"وزير العدل اللبناني يعلن بدء تطبيق المادة 95 من قانون تنظيم القضاء العدلي والتي تسمح بطرد قاض من عمله من دون محاكمة، ومن دون مجال للطعن. وما يعزز مشاعر القلق هو أن الجهاز الذي يقرر الطرد هو مجلس القضاء الأعلى المعين في غالبيته وفق قواعد المحسوبية. في حال الاستمرار في تطبيق هذه المادة، فان ذلك يشكل سابقة خطيرة تسمح باستباحة القضاة جميعا مما يؤدي الى انهيار استقلاليتهم بالكامل". بهذه العبارات، أبدت المفكرة القانونية اعتراضها المبدئي على تطبيق المادة المذكورة، وقد توسعت في شرح أسباب رفضها لذلك في مقابلة نشرت في جريدة السفير في 18/10/2013. ويسرها اليوم أن تنشر هنا قراءة قانونية حول أصل هذه المادة وأبعادها، داعية القضاة والحقوقيين اللبنانيين والعرب الى مزيد من الآراء في هذا المجال (المحرر).
بتاريخ 24/9/2013 عقد وزير العدل اللبناني شكيب قرطباوي مؤتمراً صحفياً، طرح فيه بياناً حول بعض الشؤون القضائية الملّحة، ومنها زيادة إنتاجية القضاء وتنقية الجسم القضائي لنفسه، إذ ورد في حديثه لهذه الناحية أن: "هناك بحثاً جدياً في هذه الفترة لتطبيق أحكام المادة 95 من قانون القضـــــاء العدلي التي تنص على حق مجلس القضاء الأعلى بإعلان عدم أهلية قاض معين وبالتالي صرفه من الخدمة نهائياً بناء لاقتراح التفتيش القضائي"[1].
وقد كاد هذا الكلام يمر دون أي اهتمام يذكر، لولا التطورات التي لحقت به على الصعيد العملي، إذ نشرت جريدة النهار بتاريخ 15 تشرين الأول 2013 مقالاً بعنوان "استقالة قاض مع بدء تطبيق المادة 95 للمرة الأولى في تاريخ القضاء"، بحيث تضمن هذا المقال أن مجلس القضاء الأعلى استدعى أحد القضاة في القضاء العدلي الجزائي العادي بعد إحالته عليه، عملاً بالمادة 95 من قانون القضاء العدلي، التي تنص على انه يعود إلى مجلس القضاء، بناء على اقتراح هيئة التفتيش القضائي، اعتبار احد القضاة غير مؤهل للبقاء في جسم القضاء، مما حدا بالقاضي المذكور للتقدم باستقالته التي وافق عليها وزير العدل، لتكون المرّة الأولى في تاريخ القضاء التي تطبق فيها هذه المادة[2].
وعليه، لا بد من تسليط الضوء على المادة المذكورة أعلاه، بغية الخروج ببعض الاستنتاجات والملاحظات التي تدور حولها، وهو ما سنقوم به كالآتي:
1- تنص المادة 95 من قانون القضاء العدلي اللبناني الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 150 تاريخ 16/9/1983 وتعديلاته، على ما حرفتيه: "خارجا عن كل ملاحقة تأديبية، لمجلس القضاء أن يقرر في أي وقت عدم أهلية القاضي الأصيل بقرار معلل يصدر بناء على اقتراح هيئة التفتيش القضائي وبعد الاستماع الى القاضي المعني وذلك بأكثرية ثمانية من أعضائه.
لا تقبل قرارات مجلس القضاء الأعلى في شأن أهلية المرشح للاشتراك في المباراة كقاض متدرج أو أصيل أو في شأن أهلية القاضي المتدرج أو الأصيل والمتخذة استناداً على أحكام هذا المرسوم الاشتراعي أي طريق من طرق المراجعة بما فيه طلب الإبطال لسبب تجاوز حد السلطة».
