قصص عديدة تكشف عن الشرخ الكبير بين المواطن اللبناني ودولته، يرويها القادمون إلى “دائرة الشياح” في مؤسسة كهرباء لبنان في الحازمية التي تشهد يوميًا زحمة شديدة من طالبي تجميد أو إلغاء عدّادات الكهرباء. ومن لم يقرر إلغاء العدّاد قرر تخفيض حجم الساعة لتخفيض الكلفة بعدما بدأت مؤسسة كهرباء لبنان في شباط إصدار الفواتير وفقًا للتسعيرة الجديدة على أساس سعر صيرفة زائد 20 بالمائة الأمر الذي فاجأ اللبنانيين بفواتيرٍ بملايين الليرات.
والمشكلة ليست فقط في ارتفاع الفواتير بل أيضًا في كون الكلفة التي يدفعها الناس وفقًا للتسعيرة الجديدة لا تتناسب مع ساعات التغذية المنخفضة التي لا تتعدى أربع ساعات يوميًا علمًا أنّ خطّة الكهرباء كانت قد وعدت المشتركين بعشر ساعات يوميًا. وتتجاوز طلبات الإلغاء أو التجميد التي تنفّذها يوميًا دائرة الشياح التي تشمل جبل لبنان مثلًا 70 طلبًا، فيما يصل الرقم في الدوائر الأصغر مثل الهرمل إلى 12 طلبًا يوميًا.
وتسبّبت الأعداد الهائلة لطلبات الإلغاء أو التجميد التي وصلت مؤسسة الكهرباء إلى توقف بعض الدوائر عن استقبالها بسبب عدم قدرتها على تحمّل العدد الهائل من طالبي التجميد أو الإلغاء أو عدم قدرة مستودعاتها على احتواء العدد الكبير من الساعات الملغاة أو المجمّدة. وليس كلّ ذلك سوى نتيجة حتمية لترك الدولة مواطنيها يتّكلون على أنفسهم لتأمين الكهرباء سواء عبر الاستعانة بالمولّدات الخاصة أو تركيب الطاقة الشمسية وذلك بسبب سياسات طاقة فاشلة، أو نتيجة للانهيار الذي تسبّبت به السلطة الحاكمة والذي جعل القدرة الشرائية للأسر في الحضيض لا تغطّي فاتورة كهرباء على التسعيرة الجديدة.
طوابير الإلغاء: الدولة تبعدنا عنها
يقول أحد موظفي مكتب الهرمل لـ “المفكرة”: إنّ “الدائرة تشهد يوميًا إقبالًا كبيرًا لمقدّمي طلبات إلغاء الاشتراك وعددًا أعلى من طالبي التجميد لمدّة عامين. ويصل عدد الطلبات التي ننفذها يوميًا إلى 12 طلبًا”. وأشار إلى أنّه “بسبب ارتفاع هذه الطلبات عن قدرة الدائرة، تمّ إيقاف استلام الطلبات مؤقتًا بسبب عدم توفّر العدد الكافي من الفرق االفنيّة المولجة الكشف على العقار الذي ينوي إلغاء اشتراكه أو تجميده، وعدم قدرة المستودع على استيعاب الساعات المطلوب تجميدها أو إلغائها”.
هذه دائرة صغيرة يبلغ عدد مشتركيها حوالي 150 ألفًا، أما في الدوائر الكبرى مثل الشياح، فيصل عدد الطلبات التي تنفّذ يوميًا إلى 70 طلبًا ما يعني أنّ عدد الطلبات التي تقدّم يوميًا أعلى وبالتالي التهافت أعلى من ذلك بكثير، ما يجعل الأمر بمثابة ظاهرة.
من بين المنتظرين في “دائرة الشياح” في الحازمية أحمد (54 عامًا) الذي يسكن في منطقة الشياح وهو عسكري متقاعد في الجيش اللبناني يشرح لـ “المفكرة”: “راتبي لا يتعدى ثمانين دولارًا ولم أعد قادرًا على تحمّل أي تكاليف إضافية. لم تصلني بعد أي فاتورة جديدة لكنّي أتوقع أن تتخطى المليون ليرة”.
