بتاريخ 03/10/2013، أصدرت محكمة التمييز (الغرفة الثالثة الجزائية) المؤلفة من القضاة سهير الحركة والمستشارين غسان فواز وناهدة خداج، قراراً يقضي بوقف الملاحقة ضد شخص مدمن وإحالته الى لجنة مكافحة الإدمان، تبعاً لتعهده بالعلاج، سنداً للمادة 194 من قانون المخدرات التي كانت قد كرست مبدأ العلاج كبديل من الملاحقة، ملزمة القاضي بوقف الملاحقة فور تعهد الشخص المدمن بالعلاج. وكان المدعى عليه في هذه القضية قد تقدم بدفع طالباً وقف الملاحقة ضده وإحالته الى لجنة مكافحة الإدمان، وقد تدخلت محكمة التمييز لنقض ما خلص اليه المرجعان الاستئنافي والابتدائي في رد هذا الدفع. وقد جاء استناد المحكمة الى قاعدة “أن النص القانوني وجد لإعماله وليس لإهماله” جد معبر، فكأنها بذلك تنقض ليس فقط القرار المطعون فيه أمامها، بل توجهاً قضائياً مزمناً، غلبت فيه الآراء المسبقة إزاء الإدمان والمدمنين على النص القانوني نفسه. ومن المفيد إذاً هنا أن نوثق المراحل التي قطعها القضاء منذ إقرار القانون حتى صدور هذا القرار (المحرر).
المرحلة الأولى: 1998-2007: إهمال نص قانون المخدرات بالكامل
بدأت هذه المرحلة مع صدور قانون المخدرات سنة 1998، واستمرت كنهج عام في المحاكم حتى 2008، وقوامها إهمال مبدأ “العلاج كبديل من الملاحقة والعقاب” وكأنه لم يكن. وكان قانون 1998 قد اعتمد طريقة تعامل جديدة مع فعل الإدمان، تيمناً بالقانون المقارن، مفادها وقف ملاحقة الشخص المدمن في حال تعهده بالعلاج. وقد بُني هذا النص على اعتبارات عدة: أهمها أن المسؤولية الجزائية باستعمال المادة المخدرة يكون بالضرورة منقوصاً عند حصول ارتهان للمادة المخدرة، ولذلك يجب عدم محاسبة الشخص المدمن على إدمانه بل محاسبته فقط إذا رفض العلاج، أي إذا رفض التحرر من ارتهانه له. وبذلك، وخلافاً لما هي الحال بخصوص الأفعال المجرّمة الأخرى، لا تهدف العقوبة هنا الى الإدانة بل الى الضغط على الشخص المدمن لإلزامه بانتهاج سكة العلاج والمثابرة عليه. ولهذه الغاية، أوجد القانون لجنة للإشراف على علاج الشخص المدمن والتثبت من تمامه، كما حمّل الحكومة مسؤولية ضمان علاج مجاني للشخص المدمن من خلال إيجاد مراكز للعلاج والرعاية. غير أنه، رغم وضوح هذه الأحكام القانونية، لم تقم السلطة التنفيذية بالإجراءات اللازمة لتفعيل هذه الآليات المنصوص عليها قانوناً. فلم يعيّن وزير العدل أعضاء لجنة مكافحة الإدمان إلا بعد مرور ست سنوات من إقرار القانون، وهي لجنة سرعان ما أوقفت أعمالها لتعلن عجزها عن القيام بدورها لعدم توافر مراكز علاج معتمدة من وزارة الصحة، من شأنها أن تقدم علاجاً مجانياً. وقد استمرت هذه الحالة رغم تشكيل لجنة ثانية سنة 2009، وبقيت هي الأخرى معطلة حتى أول 2013.
وإزاء هذا الوضع، وجد القاضي نفسه أمام أزمة ضميرية: فالخيار لديه ليس بين العلاج أو الملاحقة كما يفترض القانون، بل بين الامتناع عن الملاحقة من دون علاج أو مواصلة الملاحقة من دون نص. وتالياً، كان عليه إما أن يوقف ملاحقة الشخص المدمن الذي يعلن عن إرادته للعلاج ولكن من دون أن يخضع هذا الأخير فعلياً للعلاج بسبب عدم توافر آلياته؛ وإما أن يواصل الملاحقة ومن ثم معاقبة الشخص المدمن بالرغم من إعلان إرادته للعلاج، ما يشكّل تالياً عقاباً من دون نص. ويظهر التدقيق في الأحكام القضائية الصادرة في هذه المرحلة أن المحاكم انحازت عموماً الى هذا الخيار الثاني، أي الى مواصلة أعمالها كما اعتادت عليه وفق المنطق العقابي وفي توجه يستعيد الآراء المسبقة ضد هذه الفئة الاجتماعية ولو خلافاً لنص القانون وتوجهاته[1].
ويلحظ أن أحد القضاة بقي متمسكاً بهذا التوجه رغم إبراز الشخص المدمن المدعى عليه أمامه إفادة صادرة عن مركز علاج بتمام شفائه، معللاً ذلك أن وقف الملاحقة لا يصح إلا إذا حصل العلاج ضمن الآليات المحددة قانوناً (أي اللجنة ومراكز علاج معتمدة) وهو أمر لم يحصل[2].