2-في البداية، إن الملاحظ من النص الوارد أعلاه، ومن النص التشريعي الذي ورد فيه أي قانون القضاء العدلي، أن محل تطبيقه هو القضاة في القضاء العدلي فقط، وهذا ما يطرح التساؤل حول ما إذا كان القضاة في القضاء الإداري أو المالي أو الشرعي والمذهبي يخضعون لنصوص مشابهة يمكن أن تودي بالقاضي الأصيل خارج الجسم القضائي لعدم أهليته.
في الحقيقة، يتبدى من الاطلاع على النصوص الناظمة لمختلف الجهات القضائية المعتبرة من تنظيمات الدولة، أن النص الوارد في قانون القضاء العدلي أعلاه هو النص الأشمل والأوسع نطاقاً على الإطلاق.
فنرى في المادة 10 من نظام مجلس شورى الدولة[3] أن: «ينظر مكتب مجلس شورى الدولة في وضع القاضي الإداري عند انقضاء سنتين على تعيينه ويمكنه أن يقرر إخراجه من الملاك إذا ظهر أنه ليست له المؤهلات التي تتطلبها أعماله. على مكتب المجلس أن يقرر الإخراج من الملاك أو التثبيت فيه خلال مهلة ستة أشهر على الأكثر من تاريخ انقضاء السنتين. وإذا انقضت المهلة دون اتخاذ أي قرار من قبل المكتب يعتبر القاضي مثبتاً حكماً دون حاجة إلى نص آخر».
فيما جاءت المادة 10 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة[4] أكثر تشدداً إذ نصت على أن «لا ينقـل الرئيس والمدعي العام والمستشـارون ومعاون المدعي العام إلى إدارة أخرى إلا بعد موافقـة مجلـس الديـوان ولا يعـزلون إلا بقـرار من المجلس التأديبي».
أما بالنسبة للقضاة الشرعيين فقد نصت المادة 459 من قانون تنظيم القضاء الشرعي السني والجعفري[5]على أنه: «يمكن نقل قضاة المحاكم الشرعية وصرفهم وإحالتهم على المجلس التأديبي ووضعهم بتصرف مرجع المحاكم بعد موافقة مجلس القضاء الشرعي الأعلى ولا يسوغ شيء من ذلك بحق رئيس المحكمة الشرعية العليا إلا بعد موافقة ثلثي أعضاء مجلس القضاء الشرعي الأعلى الحاضرين، وبمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء».
وبالتالي، فالثابت أن القانون قّيد مكتب مجلس شورى الدولة بمهلة معينة هي ستة أشهر بعد انقضاء سنتين على تعيين القاضي الإداري بغية إعلان عدم أهليته فإذا انقضت هذه المهلة تعذّر على المكتب المذكور ممارسة هذه الصلاحية، أما لناحية قضاة ديوان المحاسبة فإنه يتعذّر على مجلس الديوان عزلهم إذ أن ذلك لا يتم إلا بالطرق التأديبية، أما بالنسبة للقضاء الشرعي فإن صرف القاضي يستدعي الى جانب موافقة مجلس القضاء الشرعي الأعلى فقط اتخاذ مرسوم في مجلس الوزراء.
وبالمقابل فإن المادة 95 من قانون القضاء العدلي قد أعطت لمجلس القضاء الأعلى صلاحية مطلقة غير محدودة زمنياً لإعلان عدم أهلية القاضي الأصيل "في أي وقت" كما أن إعلان عدم الأهلية لا يحتاج إلى أي إجراء آخر سوى قرار مجلس القضاء الأعلى الذي يتخذ بمعزل عن الطرق التأديبية ويكون نافذاً بذاته.
وهذا ما يظهر التفاوت الفاضح بين الجهات القضائية في هذا المجال، وعدم المساواة بين القضاة الذين يفترض أن يتمتعوا بالضمانات نفسها كسلطة مستقلّة عملاً بالمادة 20 من الدستور.
