“
أصدرت الهيئة الإتهامية في بيروت بتاريخ 5 تشرين الثاني 2018 قرارها في قضية عامل صالون التجميل في فردان. وقد صدر القرار عن الهيئة المكونة من القضاة ماهر شعيتو وجوزف أبو سليمان وبلال بدر.
وكان تم توقيف الشاب، مع شخصين آخرين، بتاريخ 18 تشرين الأول على خلفية إجرائه عمليات وشم (تاتو) وهو يحمل فيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV)، وذلك بناء على كتاب معلومات نجهل محرره (الذي قد يكون “المواطن الصالح”). وقررت الهيئة الاتهامية فسخ قرار قاضي التحقيق بإصدار مذكرة توقيف بتاريخ 1 تشرين الثاني الجاري، بعد إطلاعها على الملف. وجاء في قرار الهيئة أنه “بالنظر إلى ماهية الأفعال المنسوبة للمدعى عليه، وحالة التحقيق الراهنة التي لم تثبت حتى تاريخه تحقق إصابات مرضية نتيجة أفعال الأخيرة، ترى الهيئة بما لها من سلطة تقديرية أن القرار المستأنف غير واقع في موقعه القانوني السليم ويقتضي فسخه وتاليا ترك المدعى عليه”. بكلام آخر، تقول الهيئة الإتهامية أن توقيف الشاب طوال 18 يوما، بموجب قرارات عن النيابة العامة الإستئنافية وقضاء التحقيق على حد سواء، لم يكن مبررا قط. وفيما استندت الهيئة للوصول إلى هذه النتيجة على عدم وجود أي إثبات على حصول إي إصابة، صرح د. روي نسناس (وهو الأخصائي في العلوم الجرثومية) بالفم الملآن على شاشة التلفزيون أنه لا يوجد خطر نقل للفيروس عند صناعة الأوشام. وعليه، بإمكاننا القول من دون أي مبالغة أن الشاب تم توقيفه بناء على إخبار “مواطن صالح” على أساس جرم غير ثابت وبانتظار إثباته، فيما أن المبدأ هو توقيف الشخص في حال (وفقط في حال) العثور على أدلة أو وجود شبهات قوية بحقه. وهذا الأمر لم يتحقق قط في هذا الملف. ولا نستبعد والحالة تلك أن يكون كتاب المعلومات قد أرسل لغايات انتقامية أو شخصية بحتة، وهي غايات سارع جهاز أمن الدولة لخدمتها من خلال سلسلة من الانتهاكات بحق الشخص المذكور ورفيقيه.
يذكر أن برنامج “هوا الحرية” على شاشة “ال.بي.سي.” كان أول من أثار هذه القضية بتاريخ 29 تشرين الأول 2018 حيث تمّ نشر مضمون تحقيقات المديرية العامة لأمن الدولة في القضية. الاشكالية التي عالجها البرنامج اقتصرت على الوصم الإجتماعي الناجم عن كون الموقوف (العامل في الصالون) مثليا ومصابا بفيروس نقص المناعة ويمتهن الوشم. فهل من شأن امتهانه الوشم أن ينقل الفيروس لزبائنه من سيدات المجتمع؟ على هذا المنوال، دارت الحلقة فيما لم يتم إيلاء أي انتباه لمسألة الانتهاكات الجسيمة المرتكبة بحقوق أي من الشباب الموقوفين من قبل جهاز أمن الدولة والنيابة العامة، والتي شكل بعضها صورة طبق الأصل عما جرى في ملف زياد عيتاني.
من أبرز هذه الانتهاكات، الآتية:
- أنه لم يتم السماح لهم التواصل مع محام بل تم إخفاؤهم ووضعهم في عزلة تامة، وذلك خلافا للمادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية،
- أن توقيفهم استمر 14 يوما قبل إحالة ملفه إلى قاضي التحقيق، بما يتجاوز مدة التوقيف المسموح بها قانونا لدى الضابطة العدلية، وهي 48 ساعة يمكن تمديدها مرة واحدة بإشارة من المدعي العام،
- أنه تم تسريب التحقيقات من جهاز أمن الدولة إلى حلقة “هوا الحرية”.
وهذا ما صرّحت به بوضوح كلي المحامية نرمين السباعي، بصفتها وكيلة الشاب الذي صدر لمصلحته أخيراً قرار الهيئة الإتهامية، للمفكرة: “14 يوم مرَت لم يسمح لنا كمحامين ولا لأهل موكلي أن نراه بذريعة السرية، لنتفاجأ أن ملف التحقيق كاملاً سُرّب إلى الإعلام. خرق سرية التحقيقات، تشعب ليخرق أي سرية يفترض حمايتها. أولاً السرية الطبية، ثانياً معلومات عن حياة المتهم الخاصة وعلاقته العاطفية”. تضيف أن “الملف مليئ بالمخالفات القانونية الفادحة”. فالأيام الـ 14 “يمكن وصفها أنها اختطاف، ذلك أننا لم نكن نستطيع أن نتأكد من مكان وجود موكلي ولا نستطيع مقابلته أو الحديث إليه، لا هو ولا رفيقيه الموقوفين معه”.