المرحلة الثانية: 2008-2011: بروز تيار قضائي بتوظيف المحاكمة لثني المدمن عن استعمال المواد المخدرة:
ابتداءً من أوائل سنة 2008، برز تيار قضائي واسع أكثر تفهماً لخصوصية قضايا الإدمان. وقد عكس انتشاره بدء تحوّل داخل القضاء في اتجاه اعتماد مقاربة شبه بيداغوجية في التعاطي مع الشخص المدمن، تمهد له للتخلي عن المقاربة العقابية البحتة. وقد اعتمد هذا التيار في هذه المرحلة ما تتيحه له أصول المحاكمات الجزائية أو قانون العقوبات من إمكانات لتحفيز الشخص المدمن على العلاج أو لحثه على الانقطاع عن استعمال المادة المخدرة، ولكن من دون أن يصل أي من القضاة الى درجة إصدار قرارات بإبطال التعقبات في حال شفاء هذا الأخير من الإدمان.
ومن أبرز هذه الآليات، ربط قرارات إخلاء السبيل بتعهد الشخص المدمن الموقوف بالعلاج أو إرجاء الدعوى من جلسة الى جلسة ومراراً مع تكليف الشخص المدمن بإبراز فحوصات مخبرية دورية تثبت انقطاعه عن تعاطي المخدرات، مع إفهامه أن من شأن نجاحه في الانقطاع عن تعاطي المادة المخدرة أن يؤثر إيجاباً على وضعه القانوني. وبذلك بدا هذا التيار وكأنه يستخدم سلاح العقاب لإقناع المدمن بوجوب الانقطاع عن المادة المخدرة. وإزاء شائعات عن سهولة تزوير الفحوصات المخبرية، ذهب بعض القضاة الى تكليف المدعى عليهم بالخضوع لفحوصات بول في الجلسة نفسها. لكن، رغم تجاوب العديد من المدعى عليهم مع هذه المقتضيات، فإن مكافأتهم على ذلك اقتصرت على وقف تنفيذ العقوبة من دون أن تصل الى وقف الملاحقة بالكامل، وهو الأمر الوحيد الذي يبقي السجل العدلي نظيفاً. كما نلحظ في الإطار نفسه أن بعض القضاة استخدموا آلية وقف التنفيذ لتحفيز الشخص المدمن على العلاج كأن يصدرون قرار وقف التنفيذ مشروطاً بخضوع الشخص المدمن له، محتفظين بحق متابعة الملاحقة بعد صدور الحكم إذا لم يذعن المحكوم عليه لهذا الشرط أو حاد لاحقاً عنه[3].
المرحلة الثالثة: تبلور المقاربة البيداغوجية أو بدء التنسيق بين القضاة ومراكز العلاج:
تزامناً مع تطور التوجهات القضائية في ملفات الإدمان، وبهدف ملء الفراغ الذي خلّفه تقاعس السلطات العامة في تفعيل لجنة مكافحة الإدمان، أطلقت بعض الجمعيات وفي مقدمها جمعية “سكون” حواراً مع القضاة بهدف الالتقاء في منتصف الطريق في إطار تجارب ريادية للالتزام بروحية قانون المخدرات وإعمال مبدأ العلاج كبديل من الملاحقة. وقوام هذا التعاون هو بناء ثقة بين القضاة والمراكز مع تطوير نظام لإحالة ملفات الإدمان العالقة أمام المحاكم الى مراكز للعلاج.
وبفعل هذا المجهود، نشأت مبادرات تنسيق بين بعض القضاة ومراكز العلاج أدت الى تطوير دور القاضي على نحو يجعل منه عاملاً بيداغوجياً لا يحفز الشخص المدمن على العلاج وحسب، بل يواكبه في علاجه ويراقب تطوره واستمرار انقطاعه عن تعاطي المخدرات من خلال تقارير دورية ترسلها اليه مراكز العلاج[4].
وفي هذا الصدد تُذكَر تجربتان مميزتان قامت المفكرة القانونية بتوثيقهما:
– تجربة القاضية المنفردة الجزائية في طرابلس نازك الخطيب التي بادرت الى تعزيز جسور الثقة بينها وبين الشخص المدمن ومركز “سكون” للعلاج، ذاهبة الى حد الحديث عما أسمته “عقد ثقة” مع الشخص المدمن. ولكن اكتفت القاضية الخطيب هنا أيضاً بتفعيل العلاج على أن يُستتبع تجاوب الشخص المدمن معه وقف تنفيذ العقوبة وفق ما وصل اليه التيار السابق الذكر من دون أن تصل الى وقف الملاحقة[5].
– وتجربة القاضي المنفرد الجزائي في البترون منير سليمان، الذي ذهب أبعد من ذلك: فلم يكتف بالحلول محل اللجنة للتيقن من تحرر الشخص المدمن من ارتهانه بل ذهب الى حد وقف الملاحقة كما نتبين في الحكم الصادر في 07/05/2012. وقد علل ذلك بعدم جواز تحميل الشخص المدمن مسؤولية عدم تفعيل لجنة مكافحة الإدمان عملاً بمبدأ شخصانية المسؤولية[6].