3- إن المادة 95 بصيغتها الراهنة، لم تكن موجودة عند إصدار قانون القضاء العدلي عام 1983، فالنص الحالي للمادة المذكورة قد استحدث بموجب القانون رقم 389 تاريخ 21/12/2001 والذي أقره المشرّع "بهدف تعزيز استقلالية السلطة القضائية وتحصينها" على حد ما جاء في الأسباب الموجبة للقانون المذكور[6].
والواضح في الأسباب الموجبة للقانون المشار إليه أيضاً، أن تعديل المادة 95 قد تم بغية "وضع الآلية التي تسمح لمجلس القضاء الأعلى عدم أهلية قاض أصيل".
وهنا يطرح التساؤل هل أن قانون القضاء العدلي قبل تعديله عام 2001، كان يقر مبدأ إعلان عدم أهلية القاضي الأصيل دون تحديد الآلية اللازمة لذلك، كي يأتي المشرّع ويسد هذه الثغرة وفق ما جاء في الأسباب الموجبة؟
يظهر أن ما قصدته الأسباب الموجبة هو ما احتوته المادة 95 قبل تعديلها من أن: «لا تقبل قرارات مجلس القضاء الأعلى المتخذة بصدد أهلية القاضي للاشتراك في المباراة أو أهليته كقاض متدرج، أو كقاض أصيل والمتخذة استناداً لأحكام هذا المرسوم الاشتراعي أي طريق من طرق المراجعة بما فيه طلب الإبطال بسبب تجاوز حد السلطة».
وبذلك يقتضي تفسير هذه المادة وما تضمنته من عبارات على ضوء مختلف نصوص قانون القضاء العدلي خاصة تلك التي تتحدث عن قرارات مجلس القضاء الأعلى بصدد أهلية القضاة للقول بمدى صوابية ما قدّره المشرّع.
فبالاطلاع على نص المادة 70 من قانون القضاء العدلي يتبين أنها تميز بين نوعين من قرارات مجلس القضاء الأعلى بصدد أهلية القضاة. فهي تتحدث من ناحية، عن صلاحية مجلس القضاء الأعلى بإعلان عدم أهلية قاضٍ متدرج في نهاية كل سنة من سنوات دراسته وتدرجه الثلاث بناء على اقتراح مجلس معهد الدروس القضائية ما يدعو الى القول بأن هذا هو المقصود بالقرارات المتعلقة بأهلية القاضي المتدرج، ومن نحو آخر تتحدث المادة 70 عن قرارات مجلس القضاء الأعلى بصدد أهلية القاضي المتدرج للانتقال إلى القضاء الأصيل بعد انتهاء مدة تدرجه على ضوء لائحة التخرج المرفوعة من مجلس معهد الدروس القضائية ما يبين أن هذه القرارات هي المتعلقة بأهلية القاضي الأصيل.
وبالتالي فإن القرارات المتعلقة بأهلية القاضي المتدرج أو الأصيل قبل العام 2001 كانت تتخذ قبل انتقال القاضي إلى القضاء الأصيل لا بعده بآليات محددة ودقيقة، ما يظهر حجم الخطأ الذي وقع فيه المشرّع عند تعديل المادة 95.
فالقانون قبل العام 2001 لم يكن يقر إمكانية طرد القاضي من الجسم القضائي بعد انتقاله إلى القضاء الأصيل كما هو الحال في الوضع التشريعي الحاضر، فيكون ما أقره المشرع قد تعدى مجرد وضع آلية تسمح بإعلان عدم أهلية قاضٍ أصيل إلى إقرار مبدأ جديد يختلف اختلافاً جلياً عما تضمنه التشريع السابق. وبالتالي فإن المشرّع يكون قد أضعف من الضمانات التي أقرها للقضاة العدليين بموجب قوانين سابقة وهو ما سيظهر بشكل أوضح في النقاط التالية، وهذا ما يجعل ما أقره المشرع مخالفاً للدستور ولاجتهاد المجلس الدستوري في هذا الصدد[7].