أتى أحمد منذ ساعات الصباح الأولى إلى الدائرة، ووقف بين عشرات الوافدين المنتظرين أن يحين دورهم لتقديم معاملاتهم، يقول: “منذ مدّة وبسبب الانقطاع المستمر للكهرباء وارتفاع كلفة المولّد قرّرت تركيب طاقة شمسيّة بعد أن رهنّا بعض الذهب الذي تملكه زوجتي”. ويُضيف: “لدي ساعة بحجم 10 أمبيرات لا أتوقع أن تكون فاتورتها أقل من مليون ليرة لشهرين، علمًا أنّ الفاتورة الأخيرة التي تضمنت رسوم العام الماضي كانت 180 ألف ليرة عن عام كامل”. ويشرح أحمد أنّ “معاملة إلغاء الساعة تتطلب تعهدًا لدى كاتب العدل كلّفني 400 ألف ليرة، وهدفه أن أتعهد بأن أدفع كافة الرسوم المتوجّبة علي إلى حين إيقاف العداد”. ويشرح أنّ “الرسوم التي تُحتسب على التسعيرة الجديدة بدءًا من شهر تشرين الثاني 2022، أتوقع أن تتخطى الخمسة ملايين ليرة مع مرور خمسة أشهر حتّى اليوم”.
أحد المنتظرين في الطابور بشير (46 عاماً) من سكّان كفرشيما ولديه عدّادين، يقول إنّه أتى إلى مؤسسة الكهرباء بهدف إلغاء أحدهما لتوفير الرسوم التي سيتوجّب عليه دفعها، وقد دفع 10 دولارات مقابل التعهّد لدى كاتب العدل. يقول لـ “المفكرة” “منزلي قديم جدًا وفيه عدّادين بحجم 15 أمبير. كانت الرسوم مقبولة في السابق، إذ كنّا ندفع نحو ثلاثين ألف ليرة للعدّادَين، أمّا بعد رفع التسعيرة دفعنا 700 ألف رسوم لكل عدّاد و150 ألف مقابل 30 كيلوواط كهرباء استهلكناها خلال شهرين”. يوضح بشير أنّه يتّكل على الطاقة الشمسية لتأمين الكهرباء لمنزله. ويرى أنّ “الدولة تذهب إلى عزلنا نهائيًا عنها حيث بات الشعب يبحث عن مصادر مختلفة لتأمين الخدمات الأساسية بمنأى عن الدولة”. ويعتبر أنّ “الدولة رفعت الرسوم وبالتالي دفعت المواطنين للتهرّب من دفعها لأنّهم في المقابل لا يحصلون على خدمة جيدة”.
محمد (53 عاماً) أب لخمسة أولاد، وهو مهندس معماري لكنّ عمله متوقف حاليًا، أتى من حارة حريك ليتقدم بطلب تخفيض حجم العدّاد. يقول لـ “المفكرة”: “لديّ عدّاد بحجم 30 أمبير أنوي خفضه إلى 15 أمبير بسبب ارتفاع قيمة الرسوم”. يُضيف: “لديّ اشتراك مع المولّد بخمسة أمبير يكلّفنا شهريًا نحو 60 دولارًا، وقمت بتركيب سخّان مياه على الغاز، ولم أعد أتّكل على كهرباء الدولة”. لم يستلّم محمد بعد فاتورة وفقًا للتسعيرة الجديدة لكنّه يستغرب ارتفاع سعر الرسوم الذي يزيد عن 10 دولارات. ويتساءل: “كيف المواطن الذي خسر أمواله في المصرف يأخذها على سعر صيرفة 15 ألف ليرة أمّا فاتورة الكهرباء فتُحتسب على سعر 39 ألف ليرة + 20 بالمائة”.
من جهتها، تشرح زينب التي تسكن في الحدث أنّ “دفع رسوم الكهرباء اليوم بات عبئًا إضافيًا لا يُمكن تحمّله مع الفواتير الأخرى التي ندفعها”. وتؤكد “ندفع نحو 100 دولار بدل اشتراك المولّد، ومنذ فترة دفعنا 4 ملايين ليرة فاتورة المياه لعام كامل هذا غير أنّنا ندفع مبالغ هائلة مقابل تأمين مياه الشرب”.