وفق السباعي، تم توقيف الشبان الثلاثة بناءً على “إشارة المدعي العام الإستئنافي، إثر معلومة لجهاز أمن الدولة مفادها أن شخصا متعايشا مع فيروس نقص المناعة يقوم بأعمال وشم”. حتى تاريخ بث الحلقة، كان الملف لم يختم بعد من قبل النائب العام الإستئنافي، ولم يكن قد ادّعى عليهم بعد. وتشير السباعي إلى أنه خلال هذه الفترة، تم التواصل مع عدد من زبائنه، من الشخصيات المعروفة، لإعلامهم أن وكيلها يحمل فيروس HIV ودعوتهم إلى إجراء الفحوصات الطبية، وهو ما يشكل خرقاً لبيانات الشاب الشخصية والطبية. علماً أن “كل هذا حصل خارج إطار المحاضر الرسمية، حيث لا ذكر لتواصل أي كان مع هؤلاء الزبائن” وفق السباعي. وهذا ما عاد أمن الدولة وأصدر بيانا بهذا المعنى، كأنه يناشد الناس مساعدته لإيجاد دليل يوفر له عناصر الإدانة.
أمام استمرار النيابة العامة بتوقيف الشاب بشكل تعسفي، تقدم المحامون بشكوى لدى النيابة العامة التمييزية. “فصّلنا للنائب العام التمييزي شكوانا، لاسيما لناحية مدة التوقيف من دون إدعاء، وعدم معرفتنا بالتهمة الموجهة لوكيلهم” تقول سباعي. على هذه الخلفية، “ألزم النائب العام التمييزي، المدعي العام بختم الملف”. عندها “قام الأخير بالإدعاء بوجه موكلي فقط بجريمة نشر وباء وبمخالفة أنظمة بلدية وإدارية”. تؤكد سباعي أن “التهمتين اللتين وجّهتا إلى موكلها لم تُدعما بأي دليل أو معلومة تدعو للشك أن أي أمر من هذا القبيل حصل”. وهي تذكّر أن “وزارة الصحة أصدرت بياناً يؤكد أن لا مانع من قيام حاملي فيروس نقص المناعة بأعمال الوشم وأن لا تنظيم لهذه المهنة لكي يضطر للحصول على ترخيص”.
اللافت أن إدعاء المدعي العام الاستئنافي انحصر بموكل السباعي. أما الشخصان الآخران فتركا من دون أن يعرف لماذا تم توقيفهما بالأصل. بعد الإدعاء على وكيلها، أحيل الملف إلى قاضي التحقيق الذي استمع إلى أقواله وسطر بحقه مذكرة توقيف بتاريخ 1 تشرين ثاني. القرار “أسند للمدعى عليه نفس الجرائم التي ادعى بموجبها المدعي العام الاستئنافي، وفي نفس السياق الخالي من أي أساس يسمح بإسناد هذه التهم إليه” وفقاً لسباعي. وقد عاجل محامو الشاب إلى تقديم استئناف أمام الهيئة العامة، الأمر الذي أدى إلى فسخ القرار.
بالإضافة إلى المخالفات على صعيد مدة التوقيف وخرق السرية ومعها قرينة البراءة، امتدت الإنتهاكات إلى ظروف التوقيف. تؤكد سباعي أن “الشبان الثلاثة تعرضوا للاهانات والضرب وخرق خصوصيتهم ووصمهم أمام باقي الموقوفين”. كما تم وضعهم في “زنزانة إنفرادية بهدف عزلهم على خلفية حملهم الفيروس”.
إلى ذلك توضح سباعي حجم الإنتهاكات على صعيد الاعلانات الدولية المتعلقة بحقوق المتعايشين مع فيروس نقص المناعة المكتسب. أولاً من خلال “إلزامهم بإجراء الفحوصات الطبية، رغماً عن إرادتهم”. تلفت السباعي إلى “أن هذا الأمر يشكل بسياقه العام خرق لحقوق الموقوف، وبشكل خاص في حالة الـ HIV التي يحظر فيها إجراء فحوصات للشخص خارج إطار إجراءات واضحة تبدأ بـالمشورة السابقة واللاحقة للفحص ليكون على دراية بأهميته، ثم أخذ موافقته وحفظ سرية النتائج”.
تنتهي سباعي بملاحظة أخيرة، تصفها بالـ “سوريالية”، حيث “طلب من أحد الشبان المتروكين الحضور إلى المديرية العامة لأمن الدولة، ليقوم بتوقيع تعهد أن يلتزم بتناول أدويته”. لم يخضع الشاب لهذا الإجراء في إثر رفض وكلائه وتدخل النيابة العامة التمييزية الذي أدى إلى إحالة الملف أمام قاضي التحقيق.
“