4-وبالنسبة لمضمون المادة 95 الجديدة، نقرأ في مطلعها "خارجاً عن كل ملاحقة تأديبية" وهذا ما يدفعنا للبحث عن معنى ومفهوم هذه العبارة على ضوء نصوص القانون.
وفي هذا الصدد، لا يمكننا إلا نمرّ على نص المادة 84 من قانون القضاء العدلي التي تضمنت عبارة مشابهة إذ نصت على أنه: "خارجاً عن كل ملاحقة تأديبية، يمكن لرئيس مجلس القضاء الأعلى أن يوجه عند الاقتضاء ملاحظة لأي قاضٍ من القضاة العدليين باستثناء قضاة الهيئة أو المجلس أو المحكمة التي يرأسها كما يمكن لكل من النائب العام التمييزي والرئيس الأول لمحكمة الاستئناف والنائب العام لدى محكمة الاستئناف أن يوجه ملاحظة للقضاة التابعين لهم باستثناء قضاة الحكم الذين يألفون غرفة الرئيس الأول".
وبالتدقيق في النص الوارد أعلاه يبدو لنا أنه يجاري المنطق السليم للأمور، ويراعي مبدأ أساسياً في القضايا التأديبية والعقابية بشكل عام، إذ "لا عقاب تأديبي دون مخالفة مسلكية"، فمفهوم النص أعلاه يدل، أنه في حال ارتكاب أحد القضاة العدليين لخطأ طفيف لا يرقى إلى رتبة الخطأ المسلكي الذي يوجب اتباع الطرق التأديبية، فإنه يعود للمراجع المذكورة في المادة 84 توجيه ملاحظة لهذا القاضي بما يلفت نظره للخطأ الذي قام به، ومن المسلّم به أن هذه الملاحظة ليست من العقوبات التأديبية المنصوص عنها في المادة 89 من القانون نفسه، فالملاحظة لا ترقى حتى لأدنى العقوبات التأديبية وهي "التنبيه" ،إذ ليس للملاحظة الطابع الزجري بل على العكس تماماً فهي ذات طابع أخوي محض ناتج عن الزمالة والاحترام بين أفراد الجسم القضائي الواحد.
ورغم ذلك فإن المادة 84 قد أحاطتها بضمانات معينة إذ منعت استخدامها بوجه بعض القضاة خوفاً من تأثيرها على قناعاتهم وعلى أحكامهم.
ومن هنا يستنج أن عبارة "خارجاً عن كل ملاحقة تأديبية" لا يمكن أن تستخدم إلا في نصوص تفرض إجراءات معينة بعيداً عن النظام التأديبي وبما لا يستوجب فرض أي عقوبة تأديبية، وبذلك تطرح الإشكالية فيما إذا كانت المادة 95، وبالنظر لما ورد في مطلعها، هي بعيدة عن النظام التأديبي وعقوباته.
يلاحظ في هذا الصدد أن صلاحية مجلس القضاء الأعلى المحددة في المادة 95 تتخذ بمعزل عن أي مخالفة تأديبية أي دون أن يسلك القاضي أي مسلك خاطئ، يشكل إخلالاً كبيراً بواجباته، حسب مفهوم المادة 83 قضاء عدلي التي تفيد: «كل إخلال بواجبات الوظيفة وكل عمل يمس الشرف أو الكرامة أو الأدب يؤلف خطأ يعاقب عليه تأديبياً.
يعتبر بنوع خاص إخلالاً بواجبات الوظيفة التخلف عن الجلسات وتأخير البت بالدعاوى وعدم تحديد موعد لإفهام الحكم عند ختام المذاكرة والتمييز بين المتقاضين وإفشاء سر المذاكرة».