تخفيض حجم الساعة الحلّ للمتردّدين
بسّام الذي يسكن في بيت مري، هو أحد الّذين عبّروا عن رفضهم للتسعيرة الجديدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقد تواصلت معه “المفكرة” لاستيضاح التوجّه الذي سيأخذه. فشرح قائلاً: “لدي طاقة شمسية تؤمن حاجتي للكهرباء، على الرغم من أنّ كهرباء الدولة كانت منقطعة بشكل شبه دائم في العام الماضي فإنّ الفاتورة تعدّت أربعة ملايين ليرة عن شهري تشرين الثاني وكانون الأول 2022”. ويُرجع بسّام السبب لأنّ “العدّاد الذي لدينا سعته نحو 60 أمبير وهو من العدادات القديمة التي درجت العادة على تركيبها قديمًا حين كانت رسومها مقبولة”. ويقصد بسام العداد الـ triphasé، الذي قال عدد من زوّار دائرة الشياح لـ “المفكرة” إنّه العدّاد المركّب في بيوتهم وهو عداد قديم رسومه أعلى من العدادات الأحادية monophasé.
وبعد فترة من الحيرة قرر بسام “تصغير حجم الساعة واستبدال التريفازيه بالمونوفازيه”. ويأتي قراره بعدما استدرك “احتمال مواجهة أي عطل في الطاقة الشمسية واضطراري للاستعانة بكهرباء الدولة لتشريج البطارية”. كما يخشى “اتخاذ قرار إلغاء العدّاد وبعد وقت أعود عن القرار وتتعرقل عملية استعادة الاشتراك، خاصّة وأنّ لا شيء مضمون مع هذه الدولة”. ويخشى أن تمتنع الدولة في المستقبل عن إعادة الاشتراكات للّذين ألغوها.
تجميد أم إلغاء، مالك أم مستأجر، ماذا في الإجراءات؟
على المقلب الآخر لا ينصح موظف في مؤسسة كهرباء لبنان تواصلنا معه للاستيضاح عن الإجراءات، الناس بإلغاء العدّاد، ويعمل هذا الموظف في دائرته على حث المواطنين على التراجع عن هذه الخطوة “حتّى لا يندموا لاحقًا في حال أرادوا استعادة العدّاد، إذ يتوقع أن ترتفع رسوم تركيب العدّاد لاحقًا”. ويعتبر الموظف أنّه “لا غنى عن ساعة الدولة (العدّاد) حتّى لو أنّ المؤسسة لا تُقدم الخدمة بالشكل المناسب”، موضحًا أنّه “حتّى لو كان المواطن لديه طاقة شمسية فإنّه يحتاج للكهرباء في فصل الشتاء لشحن البطاريّة بسبب الغيم الذي يحجب الشمس”. وحين أصرّينا عليه أن يعطي الناس حلًّا لارتفاع الرسوم، أشار إلى أنّ “تجميد الساعة أفضل من إلغائها، إذ بإمكان المواطن تجميدها لمدّة عامين لكن عليه أن يحذر من إلغائها نهائيًا في حال لم يطلب إعادة تفعيلها قبل انتهاء مدّة العامين”.
تجري آلية التجميد الاختياري لاشتراك الكهرباء العدّاد وفقاً لنظام الاشتراك بالتيار الكهربائي الخاص بمؤسسة كهرباء لبنان، عبر تقديم طلب خطي إلى مؤسسة الكهرباء ويُمكن التجميد لمدة عامين كحد أقصى. فيتم نزع العدّاد وتجهيزات الاشتراك وتتوقف بالتالي الرسوم الشهرية. وفي حال رغب المشترك في إعادة الاشتراك قبل انتهاء مهلة العامين، يتم إعادة تركيب تجهيزات الاشتراك والعدّاد ويعود للعمل ويُصبح الاشتراك ملغى في حال لم يتم طلب العودة عن التجميد.
ويوضح مصدر في مؤسسة كهرباء لبنان أنّ “تنفيذ طلبات التجميد أو الإلغاء يتأخّر بسبب الإمكانات المتواضعة للفرق الفنية، حيث من المفترض ألّا يحصل التجميد قبل إجراء كشف على العقار والتأكد من أنّ المشترك لن يقوم بالتعليق على الشبكة”. ويلفت إلى أنّ “الفرق تتشدد في حالة طلبات التجميد التي لا يظهر فيها أنّ طالب التجميد لديه طاقة بديلة، وفي حال تقدّمه بطلب التجميد بسبب شغور العقار نطلب منه إثبات ذلك عبر ورقة من البلدية”.
وهنا تبرز مسألة الملكية كعائق أمام المستأجرين الذين يرغبون في إلغاء العدادات، إذ تنصّ الإجراءات على أن يأتي مقدّم الطلب “بصحبة صاحب العلاقة أو وكيله الشرعي”. وهذا ما واجهته رائدة التي تعيش في ضاحية بيروت الجنوبية إذ أشارت إلى أنّ صاحب الملك رفض القيام بهذه الخطوة. وتشرح أنّه “لم نستلم بعد أي فاتورة جديدة لكنني أخشى حينما تصل الفاتورة فلا أتمكن من تأمين المبلغ الذي لا أتوقع أن يكون أقل من مليون ليرة”. وتؤكد رائدة أنّ المدخول الشهري لزوجها لا يتخطى عشرة ملايين ليرة، أي أقل من مئة دولار، علينا أن نؤمن منه مصاريفنا وإيجار المنزل وفاتورة المولّد”.
ملايين الدولارات لتغذية 4 ساعات يوميًا
بالتزامن مع حملة لرفع التعديّات عن الشبكة، بدأت مؤسسة كهرباء لبنان بتنفيذ التسعيرة الجديدة بدءًا من 2 تشرين الثاني 2022 وبدأت بإصدار هذه الفواتير في شباط 2023. وأوضحت المؤسسة في بيان نشرته في شهر تشرين الثاني 2022 أنّ التسعيرة الجديدة هي 10 سنتات أميركية لأول 100 كيلوواط /ساعة، و27 سنتًا لكل كيلوواط /ساعة يزيد عن الـ 100. ويُضاف إليها تعرفة شهرية ثابتة هي 27 ستنتاً لكلّ أمبير و4.3 دولار بدل تأهيل للاشتراكات التي كانت سابقًا 5000 ليرة، و8.6 دولار للاشتراكات التي كانت تُحتسب 10 آلاف ليرة.
وأعلنت المؤسسة احتساب الدولار على سعر منصّة صيرفة الذي سوف يحدّده مصرف لبنان، على أن تُعدَّل هذه التعرفة كل شهر أو شهرين، وبحسب كلفة الإنتاج الحقيقية المعتمدة على سعر النفط العالمي ومشتقاته.
وعادت المؤسسة وأصدرت بيانًا مطلع الشهر الجاري أوضحت فيه بأنّ “الفواتير الحالية التي أصدرتها أو التي يتم إصدارها حاليًا وتتم جبايتها راهنًا تشمل استهلاك الكهرباء في شهرين معاً هما شهرًا 11 و12 سنة 2022 على أساس سعر الصرف على منصة صيرفة + 20% بتاريخ طباعة الإصدار والبالغ 43600 ليرة للدولار (43600 ليرة + 20%=52320 ليرة) وليس بالتالي بحسب سعر منصة صيرفة اليوم أو في أي تاريخ آخر، بالرغم من ارتفاعه خلال فترات وجيزة منذ ذلك الحين خلال الأسبوعين الماضيين بشكل مباغت وكبير”.
وكانت خطّة الطوارئ الخاصّة بالكهرباء قد وعدت بتأمين 8 إلى 10 ساعات كهرباء يوميًا، لكنّ معدّل التغذية اليوميّة لم يتجاوز 4 ساعات يوميًا بسبب رفض مصرف لبنان تغطية الكلفة المطلوبة للسلفة التي طلبتها المؤسسة بالعملة الأجنبية (600 مليون دولار) وموافقته فقط على 300 مليون.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.