الحرب اللبنانية التي وضعت أوزارها في 13 تشرين الأول 1990 بعيد لجوء قائد الجيش اللبناني العماد ميشال عون الى السفارة الفرنسية، لم تنتهِ بالنسبة لعدد كبير من العائلات التي بقي مصير أبنائها، ومنهم عناصر في الجيش، مجهولاً. وعلى خلفية أحداث هذا النهار، أسست فيوليت ناصيف وصونيا عيد، وهما تباعاً والدتا شخصين فقدت آثارهما آنذاك وهما جوني ناصيف وجهاد عيد، “لجنة أهالي المعتقلين في السجون السورية”. وكان هدف اللجنة الكشف عن مصير المعتقلين والمخطوفين الذين تمّ نقلهم الى سوريا.
وفي 12 كانون الأول 2000، كشف المدعي العام التمييزي الأسبق القاضي عدنان عضوم عن وجود مقبرة جماعية في محيط وزارة الدفاع. لكن لم يتحرك أي من المسؤولين حينها على رغم إصرار الأهالي على وجوب الكشف على تلك المقبرة. وفي 13-10-2005، نشرت جريدة النهار اللبنانية تحقيقاً في ذكرى 13 تشرين . كشف من خلاله مسعفان من الصليب الأحمر اللبناني أنهما نقلا 11 جثة تعود غالبيتها لعناصر من الجيش الى مقبرة وزارة الدفاع في اليرزة (بعبدا). وروى أحدهما (سامي جعاره) أنهما لم يتمكنا من تحديد هوية الجثث نظراً للتشويه الكبير الذي كانت تعرضت له. وقد قاموا حينها بوضعها طوال 11 يوماً في مستشفى بعبدا الحكومي قبل نقلها الى الملعب الخارجي لوزارة الدفاع. وهناك أنزل مسعفو الصليب الأحمر الجثامين في حفرة واحدة كبيرة بعدما قاموا بتوضيبها في صناديق خشب مرقمة ومغلقة بواسطة مسامير، في حضور كاهن وشيخين[1].
و تبعاً لنشر هذا التحقيق، قرّرت قيادة الجيش عام 2005، أخذ المبادرة على عاتقها. فتمّ إنشاء لجنة برئاسة العميد نبيل قرعة للكشف عن الحفرة وإخراج الرفات بغية إجراء فحص الحمض النووي (DNA). وبالفعل، بدأت أعمال الحفر في 9 تشرين الثاني 2005 وتمّ خلال أيام انتشال رفات 11 جثة في حضور طبيب شرعي ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية آنذاك جان فهد والشرطة العسكرية ومسعفين في الصليب الأحمر. وكانت هذه المقبرة “الشرعية[2]” تضمّ ايضاً رفات 24 عسكرياً قُتلوا خلال المعارك في عامي 1983 و1984[3]. وطلبت الشرطة العسكرية من أهالي العسكريين المفقودة آثارهم إجراء فحوصات الحمض النووي. وقد وافق معظمهم على ذلك في حين رفض البعض إجراء هذه الفحوصات “بسبب شكوكنا ولوعتنا وتجاربنا السابقة المؤسفة مع القيادات والمسؤولين السابقين والحاليين.[4]”
بدأت النتائج بالصدور في أواخر شباط 2006 حيث قام العميد قرعة بزيارة الأهالي لإبلاغهم مصائر أبنائهم ولإعلامهم بقرار قيادة الجيش بتكريمهم. وبالفعل، أقيمت هذه المراسم على دفعتين في 18 آذار و12 تشرين الثاني 2006 في المستشفى العسكري في بدارو حيث منح 16 عسكرياً (الرقم يختلف في التقارير الصحفية) وسامي الحرب والجرحى وصنفوا شهداء ساحة الشرف، اضافة الى ترقيتهم بالرتبة والراتب وتلقيهم التعويضات القانونية.
وتجدر الإشارة هنا الى أن عدداً من العائلات اختارت إجراء الفحوصات مرة ثانية خارج لبنان لعدم ثقتهم بالدولة أولاً ولأنهم كانوا قد تلقوا تأكيدات تشير الى وجود أولادهم في سوريا. ففي حديث للنهار، قالت شقيقة أحد العسكريين ان والدتها “تنوي اعادة فحص الحمض النووي، وذلك للتأكد من تاريخ الوفاة. الدولة تكذب علينا منذ 16 سنة فلماذا اصدقها اليوم؟ الآن اصبح شقيقي ابن الدولة؟ اين كانوا طوال الاعوام الفائتة؟[5]”
وكانت فيوليت ناصيف من الأهالي الذين رفضوا إجراء فحص الـ DNAلإعتقادها بأن جوني موجود في سوريا وفق ما نما اليها من معلومات وما بحوزتها من وثائق من بينها “برقية صادرة عن قيادة الجيش في 27 كانون الاول 1990 تفيد بأنه وخمسه عسكريين آخرين، غير متوفين”[6]. لكنها عادت وقبلت بذلك في أيلول 2009. وفي 15 تشرين الثاني 2009، صدرت النتائج التي أكدت أن إحدى الجثتين المجهولتين عام 2005، تعود لإبنها.
ونظراً لكون مقبرة اليرزة هي المقبرة الجماعية الوحيدة التي عملت أجهزة الدولة على التعرف على الجثث المدفونة فيها وتاليا على ضمان حق ذويهم بالمعرفة، فقد بدا من المهمّ جدّاً الإستماع الى هؤلاء وتسجيل ردود أفعالهم على هذا الحدث. للأسف، لم يتسن الوصول الا الى عدد قليل منهم، وقد رفض بعضهم أي حديث بهذا الشأن فيما بقي آخرون شديدي التحفظ (المحرر).
لدى القيام بأي حديث مع أهالي المفقودين بشأن مقبرة اليرزة الجماعية، هناك شعور بغموض يهيمن على الموضوع. فالقصص تتشابك وتتعقّد وتتحوّل الفجوات في الوقائع الى علامات استفهام غير مبررة. وتوثيقاً لمفاعيل الكشف عن جثث اليرزة، حاولنا التواصل مع عدد من الأهالي المعنيين. وفيما لم يتسنّ الوصول إلا إلى قلة منهم، فقد رفض بعضهم أي حديث بهذا الشأن وبقي آخرون شديدي التحفظ. ويمكن تصنيف العائلات التي تسنى الاستماع اليها ضمن فئتين: فئة أولى غلب عليها الصدمة والتشكيك بنتائج التحقيقات بما فيها نتائج الDNAمما يبقيها في حال الانتظار وفئة ثانية وهي الأقل عدداً، عبرت عن نجاحها في التصالح مع النفس ومع الزمن بنتيجة التعرف على مصائر أبنائها بوسائل علمية موثوقة. وهذا ما سنحاول تفصيله أدناه.
لم ينتهِ الانتظار
يفاجأ الباحث عند الاستماع الى عائلات “مفقودي اليرزة”. ففيما كان يُنتظر أن يؤدي التعرف على مصائر أبنائها الى إنهاء مشاقّ الإنتظار، لم يخفِ العديد منها تشكيكها بهوية الجثث. فرغم الفحوصات العلمية التي تم اجراؤها اثباتا لهوية الجثث، بدا غالبية هؤلاء مقتنعين أن أبناءهم معتقلون في السجون السورية، وهم يدلون بعدد من الأدلة على ذلك، من بينها إفادات رسمية بهذا المعنى. ويتضح من خلال هذه المقابلات التي اجريتها مع الأهالي أن الغموض وتضارب المعلومات (بين تلك المعلومات الرسمية والأخرى غير الرسمية) ولا سيما فشل الدولة في معالجة المسألة وتداعياتها على الأهالي، فضلاً عن شحَ المعلومات المعطاة لهم، يعرقل التوصل الفعلي الى تكريس حق المعرفة عملياً، وذلك بالرغم من الحصول على معلومات يتم تداولها على أنها دقيقة وغير ملتبسة (لا سيما نظراً لاجراء فحوصات الـDNA).
وفي هذا الخصوص، رفض فؤاد (اسم مستعار)، وهو أخ أحد الأشخاص الذين وردت أسماؤهم ضمن مفقودي مقبرة اليرزة التحدث معي في اطار خارج عن مكالمة هاتفية بسيطة، مبرراً ذلك بأنه “لا يزال ينتظر عودة أخيه” (وكأنه بالتالي لا يعتبر نفسه معنياً على الاطلاق بنتائج الكشف على مقبرة اليرزة). فـ”هم” رفضوا أن يكشفوا له عن الجثة واكتفوا باعطائه فحص الـDNAالخاص بشقيقه. “أنا لا أصدقهم ولا زلت في انتظاره”.
وفي الإتجاه نفسه، روت لي عائدة (إسم مستعار)، وهي زوجة أخ أحد الأشخاص الذين أعلن العثور على رفاتهم في مقبرة اليرزة، أنه بالرغم من استلام العائلة شهادة الوفاة المتعلقة بإبنها، والتي تفيد بأنه قد توفي سنة 1990، فهي لا تزال تشكك بهذه الواقعة. ومرد شكّها هو أن شاباً حضر الى منزل العائلة في إحدى الليالي سنة 1993 وأعطى والدته سلسلة ادعى أنها تعود لابنها. وتؤكد عائدة أن السلسلة كانت تعود للإبن المفقود وأنه بحسب والدته كان يضعها بالفعل عند اختفائه. وتنقل عائدة أن الشاب الزائر أعلم والدة المفقود آنذاك أن ابنها يرسل لها سلاماً وأنه هو بالذات من طلب منه تسليمها تلك السلسلة ليطمئنها انه لا يزال على قيد الحياة. كان ذاك الشاب ملثما ومجهول الهوية “ظهر واختفى بظرف لحظات”. كما قال لي ربيع (اسم مستعار)، وهو أخ أحد الأشخاص الذين وردت اسماؤهم ضمن مفقودي المقبرة، أن لديه بعض الشكوك بشأن تاريخ وفاة اخيه وهو يتحفظ عليه. ويضيف: “أريد أن أقول لكل أم وأب لديهم مفقود أن لا يوفوا أولادهم وأن لا يوقعوا أي ورقة، وأن يبقوا منتظرين ولا يغلطوا غلطتنا في توفية أولادهم مهما حصل… فليبقوا منتظرين ومثابرين، اذ لا حق يضيع ووراءه مُطالب”.
ويردف “ربيع”: “قبل أن نعلم أنه مات، كنا نعيش على الأمل، كنا نقول لا بد أن يكون هناك حلّ… الانسان الذي يعيش في الانتظار وضعه صعب جداً… أصعب ما يكون هو الانتظار. توفيت أمي وهي تنتظر أخي و[كانت على قناعة تامة] أنه لم يمت، في حين بقي أبي في حالة خوف دائمة على أخي المفقود، اذ كان يقول لنا أن خوفه يتعلق أيضاً بالصدمة التي قد يواجهها أخونا، في حال عودته، بعد سنين من الحبس والتعذيب…هواجس كثيرة ولا أجوبة… وبعد هذا الأمل على مد سنين، أتت الصدمة، وعلمنا أن [أخي] توفي وخلص، بطل فينا نعمل شي“.
ويعلق فابيان بوردييه من اللجنة الدولية للصليب الاحمر على هذه الشهادة بأن “هناك دائماً مرحلة صدمة يمر بها ذوو المفقودين عندما يعلمون أن أحد أحبائهم قد وجد ميتاً. وهي توازي صدمة الموت المفاجئ لأحد الأشخاص غير المفقودين (مثل تعرض أحدهم لحادث سير ووفاته فيما بعد). فالأمل بأن فقيدهم على قيد الحياة لا يفارقهم طيلة فترة الفقدان”. ويضيف فابيان: “أن فحص الـDNAوحده غير كاف، إذ يجب أن يتكامل مع فحوصات جنائية وتحاليل انتربولوجية وتحليل الادوات والأغراض الخاصة التي يتم كشفها بجانب الجثث (مثل الملابس أو السلاسل الخ.). وهناك طرق معينة لاعلام العائلات لتكون واثقة من فحص الـDNA. فالشفافية مهمة في البحث لمساعدة العائلات ولتخفيف وقع الصدمة. وبالتالي يكون الشك الذي يشوب قناعة بعض أهالي المفقودين نتيجة طبيعية لعدم معالجة تداعيات الكشف عن الرفات والتعرف عليها واعلام ذويهم بهم. فأهالي المفقودين يحصلون على الكثير من المعلومات، المتضاربة أحياناً، وهناك غالباً من هو مستعد لبيع معلومات (صحيحة أو غير صحيحة) لأهالي المفقودين الذين يكونون على أتم الاستعداد لدفع أي مبلغ أو القيام بأي أمر للحصول على أي معلومة كانت عن فقيدهم. فغالباً ما يكون أهالي المفقودين فريسة لأي تاجر معلومات، لا سيما في حال كانت المعلومة ترجح بقاء فقيدهم على قيد الحياة مهملين أحياناً المعلومات العلمية المؤدية الى واقعة الوفاة”.
مصالحة مع الزمن
بالمقابل، قابلت بعض الأهالي الذين يقولون أنهم يتنعمون بسلام داخلي بعد مرور صدمة الموت. وفي هذا الخصوص، روت لي جورجت بشور، وهي شقيقة جورج بشور الذي تصر على وصفه بالشهيد، “مصالحتها مع الزمن” بعد توصلها الى معرفة مصير أخيها. “لم نصدق أنه أخي لأنه كان عندنا وثيقة من الجيش أن أخي أسير في سوريا.. كان هذه هي أصل الصدمة. أولأ أنه كان لدينا هذه الوثيقة وثانياً كانوا يأتون كل عيد جيش لطمأنتنا أنهم يعملون على القضية. كيف أصدق الآن وكهم انوا كل يوم يطمئنوننا. ولكن بالنهاية هناك شيء اسمه علم ولا يمكن أن ننكره. أصعب شيء في الدنيا عندما يكون لديك شخص مفقود بالحياة. بالرغم أننا 11 أخاً وأختاً في العائلة، الموضوع لا يزال صعباً – الله ما يجرب حدا. ان يكون لديك شخص لا تعلمين مصيره لا تعرفين ماذا يفعل او ماذا يحصل له، فتقضين حياتك كلها غير سعيدة”. هنا تشعل جورجيت سيجارة وتقول لي “مش بكون عم دخن سيجارة؟ بصير عم فكر يا ترى هو هلق قادر يدخن سيجارة؟ كنت اقعد فكر: شو عم يعمل هلق، عم ياكل، عم يشرب، عم بيتعذب، كيف عم يعاملوه؟ مع كل هذه الأسئلة من المستحيل تقدري تفرحي مهما حصل. بس عرفنا كان كتير صدمة… كنا موعودين بعودته. كنا نفكر دائماً ما سنفعل عندما يعود كيف سنعوض عليه كل ما مرّ به… ولكن اكتشفنا الحقيقة المرّة. صدمنا وحزنا ولكن بامكاننا ان نصلي الآن على قبره، ويمكنك ان تزوري قبره. لا تنسينه، ولكن تعلمين أين هو وأن هذا قدره. تحصلين على نوع من السلام الداخلي بعد انتظار دام 16 سنة”.
:نشر في الملحق الخاص بقضية المفقودين
[1]– منال شعيا. فتح حفرة في الملعب الخارجي لوزارة الدفاع بحثاً عن رفات 11 عسكرياً دفنوا عام 1990. جريدة النهار، 10 تشرين الثاني 2005، ص. 6
[2]– وصفها قائد الجيش ميشال سليمان بالشرعية لأن القيادة كانت على علم بوجود جثامين عسكريين سقطوا في الحرب مدفونة هناك.
[3]– مي عبود ابي عقل. العثور على 17 رفات ينهي البحث ودبر القلعة الاسبوع المقبل. جريدة النهار، 24 تشرين الثاني 2005، ص. 7
[4]– مي عبود ابي عقل. العثور على رفات 8 جدد في اليرزة وفحوص الحمض النووي بدأت. جريدة النهار، 17 تشرين الثاني 2005، ص. 8
[5] – مي عبود ابي عقل. الجيش ابلغ اهالي 10 عسكريين مفقودين باستشهادهم. جريدة النهار، 17 آذار 2006، ص. 13
[6] منال شعيا. فيوليت ناصيف: رجع البطل. جريدة النهار، 16 تشرين الثاني 2009، ص. 7