المرحلة الرابعة: ارتباك قضائي تبعاً لتفعيل لجنة مكافحة الإدمان
هذه المرحلة بدأت في أوائل سنة 2013، أي بعد مضي 15 عاماً على صدور قانون المخدرات، وقوامها إعلان وزارة العدل تفعيل لجنة مكافحة الإدمان بعدما توافرت بعض فرص العلاج في مستشفيات حكومية (ضهر الباشق). إلا أنه رغم أهمية ذلك، فقد سُجِّلت أمور ثلاثة:
– أولاً، أن عدد المحالين اليها بقي ضئيلاً نسبة للعدد الهائل من الأشخاص الملاحقين على أساس تعاطي المخدرات سنوياً، فهذا العدد لم يتجاوز بضع عشرات بعد أشهر من إعلان تفعيلها[7]؛
– ثانياً، أن معرفة القضاة بتفعيلها بقيت منقوصة ومجتزأة[8]؛
– وثالثاً، وهذا هو الأمر الأخطر أن بعض قضاة الحكم والتحقيق لم يجدوا حرجاً في رد طلبات وقف ملاحقة أشخاص مدمنين أو إحالتهم الى اللجنة رغم إبرازهم إفادة من هذه الأخيرة تثبت بدء عملها، كأنما الإحالة الى هذه اللجنة بدت بنظرهم اختيارية.
وقد عبر هذا التشبث مرة أخرى عن قوة المنطق العقابي الذي نجح على طول عقود في تجاوز النصوص القانونية. وجبهاً لهذا الأمر، نشطت جمعية “سكون” في مباشرة عدد من الدعاوى الاستراتيجية التي انتهت الى نقض هذا التوجه مع القرار الصادر عن محكمة التمييز بتاريخ 03/10/2013.
المرحلة الخامسة: ما بعد قرار محكمة التمييز:
هذه المرحلة تبدأ حكماً مع قرار محكمة التمييز الصادر في 03/10/2013[9] والذي قضى بوقف الملاحقة ضد شخص مدمن وإحالته الى لجنة مكافحة الإدمان، تبعاً لتعهده بالعلاج، ما دامت المادة 194 من قانون المخدرات قد ألزمت القاضي الواضع يده على الملف بوقف السير بإجراءات الملاحقة وإحالة الشخص المدمن الى لجنة مكافحة الإدمان دون أن يكون له السلطة الاستنسابية في هذا الإطار.وبذلك، وعلى أساس قاعدة “أن النص القانوني وجد لإعماله وليس لإهماله”، ناقضت المحكمة توجه الحكمين الابتدائي والاستئنافي في الملف عينه، وكأنها بذلك تؤذن بانتصار القانون على الآراء المسبقة.
وبالطبع، يفتح هذا القرار مرحلة جديدة بحيث إنه يشكل سلاحاً قوياً في أيادي الأشخاص المدمنين لإلزام القضاة، بمن فيهم قضاة النيابة العامة والتحقيق، لوقف الملاحقة ضدهم، على نحو من شأنه أن يؤدي الى قلب الممارسات السائدة حالياً، وفي مقدمها توقيف المدمنين لأيام عدة في زنزانة مخفر حبيش وغيره من المخافر. فلنراقب ما ستكون عليه هذه المرحلة.
نُشر في العدد الثاني عشر من مجلة المفكرة القانونية
[1]“
الشرطي والقاضي والأشخاص الذين يتعاطون المخدرات“، دراسة أعدها أ. نزار صاغية بالتعاون مع جمعية “سكون”، 2011(منشورة على موقع المفكرة القانونية الالكتروني).
[2]القاضي المنفرد الجزائي في بيروت غسان الخوري، حكم صادر بتاريخ 12/05/2010.
[3]الدراسة المذكورة أعلاه؛ ونزار صاغية، “
التعهد بالعلاج من وجهة نظر قانونية واجتماعية” في “
حقوق المدمنين: نجو انفتاح اكبر“، جمعية “سكون”، 2009.
[4]القاضية نازك الخطيب، “
هل أصبح ’حق المدمن بالعلاج كبديل عن الملاحقة‘ نافذا؟ تخلفت الحكومة عن تنفيذ موجبها طوال 15 سنة، فهمشت وهجرت آلافا من المواطنين“، مجلة المفكرة القانونية، العدد الثامن.
[6]نزار صاغية، “
قاض ينقض المنطق العقابي في معاقبة الادمان: لماذا نطبق قانون المخدرات مجتزأ على قاعدة أن ’لا اله‘؟“، الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية.
[7]“
لجنة الإدمان فُعِّلت… لم تُفعّل: المحالون إلى العلاج قلة والقضاة آخر من يعلم بها” مجلة المفكرة القانونية، العدد الثامن.
[9]للاطلاع على قرار محكمة التمييز، يراجع الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية:
legal-agenda.com .