وهنا نسأل طالما أن المادة 95 تقع خارج الأطر التأديبية ودون أن يرتكب القاضي أي خطأ مسلكي يوجب إحالته أمام مجلس التأديب، فما هو الموجب لاتخاذ أقسى عقوبة تأديبية بحق هكذا قاضٍ، ألا وهي الصرف من الخدمة على ما حددته المادة 89 من قانون القضاء العدلي؟
ومن نحو آخر، ولو افترضنا أن القاضي قد ارتكب خطأ معيناً يوجب صرفه من الخدمة، فلمَ يتم اللجوء إلى المادة 95، في حين أن قانون القضاء العدلي قد أنشأ نظاماً تأديبياً متكاملاً في إجراءاته وضماناته، وفي حين أن المادة 89 من نفس القانون أقرت تدرجاً في العقوبات التأديبية متناسباً مع طبيعة الخطأ المرتكب.
إذاً المستنتج أن المادة 95 تطرح إشكالية حول التزاحم بين نظام التأديب من جهة وبين نظام الطرد الاستنسابي من جهة أخرى.
5-تتابع المادة 95 في حديثها عن طبيعة القرار المتخذ من مجلس القضاء الأعلى فنقرأ "لمجلس القضاء أن يقرر في أي وقت عدم أهلية القاضي الأصيل". وهنا نطرح التساؤل ما المقصود بعدم الأهلية.
يبدو أن المادة 10 من نظام مجلس شورى الدولة كانت أوضح في هذا الصدد إذ تحدثت عن القاضي الذي لا يتمتع بـ "المؤهلات التي تتطلبها أعماله". إلا أن هذه العبارة تبدو أيضاً غير محققة للمعنى الدقيق لعدم أهلية القاضي الأصيل بمختلف اوجهها، فما هي المؤهلات التي تتطلبها أعمال القاضي؟؟؟ هذا ما سنحاول البحث عنه في نصوص قانون القضاء العدلي.
في هذا المضمار، نجد أن المادة 54 من قانون القضاء العدلي قد حددت، إلى حد ما، مفهوم المؤهلات التي يجب أن يتمتع بها القاضي، على ضوء المهام الملقاة على معهد الدروس القضائية في هذا المجال، إذ تضمنت أن: «تتناول التهيئة القضائية دروساً نظرية وتطبيقية في علم القانون وفي العلوم المفيدة في تكوين الثقافة اللازمة لتأهيل القاضي فكرياً وخلقياً لتولي القضاء، كما تتناول التدريب لدى مختلف الدوائر القضائية حيث يشارك القاضي في المذاكرة ويتقيد بسريتها».
وهذا ما يدعونا للربط بين النص الوارد أعلاه وبين نص المادة 70 الذي أشرنا إليه سابقاً والذي مكّن مجلس القضاء الأعلى من إعلان عدم أهلية القاضي خلال مدة تدرجه وعند انتهائها بناء لاقتراح مجلس معهد الدروس القضائية المخوّل تهيئة القضاة على النحو السابق ذكره.
وهنا تبدو الإشكالية بارزة أكثر فأكثر، فكيف يستطيع مجلس القضاء الأعلى أن يعترف بأهلية القاضي لتولي القضاء الأصيل عند انتهاء مدة تدرجه اعتماداً على معايير علمية دقيقة يضعها معهد الدروس القضائية، ومن ثم بعد فترة من الزمن يتراجع عن تقييمه وبناء على معايير غير محددة وأقله غير معروفة للقول بعدم أهلية القاضي الأصيل.
قد يقول قائل بأن هناك من القضاة من يدخل القضاة الأصيل مباشرة دون تدرج لدى معهد الدروس القضائية، ونرد بأن المادة 77 قضاء عدلي[8]، قد وضعت معايير صارمة لدخول هؤلاء إلى سلك القضاء تحت رقابة مجلس القضاء الأعلى بما يمكنه من فحص أهليتهم بشكل علمي دقيق الأمر الذي لا يمكن معه القول بعدم أهليتهم بعد دخولهم إلى السلك القضائي.
أضف إلى ما تقدم، فإن عدم تمتع القاضي بالأهلية اللازمة وفقاً لمفهوم المادة 54 أعلاه، لا بد أن ينعكس على أعماله بحيث يتجلى إخلالاً وإهمالاً لواجباته، بما يشغل مسؤوليته المسلكية، ما يطرح التساؤل مجدداً لمَ لا يتم اللجوء إلى الطرق التأديبية في هكذا حالة بما تؤمنه من إجراءات وضمانات.
6-تحاول المادة 95 أن تبرز بعض الضمانات التي تؤمنها للقاضي المعني بأحكامها، كاتخاذ القرار بناء لاقتراح هيئة التفتيش القضائي واستماع القاضي قبل اتخاذ القرار بحقه والأغلبية المفروضة لاتخاذ هذا القرار، وهذا ما يؤكد أن المادة المذكورة ذات طبيعة تأديبية خلافاً لما ورد في مطلعها، إذ ما الغاية من هذه الإجراءات المستمدة من النظام التأديبي طالما أن المادة المذكورة هي خارجة عن كل ملاحقة تأديبية.
وعلى كلٍ، تبدو الضمانات الواردة في المادة 95 قاصرة وغير كافية أمام هول القرار المتخذ بناء لأحكامها.
فكيف يمكن أن تخضع عقوبة التأنيب وهي أدنى العقوبات التأديبية لضمانات أشد من تلك المفروضة على عقوبة الصرف من الخدمة المعتبرة من أشد العقوبات التأديبية؟ إن الإجابة على هذا التساؤل تُظهر ولا شك زيف الضمانات الممنوحة بمقتضى المادة 95 قضاء عدلي.
وفي تفاصيل هذه الضمانات نلاحظ، أن القرار يتخذ بناء لاقتراح هيئة التفتيش القضائي، وهذا بذاته يطرح إشكالية لدى الهيئة المذكورة، فهي قادرة أيضاً، وبحسب المادة 85 قضاء عدلي، على إحالة القاضي أمام مجلس التأديب، فما هي المعايير المعتمدة لديها من أجل الاختيار بين إحالة القاضي أمام مجلس التأديب من جهة وبين إحالته أمام مجلس القضاء الأعلى لإعلان عدم أهليته من نحو آخر؟ وهل يعود لها أن تحيل القاضي إلى كلا المرجعين خلافاً للمبدأ المعروف "بعدم المعاقبة على المخالفة الواحدة مرتين" خاصة وأن النص لا يمنع هكذا إمكانية؟
أيضاً، فإن المادة 95 تتحدث عن اتخاذ القرار، بعد استماع القاضي المعني، وكأنها تبين بان حقوق الدفاع محترمة تجاه هذا القاضي، بيد أن مقارنة هذا الاستماع بالإجراءات المتبعة أمام المجلس التأديبي من الاطلاع على الملف وعلى تقرير المقرر والاستعانة بمحام أو قاضٍ وسائر الأمور المحددة بالمادة 87 قضاء عدلي[9] تظهر أن ضمانة المادة 95 غير كافية.
تتحدث المادة 95 أيضاً عن وجوب تعليل القرار واتخاذه بأغلبية موصوفة هي أغلبية ثمانية أصوات من أصل عشرة، وقد تبدو هذه الضمانة هامة من نحو معين، إلا أن المادة 95 نفسها تفرغها من مضمونها في فقرتها الثانية، التي تمنع الطعن بالقرار أمام أي مرجع ما ينفي إمكانية الرقابة على مدى تحقق هذه الشروط ويجعل من مجلس القضاء الأعلى الخصم والحكم في الوقت ذاته.
7-من الواضح أن الفقرة الثانية من المادة 95 قضاء عدلي قد حصنت قرارات إعلان عدم أهلية القاضي الأصيل من أي طعن حتى عن طريق مراجعة الإبطال لتجاوز حد السلطة.
وبذلك يتضح من جديد أن القضاة في القضاء العدلي قد حرموا من هذه الضمانة خلافاً لزملائهم في القضاء الإداري والقضاء الشرعي والمذهبي إذ خلت النصوص المشابهة والناظمة لهاتين الجهتين من هكذا حظر.
