجاد حلّ لموضوع العقد الموقّع بين شركة JP Avax والدولة اللبنانية والمتعلّق بأشغال معمل دير عمار، عن طريق تحويل العقد من EPC إلى BOT مع الشركة الملتزمة بواسطة شركة لبنانية تخضع في أحكامها للقوانين اللبنانية، شرط تنازل الشركة اليونانية عن الدعوى التحكيمية ضد الدولة وشرط الاستحصال على أفضل الأسعار والشروط الممكنة. وبنتيجة التفاوض، أبلغ الوزير سيزار أبي خليل مجلس الوزراء أنّ الشركة وافقت مبدئيّاً على تحويل العقد إلى BOT، حيث تلتزم بتنفيذ المشروع وفق دفتر الشروط الفني نفسه وتوقيع اتفاقية شراء طاقة PPA يرضي الطرفين. 

وفي تاريخ 21/5/2018 وافق مجلس الوزراء على تحويل العقد إلى عقد شراء طاقة طويل الأمد PPA (عشرون سنة قابلة للتجديد خمس سنوات، تعود بعده المنشأة إلى الدولة على أن يعتمد سعر 2.95 سنتاً للكيلوواط ساعة).

هكذا ببساطة، قررت السلطة التعامل مع الأمر على قاعدة عفا الله عمّا مضى. فلم يفتح ديوان المحاسبة أو أيّ سلطة رقابية أو قضائية تحقيقاً لتحديد المسؤوليات، بل كان الحل بتسوية جديدة. وهذه التسوية كانت نضجت قبل عرض الملف على مجلس الوزراء، ومجدداً عبر محاصصة سياسية أفضت إلى إنشاء شركة جديدة يملكها كل من: الشركة اليونانية (صاحبة العقد السابق والمسؤولة أمام وزارة الطاقة عن تنفيذه) التي ستمتلك بموجب الاتفاق الجديد 20٪ من أسهم الشركة، كما ستحصل على 50 مليون دولار من المساهمين الجدد، رجل الأعمال اللبناني ريمون رحمة الذي حصل على 29٪، ورجل الأعمال الأردني اللبناني علاء الخواجة الذي تملّك 51٪ منها.

ولمزيد من التفاؤل، أعلن وزير الطاقة آنذاك سيزار أبي خليل أن إنشاء المعمل سيبدأ في نهاية العام (2018)، كما تردد أن المساهمين سينجزون المعمل بطاقة إجمالية تبلغ 760 ميغاواط (535 من المحركات العكسية و225 ميغاواط من البخار). لكن مع مرور الوقت لم يكن يحصل أي تقدّم، ولم يعلن عن إطلاق المشروع الذي كرّس الخصخصة عملياً، لكن من دون مناقصة شفّافة ومن دون دفتر شروط واضح ومن دون تعيين هيئة إدارة قطاع الكهرباء، التي تولى مجلس الوزراء مهامها منذ العام 2011 ولا يزال.

10 ساعات متعذّرة

بغضّ النظر عن التركيبة التي أفضت إلى هذه النتيجة، إلا أنها كانت كفيلة بعودة الناس إلى الحلم مجدداً بكهرباء 24/24. لكن مجدداً كل المهل والآمال التي وُضعت تبخرت، فلا بدأت الشركة بتنفيذ المعمل، ولا حصل أي تقدم. ما حصل كان العكس. بعد الانهيار الاقتصادي انتهى المشروع تماماً، فالممولون الذين سبق أن أعطوا موافقتهم على تمويل المعمل انسحبوا وصار من المستحيل إيجاد ممولين خارجيين في ظل تخلّف الدولة اللبنانية عن دفع ديونها. وهذا أخذ بطريقه أيضاً تمويل مشروع “هوا عكار”، فعادت الأمور إلى الصفر. لكن مع استمرار الأزمة الاقتصادية الخانقة ومع تفاقم أزمة الكهرباء وتكرر الانقطاعات الشاملة بالإضافة إلى انحسار التغذية إلى 3 ساعات يومياً، تقلص الحلم. وصار الوعد ب10 ساعات يومياً أقصى المنتظر. لكن حتى الساعات العشر التي يُفترض أن تتأمن عبر استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية لا تزال تتأخر بسبب حاجة كل الأطراف إلى ضمانات أميركية صريحة تحرر الصفقة من مفاعيل قانون قيصر.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني