“
يحتل الحديث عن الفساد، بين الفترة والأخرى، حيزاً مركزياً في الخطاب السياسي العام، وقد اتسع هذا الحيز مؤخرا في لبنان مع انضمام مختلف الأحزاب وقوى المجتمع المدني إلى حلقة المطالبة بمكافحة الفساد. يتمحور خطاب مكافحة الفساد حول معايير قانونية، يؤثر غيابها أو عدم الالتزام بها من هذا المنطلق، في عرقلة مسيرة بناء الدولة والانتقال الديمقراطي، وفي تعويم الانتماءات الطائفية والفئوية على حساب مفهوم المواطنة والعدالة.
إلا أن هذه المعايير على أهميتها، غالباً ما تتميز بطابع نظري يصطدم بأرض الواقع فتخلق عندها هوة بين الخطاب المعياري من جهة والخصوصية السياسية التي تميز البلد من جهة أخرى.
إذاً، في ظل خطاب سياسي عام يضع موضوع مكافحة الفساد في صلب اهتماماته، لا بد من طرح العديد من الأسئلة ليس حول الجوانب المعيارية لمكافحة الفساد، إنما حول حظوظ نجاح محاولات مكافحة الفساد والحدّ منه في ضوء النظام السياسي القائم.
لذلك، تطلق “المفكرة القانونية” سلسلة نقاشات معمقة مع سياسيين واختصاصيين وصحافيين متابعين لموضوع الفساد، من أجل وضع خطاب الفساد في إطاره السياسي، وتفكيك علاقات السلطة التي تتحكم به والمصالح المختلفة التي تدفع به إلى الأمام في لحظة معينة، أو لغض النظر عنه في لحظة أخرى.
وفيما كانت “المفكرة” أجرت سابقا مقابلتين مع سامي عطالله وأركان السبلاني، فهي تجري هذه المقابلة الثالثة مع رئيس “مؤسسة البحوث والاستشارات” الباحث الاقتصادي كمال حمدان.
المفكرة: ما هو السياق السياسي العام الذي يؤطر حالياً خطاب مكافحة الفساد؟ وكيف تفسر اهتمام الأحزاب السياسية المتزايد في مكافحة الفساد، ما هي الأهداف والدوافع؟
حمدان: أسباب ظهور خطاب مكافحة الفساد عديدة. أهم هذه الأسباب أننا نشهد حالياً آخر فصل من فصول انهيار المرفق العام ونظام الخدمات العامة في لبنان. خلال ربع قرن، أي في مرحلة ما بعد الطائف، لم ينفق على الاستثمار الرأسمالي العام سوى حوالي 8% من مجموع نفقات الدولة اللبنانية والتي بلغت ما يزيد عن 225 مليار دولار. والنسبة هذه، أي الـ 8%، لم تتحول جميعها إلى خدمات مباشرة للمواطنين إذ علينا أن نحسب أيضاً أرباح المتعهدين وكلفة العمولات والسّمسرات، وكلها نفقات عادة ما ترافق العقود العامة. نستنتج إذاً بأن الاستثمار بالمرفق العام في لبنان أشبه بـ “الأيتام في مأدبة الوئام”. تعلو إذاً صرخة الناس ويظهر التململ من الفساد كردة فعل طبيعية على هذا الواقع المتردي.
المفكرة: ما هي الخطوات المتخذة حالياً، وإلى من يتوجه خطاب مكافحة الفساد (المواطن، المجتمع الدولي، الشركات الأجنبية)؟
حمدان: مع اضمحلال المرافق العامة وخدماتها، تجبر الأسر في لبنان، وإلى جانب مصاريفها من أجل تأمين معيشتها، على دفع مبالغ إضافية من جيبها الخاص للحصول على الخدمات العامة (الكهرباء، الصحة، التعليم…). فبموازاة ضعف الموارد والخدمات التي يفترض أن تمّول من قبل الدولة، ما برحت النفقات الخاصة للأسر تزداد تدريجياً. فتعلو الصرخة.
هذا من جهة المجتمع. أما من جهة أطراف السلطة، فيبدو أنهم بدورهم يعانون من أزمات مالية، خصوصاً مع شحّ الموارد التي تأتيهم من جهات خارجية جراء التحولات الإقليمية التي طرأت على أسعار النفط، أو تغيير في أولويات الراعي الأكبر لكل طرف من الأطراف الداخلية بسبب أعباء واستحقاقات أخرى (حرب اليمن أو حرب سوريا…).
نلاحظ إذاً ليس فقط ظهور صرخة من قبل الناس، إنما أيضا من قبل أطراف السلطة السياسية التي راحت هي أيضاً تزايد بمعاناتها من الفساد.
المفارقة هنا أن الصوت العالي هذا لا يغيّر الكثير من الأمور. الفساد كظاهرة مستمر على حاله حتى الآن.
المفكرة: ما هي أنواع الفساد في لبنان؟ ما هي القطاعات الأكثر فساداً؟ وهل هي نفسها التي تندرج على أجندة الأحزاب السياسية، وكيف تفسر ذلك؟
حمدان: الفساد متفشٍّ على أصعدة عدة، لا يمكن إحصاؤها، تبدأ بتوزيع الموارد العامة ولا تنتهي عند آليات تعيين الموظفين العامين.
الحجر الأساس للفساد في لبنان يتمثل بما أطلق عليه تسمية “نظام الفتات”. النظام هذا قائم على استيلاء الأطراف السياسية الحاكمة على المؤسسات العامة ومواردها. تلجأ هذه الأطراف إلى توزيع “فتات” من الموارد العامة بشكل غير قانوني على التابعين لها، وتتمكن من خلال هذه الآلية من كسب ولائهم على أساس المعيار الطائفي. وهذا ما ينعكس في نتائج الانتخابات النيابية، فتتحول الفتات هذه إلى مصدر قوة بالنسبة لمن يوزعها.
والفتات تأتي على أشكال عدة كالدخول إلى المستشفيات على حساب الدولة، والحصول على رخص بناء مخالفة تؤدي إلى تشويه العمران والمكان الحضري، والسيطرة المباشرة على الملك والفضاء العام بما فيها الطرقات والأرصفة، ولا تنتهي عند إدخال المحازبين إلى مؤسسات الدولة. نظام الفتات يصبح حتماً ذا وزن وقيمة في حياة المواطنين مما يساهم في إعادة إنتاج دائم لعلاقات التبعية.
والفساد يشمل أيضاً نمط إدارة مؤسسات الخدمات العامة من قبل القيّمين عليها. فهم أصلاً، بأغلبيتهم، جزء من عملية توزيع الفتات وإنتاج اللحمة الدائمة بين جمهور الطائفة و”الزعيم”. فعلياً هم يخضعون لازدواجية في التبعية: من جهة، هم موظفو دولة يخضعون نظرياً لقوانينها؛ من جهة أخرى، هم جزء من شبكة العلاقات الزبائنية التابعة لنظام ” كونفدرالية الطوائف” الذي يتغذى من خلال تقاسم المنافع، أكان من خلال التعيينات في المناصب الإدارية أم من خلال طريقة إدارة الحقل العام والمؤسسات العامة.
وفيما تكون الفتات أساسية ومحورية في تحقيق الهيمنة على المجتمع والتمسك بالسلطة، إلا أنها في الغالب تسبق أو تتزامن مع الخطاب الطائفي المبني على صناعة وهمية للقلق والخوف من الآخر من أجل رصّ صفوف “الجماعات” ضمن هويات ما دون وطنية. فلولا نظام الفتات، أي النظام التوزيعي الزبائني للمنافع والموارد، لكانت سرعة نضج وعي الناس لمصالحها أسرع بكثير، حتى بوجود الخطاب الطائفي.
ينتج عن هذا النظام ضرب تام لمفهوم الصالح العام. فالفساد مثلاً يتجلى حين نرى أن معايير “الاستحقاق” (eligibility) لنيل الدعم (منح تعليم، بدل إنتاجية، ساعات عمل إضافية، مكافآت… إلخ) تُنتهك بشكل كبير، فينتفع منها بشكل غالب المقربون من السلطة. وقد أدى ذلك بشكل صريح إلى إفقار الفقير وإثراء شرائح واسعة من الطبقة الوسطى وما فوق الوسطى، وهؤلاء في معظمهم يدينون بالولاء السياسي والاجتماعي لأطراف نافذة في السلطة، ولكلّ منهم “طرفه الخاص”.
المفكرة: هل من إمكانية جدية يسمح بها النظام السياسي اللبناني (من موازين قوى، ولاعبين…) من أجل المضي قدماً في ملفات الفساد والمحاسبة؟
حمدان: لا بد من القول بأن الطبقة السياسية ليست محصنة بشكل مطلق. هذا ما تبيّن لحظة حراك ما سمي بـ “المجتمع المدني” في صيف العام 2015. ما حدث حينها من مظاهرات وتحركات شعبية لم يكن بالحدث البسيط. فقد عبّر عن هواجس ومظالم ومشاعر قلق في صفوف شرائح اجتماعية واسعة كانت وما تزال عرضة للإنهيار. ومن ضمن هذه الهواجس والمشاعر مثلاً ما يتعلّق بأزمة سوق العمل، حيث يتدفق سنويا نحو 50 ألف وافد الى هذه السوق (70% منهم خرّيجو جامعات)، ولا يتمكّن سوى ثلثهم من الحصول على عمل. وغالبا ما يكون هذا العمل عملاً هشاً وغير نظامي، في بلد تسيطر فيه لدى رأس المال نظرة دونية للأجر ومتممات الأجر.
لا أبالغ حين أقول بأن حراك 2015 خلق حالة رعب في صفوف الطبقة السياسية. كان جذرياً وشاملاً ووصل إلى حدّ الانعتاق، ولو المتدرّج، من أسر الهويات “العصبياتية” الضيّقة، من خلال شموله لمروحة واسعة ومتنوّعة من الفئات الاجتماعية الخارقة للطوائف، أكان في مناطق التحركات المختلفة (حراك المناطق) أو في نقاط التحرك المركزية (بيروت). مثل هذا التحرّك لم يشهده لبنان إلا في أواسط السبعينيات، عندما أدّى التردّي في سعر صرف الليرة تجاه الدولار وارتفاع معدلات التضخم وانعكاسهما على كلفة فاتورة الاستيراد إلى إنطلاق حركة شعبية كبيرة شاركت فيها حشود من المتظاهرين الذين وفدوا آنذاك من أحياء الأشرفية والبسطة والمزرعة والضاحية الجنوبية ليتجمّعوا في مشهد غير مسبوق في الساحة الممتدة حول تمثال بشارة الخوري (يوم 27 نيسان 1974، بدعوة من الاتحاد الوطني لنقابات العمال).
فعلياً، ما أعطى حراك العام 2015 مداه الحقيقي هو تزامنه مع حراك هيئة التنسيق النقابية، ولا بد بالتالي من تحليل حراك المعلّمين من أجل فهم تحديات مواجهة النظام. يجب أن نعترف بأن هذا الحراك لم يكن، بالرغم من أهميته، حراكاً مثالياً بكل معنى الكلمة. صحيح أن إدارة المعركة كانت جيدة إلى حدّ كبير (اعتصامات وتظاهرات للمعلمين في كامل المناطق، تنوّع في الشعارات المطلبية والإصلاحية، إطلالات إعلامية متواصلة… إلخ)، ولكن الحراك عبّر في جوهره عن مصالح مطلبية تطال المنافع الخاصة للأساتذة، ثم أن تركيبته الداخلية كانت انعكاساً لنظام كونفدرالية الطوائف. في الحقيقة، لو كانت القاعدة العريضة لجمهور الحراك مطعّمة بفئات اجتماعية وعمالية ونقابية ويسارية وازنة، لكانت نتائج الحراك أكثر جذرية ليس على صعيد حقوق الأساتذة فقط، إنما على صعيد انعكاسات هذا الحراك على عملية التغيير الاجتماعي والسياسي في البلد عموما.
طبعاً، حاول حنا غريب، رئيس هيئة التنسيق حينها، بعصارة الروح أن يعطي هذا الحراك بُعداً يتجاوز القضايا المطلبية البحتة من خلال الإرتقاء بالخطاب إلى مكان يتم فيه تسليط الضوء على الخلل العميق في بنية النظام ونمطه الاقتصادي الريعي، مع حرصه على رفع شعارات تركّز على أولوية تحسين نوعية التعليم الرسمي وتحرير الجامعة من قبضة الطوائف وتأمين التغطية الصحية الشاملة وإجراء إصلاحات واسعة في النظام الضريبي. إلا أن أطراف السلطة عادوا وفرضوا وجودهم من خلال انقلاب من داخل هيئة التنسيق بهدف القبض على روحها، وإزاحة حنا غريب عن موقع القيادة فيها عبر انتخابات ذات طابع طائفي تحاصصي كونفديرالي.
وإنه لذي دلالة بالغة أن يستجيب النظام السياسي التحاصصي لاحقا للشقّ المطلبي من أجندة حراك الأساتذة والمعلّمين، بالرغم من كلفته المالية العالية، وأن يعمل على تجيير ثمار هذه الاستجابة لصالحه، ولكن من دون تقديم أيّ تنازل في الحقل السياسي أو إفساح المجال أمام تعديلات في موازين القوى السياسية والاجتماعية. وفي المطاف الأخير، تمّ انتخاب رئيس جديد لهيئة التنسيق، وهو رئيس “ممانع” وصاحب خطاب “إصلاحي”، مما أدى في مكان ما إلى اعتكاف مجموعات واسعة من القوى المستقلة داخل الهيئة.
المفكرة: هل يتناول الخطاب حصراً القطاع العام، ويتجنب القطاع الخاص؟ وما هي مفاعيل هذا التوجه على مؤسسات الدولة، أو الخطاب الداعي إلى الشراكة بين العام والخاص؟
حمدان: لا بد من دراسة الاقتصاد اللبناني ومن يسيطر على مفاصله الأساسية. أحد أهم أسباب التململ من منظومة الفساد ناجم عن العبء الاقتصادي والاجتماعي الكبير الذي تعاني منه الأسر والفئات الاجتماعية المختلفة خصوصاً من ناحية إنحسار الخدمات العامة الأساسية والمستوى شديد الارتفاع لكلفة المعيشة في عاصمة قد تكون إحدى أغلى المدن في العالم. مع العلم أن ارتفاع كلفة المعيشة لا يشكّل عاملا موضعيا أو مؤقتا، بل هو انعكاس لجذور عميقة ذات صلة بنمط تشكّل الأسواق التجارية في لبنان، التي تبيّن لنا من خلال دراسة أجريناها في عام 2004 أنها من أكثر الأسواق تركّزا في المنطقة وتخضع لسيطرة تكتلات احتكارية تاريخية عميقة عبر ما يسمى “احتكار القلة”. فأكثر من ثلثي هذه الأسواق مستقطب في الغالب من قبل شركتين أو ثلاث شركات في السوق الواحدة.
كذلك، فإن الحدود الفاصلة بين القطاع الخاص والقطاع العام لم تعد واضحة تماماً، بفعل تعاظم شبكات الوصل والربط والمحاباة القائمة بين “عالم السياسة” و”مجتمع الأعمال”. لقد طرأت تحولات أساسية على مصادر تشكّل الطبقة السياسية في فترة ما بعد الحرب، وانضمّت إليها أفواج من أصحاب الأعمال، بينما اتجهت زعامات طائفية من جانبها نحو الانخراط في الأعمال، بالاستناد إلى ما راكمته من أموال عامة وريوع، سواء من مصادر داخلية أو من مصادر خارجية. وباتت مكوّنات الطبقة السياسية ذات مصالح مشتركة ومتداخلة مع أطياف متنوعة من البورجوازية وبخاصة في القطاعات المصرفية والمالية والفندقية والسياحية والإنشائية كما في المناقصات العمومية. وهذا ما عزّز الطابع السياسي للفساد وساهم في تعقيد مكافحته، لا سيما إذا ما جرى تخصيص جزء من عوائد هذه الشراكات لتمويل وتوزيع “الفتات” الزبائني على الدوائر الفاعلة داخل “جمهور” الطوائف.
المفكرة: هل مكافحة الفساد موضوع تقني صرف، أم سياسي؟ كيف نوفق بين الإثنين؟ هل يجوز (أو يمكن) المناصرة من أجل خلق أطر ومؤسسات لمكافحة الفساد من دون إعادة النظرة بالتركيبة السياسية؟
حمدان: المشكلة الكبرى تكمن في كيفية تعريفنا للفساد. هل هدر المال العام هو شكل من أشكال الفساد؟ هل الافتقار إلى رؤية اقتصادية أو اختلال إدارة الشأن العام الاقتصادي يمثّل شكلا من أشكال الفساد؟ أم أن الفساد يقتصر على ما يقتطع في المنبع من عمولات وسمسرات وعلى عدم احترام شروط تنفيذ المشاريع العامة؟ لا بد من وضع التعريف، أو محاولة للتعريف، في الإطار الناظم لطبيعة النظام السياسي والطائفي وسياقه.
المشكلة أن هناك ضعفا في بنية الدولة المركزية في لبنان. ويساهم هذا الضعف، من جهة، في تقوية نظام “كونفدرالية الطوائف” وتحالفاتها التي تمكّن الزعامات السياسية والطائفية من اجتذاب واستتباع جمهورها على أساس طائفي، ممّا يؤمن لها الفرصة لتقاسم الموارد العامة والتسلط عليها، وكذلك للحصول على مصادر الرعاية الخارجية. ومن جهة أخرى، يؤدي وهن الدولة المركزية إلى إضعاف المنافع الفعلية المرتبطة بتدفقات القروض والمساعدات المالية المقدّمة للدولة اللبنانية. بالنسبة إلى مؤتمر “سيدر” مثلاً، تفتقد الدولة في الواقع إلى من يشرّع وينتج العقود ويحضّر دفاتر الشروط وينظم المناقصات ويواكب ويراقب أعمال التنفيذ في كل ما له علاقة بالمشاريع الانمائية المعنية، مما يطرح شكوكا كبيرة حول مدى القدرة على التحكم بمسارات إنفاق هذه القروض والمساعدات، والتثبّت فعلا من تحقيقها لأهدافها المنشودة. نحن في “مغارة علي بابا” وسنبقى كذلك طالما بقي النظام الطائفي التحاصصي قائما، وهو الذي يشكّل المصدر الأهم للفساد السياسي في البلد. ولا يمكن التستّر على هذه الحقيقة الفجّة، من خلال التبنّي اللفظي والشكلي للخطاب الدولي الداعم لمكافحة الفساد. فهذا الخطاب مستمد من تطور الرأسمالية في الغرب على مدى ثلاثة قرون. ولا يمكن إسقاط مفاهيمه وأدواته ومعاييره وشروطه المهنية وأطره المؤسسية على بلد كلبنان تكاد الدولة فيه لا تكون دولة بالمعنى الدقيق للكلمة. ففي النظام اللبناني، يسود خليط مصالح الزعامات الطائفية المتشابكة مع مصالح رأس المال بصورة أشبه ما تكون بما كان قائما في الغرب قبل الثورة الفرنسية…. هويات ما دون وطنية، وازدواج في الانتماء، وعدم وجود خطوط فصل واضحة بين العام والخاص، وغياب بل انعدام المراقبة والمحاسبة، وسرّية مصرفية تشرّع التهرّب الضريبي، وقوانين للتمثيل التجاري ترسّخ وتقونن تشكّل الاحتكارات…
المفكرة: في ظل وجود العديد من القوانين (قانون حماية كاشفي الفساد) والهيئات (هيئة مكافحة الفساد) التي من شأنها الحد من الفساد، وهل من نتيجة من دون قضاء مستقل؟
حمدان: مع استمرار النظام الطائفي، لا أتأمل بإحداث خروقات جذرية. لكن هذا لا يعني ألا نسعى من أجل التغيير. يحدث ذلك من خلال تجميع القوى الاعتراضية المختلفة وحثها على أن تصبح أكثر مهنية وأقل شعاراتية، وأكثر جهوزية لتحضير الملفات وخوض معاركها، بالتزامن مع تكثيف الضغط من أجل الإصلاح الجذري للقضاء والأطر المؤسسية العامة. والمراهنة هنا هو أن تتراكم التجارب وتعزّز بشكل تدريجي تشكّل كتلة شعبية مدركة لمصالحها خارج الاصطفافات الطائفية البائسة ومعاييرها المتخلفة. وهذا ما سيساهم حتماً في إضعاف النظام الطبقي والطائفي المسيطر.
وإذا كانت الممارسة الطاغية ترتدي في الشكل طابع الممارسة الطائفية، فإنها قد ساهمت في الواقع في تعميق الفروقات بين الطبقات، بل حتى داخل الطبقات نفسها. صحيح أن التناقض الأساسي يبقى قائما بين من يملك ومن لا يملك، أي بين العمل ورأس المال. ولكن من يملك بات يتوزّع على فئات، وكذلك من لا يملك. على سبيل المثال أصبح من الصعب جداً التحدث عن الطبقة العاملة بشكل مطلق (عمال وموظفو القطاع العام، عمال وموظفو القطاع الخاص، العمال النظاميون وغير النظاميين، العمال غير اللبنانيين…)، بل بات من الضروري تناول كل مكوّناتها وخصائص كلّ من هذه المكوّنات، لجهة شدّة الاستغلال ومدى تفاوت الضمانات والحصانات والمنافع التي تتمتع بها. وتنطبق مقولة “بيت بمنازل كثيرة” لا على الطبقة العاملة وحدها، بل أيضا على شرائح واسعة من البورجوازية المتوسطة والصغيرة التي أطاحت بها سياسات التحالف الحاكم لصالح نواة طائفية طبقية ضيّقة جدّا.
المفكرة: في لبنان، مقارنة ببلدان عربية أخرى، مساحة وافية من الحرية تسمح للرأي العام والإعلام والجمعيات من تناول موضوع الفساد وتسمية الجهات المتورطة في هذه الملفات، فهل هذا كاف من أجل المضي قدماً بفضح المتورطين في الفساد، وما هي المحاذير أو العوائق التي تحول دون ذلك؟
حمدان: طالما ليست ثمّة حركة نقابية وشعبية خارقة للطوائف وتمّثل الشرائح الاجتماعية والمهنية المختلفة، وطالما لم ننجح في تحرير التعليم الرسمي من قبضة الطوائف وفي تحسين نوعيته، سيبقى المجال مفتوحا أمام استمرار الغرق في الشعارات العامة والمناكفات والعصبيات التي تصبح للأسف جزءا من خبز الإعلام اليومي. ولا شك في أن وجود النقابات والأحزاب والحركات النقابية (في المهن الحرة مثلاً) من شأنه المساهمة في تأطير المصالح والقضايا المطلبية ويفتح المجال أمام تحسن الخطاب العام والارتقاء به إلى مستوى أعلى من المسؤولية.
المفكرة: هل من بنى مجتمعية قادرة أو تقوم حالياً بمواكبة خطاب الفساد؟ ومن هي؟ وما هو دور المجتمع في المساهمة في فتح أطر موازية تساهم في تعزيز الخطوات الرسمية ورصدها ومراقبتها؟
حمدان: سبق وتحدثت عن حراك صيف العام 2015، وقبله الحراك المطلبي لهيئة التنسيق النقابية. وأقول بصوت عال أن الاتحاد العمالي العام لو كان فعالاً ومستقلاً لكان لعب دور الرافعة القوية في قلب – أو الى جانب – ما يسمى بـ “المجتمع المدني”، ولربما كان أنتج واقعاً مغايراً لما هو قائم راهنا. كان يمكن لهذا التغيير أن يتبلور من خلال تظهير أكبر للمعركة الاحتجاجية والاعتراضية المدنية، ورفدها ببعد طبقي واجتماعي أكثر وضوحا، مما يجعل محصلة هذا النضال يصبّ باتجاه إحداث خرق ما في المجال السياسي.
المفكرة: هل تثق بأن الملفات المختلفة ستصل إلى خواتيمها؟ وما أثر ذلك على النظام والمجتمع؟
حمدان: التغيير يتطلب منا فهما أعمق لواقع المجتمع اللبناني، ولا يقتصر فقط على مقاربة الملفات الواحد تلو الآخر، بشكل مبعثر ومنفرد. عملياً، يتغذى نظام الفتات من خصائص التكوين التاريخي للرأسمالية اللبنانية الذي استخدم الطائفية – بتشجيع من دول المركز الرأسمالي – كأداة لتأمين سيطرة تحالف البورجوازية والزعامات الطائفية على البلد. وكيف للتغيير أن يحصل من خلال الانتخابات مع سيطرة مثل هذه الشوائب الكبيرة على القانون الانتخابي، ووجود كمّ هائل من “متعهدي” ترويج العلاقات الزبائنية و”سماسرة” الخدمات والمنافع العامة و”القبضايات المحميين” والمتنفّذين من “أركان” العائلات والعشائر و”الجبب” و”الأفخاذ” ناهيك عن المتنفّذين في عدد من أجهزة السلطة، وهؤلاء جميعهم يشتركون في التحكّم بمجمل جوانب تنفيذ العملية الانتخابية، وبخاصة في أقلام الاقتراع وحولها.
فالتحدي الأكبر الذي يواجه تحقيق عملية التغيير يكمن في ضرورة تفكيك نظام الفتات وتعطيل علاقة التبعية والإخضاع التي يمارسها زعماء الطوائف، كلّ على “جمهوره” الطائفي.
وارتباطا بهذه النقطة، يمكن إجراء قراءة ثانية لنتائج الأزمة التي يعيشها حالياً الاقتصاد اللبناني. هنالك رأي سائد راهنا لدى بعض الخبراء بضرورة التسريع في الانهيار المالي والاجتماعي، لأن هذا من شأنه، بحسب هؤلاء، المساهمة في تفكيك نظام الولاءات والفتات الذي يربط عمودياً قواعد الطوائف بزعمائها. فشبح الانهيار قائم منذ نهاية التسعينيات، حيث لم يشهد لبنان النمو الاقتصادي والاجتماعي المطرد ولا الاستقرار السياسي (مؤتمرات باريس “1، 2، 3” وسيدر “1”، تعاقُب الصدمات الداخلية والخارجية بما فيها الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، إفراغ اتفاق الطائف من بنوده الإصلاحية لصالح صيغ كونفديرالية، ترسيخ مقوّمات الهشاشة السياسية الداخلية، تعاظم التوظيف السياسي للطائفية والفرز الطائفي…). في مثل هذه الظروف، هل يكون التسريع في الإنفجار عاملا موضوعيا يدفع المكوّنات الاجتماعية – بفعل تعطّل نظام الفتات – نحو التفلّت (أو التحرّر؟) من قيود علاقات الاستتباع التي تربط “جمهور” الطوائف بزعاماتها؟ وهل هو يفسح المجال أمام نشوء مناخ مؤاتٍ لكي تدرك الناس مصالحها الحقيقة فتصل إلى درجة تقول فيها “فلندخل في غمار التغيير”؟
برأيي إن هذه المراهنة – التي قد لا تخلو من مجازفة – مشروطة بوجود مسبق لحدّ أدنى من تحالف اجتماعي سياسي مدني متنوع يملك أجندة محدّدة حول مطالب وإصلاحات أساسية قادرة على استقطاب كتلة شعبية خارقة للطوائف ومؤثّرة في توازن القوى السائد. ومن ضمن هذه المطالب والإصلاحات مثلاً، تسنيد احتياطي نهاية الخدمة (العائد لنحو 500 ألف أجير لبناني مسجلين في الضمان) من خلال ربطه بسعر الدولار الحالي لتحاشي تبخّر هذا الاحتياط في حال حصول انهيار نقدي؛ وكذلك الدفع في اتجاه إقرار قانون نافذ للتغطية الصحية الشاملة للبنانيين المقيمين، التي لا تتطلب إلا زيادة بنحو 20% عما تنفقه الدولة راهنا على الصحة عبر خليط من الوزارات والمؤسسات العامة وشبه العامة الضامنة. وثمة إصلاحات أساسية يجب أن تطال أيضا النظام الضريبي، مع التأكيد خصوصا على الطابع التصاعدي للضريبة على الدخل والأرباح والثروة (مع شطور على الأرباح وفوائد الودائع المصرفية)، وما إلى ذلك من إصلاحات.
ولكن القلق الأساسي يكمن في أن من يتحكم في السلطة ويتحمّل مسؤولية تردّي الأوضاع، قد يكون هو نفسه المرشّح لإعادة هندسة النظام في حقبة ما بعد الإنهيار. وهذا سيناريو خطير جداً لأنه قد ينطوي – في ظل تعميم ظاهرات البطالة الاستغلال الطبقي والإفقار العام – على إطلاق موجات عاتية وغير مسبوقة من الهجرات الخارجية القسرية أو شبه القسرية، خصوصاً في صفوف الطبقة الوسطى التي تشكل القاعدة الأساسية للنظام. وهذا ما سيفاقم الخلل الديمغرافي الداخلي الذي يتصف أصلا بالهشاشة، مع وجود نحو مليونين من المقيمين غير اللبنانيين، ونصفهم من النازحين السوريين الذين لا نعرف – بحسب ما تضمره “الإرادات الخارجية والإقليمية – متى سيعودون إلى بلدهم. البلد وتكوين نسيجه الداخلي سيتغيران لحظتها.
- لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:
Kamal Hamdan: The Breadcrumbs System Reproduces Ruling Class in Lebanon
“