كما يظهر التفاوت بين ما فرضته المادة 95 وبين الإجراءات المعتمدة في الطريق التأديبي والتي تسمح بموجب المادة 87 بالطعن في القرار المتخذ من قبل المجلس التأديبي للقضاة وذلك أمام الهيئة القضائية العليا للتأديب.
وأكثر من ذلك فقد أتيح للمجلس الدستوري اللبناني أن يحدد موقفه من النصوص التي تحصن بعض القرارات من الطعن خاصة في الميدان التأديبي القضائي، وذلك في صدد نظره بالطعن المقدم بنص الفقرة الثانية من المادة 64 من نظام مجلس الدولة المعدلة بالقانون 227/2000،التي كانت تنص على أن«لا تخضع القرارات التأديبية الصادرة عن مجلس القضاء الأعلى للمراجعة بما في ذلك مراجعة النقض»،فوجد أن: «استقلال القضاء لا يستقيم إذا لم يتأمن استقلال القاضي بتوفير الضمانات اللازمة التي تحقق هذا الاستقلال ومن ضمنها حق الدفاع الذي يتمتع بالقيمة الدستورية، وعدم إقفال باب المراجعة عندما يتعرّض لتدابير تأديبية، وأن حق مراجعة القضاء هو من الحقوق الدستورية الأساسية وهو يشكل بالنسبة للقاضي في القضايا التأديبية إحدى الضمانات التي عنتها المادة 20 من الدستور، وأن مجلس القضاء الأعلى…يعتبر هيئة إدارية ذات صفة قضائية مثله مثل أية هيئة تأديبية للموظفين منحها القانون صلاحيات معينة، وأنه إذا كان إناطة مجلس القضاء الأعلى سلطة تأديبية يشكل ضمانة من الضمانات التي نصت عليها المادة 20 من الدستور، فإن إعطاء الحق للقاضي العدلي بالطعن في هذه القرارات التأديبية التي تصدر عنه عن طريق النقض يشكل ضمانة لا غنى عنها….وأن المادة 117 من نظام مجلس شورى الدولة تنص على أن يمكن تمييز الأحكام الصادرة بالدرجة الأخيرة عن الهيئات الإدارية ذات الصفة القضائية، وإن لم ينص القانون على ذلك، مما يعني أن مراجعة النقض لهذه الأحكام تتعلق بالانتظام العام…وأن النص المطعون فيه بحرمانه القاضي من حق الدفاع عن نفسه أمام المرجع القضائي المختص وإقفال باب المراجعة بوجهه يكون قد ألغى ضمانة من الضمانات التي نص عليها الدستور والتي تشكل للقاضي إحدى أهم ميزات استقلاله… وأن الفقرة الثانية من المادة 64 من القانون 227/2000 تكون إذن مخالفة للدستور وللمبادئ العامة ذات القيمة الدستورية ويقتضي بالتالي إبطالها»[10].
وعليه، فإن نص المادة 95 من قانون القضاء العدلي يعد ماساً باستقلال القضاء خلافاً لما ورد في الأسباب الموجبة للقانون 389/2001 ما يجعله مخالفاً للدستور حسب موقف المجلس الدستوري الواضح والذي لا يقبل الجدل.
وفي الختام، لا بد من القول إن نص المادة 95 من قانون القضاء العدلي، وبالنظر للعيوب التي تعتريه، لا يمكن أن يكون قابلاً للتطبيق وإلا أصبح سيفاً مصلتاً على القضاة العدليين.
[3]– قانون منفذ بالمرسوم رقم 10434، تاريخ 14/6/1975 وتعديلاته.
–[4]مرسوم اشتراعي رقم 82 تاريخ 16/9/1983 وتعديلاته.
[5]– قانون صادر بتاريخ 16/7/1962 وتعديلاته؛ مطبّق على القضاء المذهبي الدرزي لجهة تأديب القضاة وصرفهم من الخدمة بموجب المادة 15 من قانون تنظيم القضاء المذهبي الدرزي الصادر بالمرسوم رقم 3473 تاريخ 5/3/1960 وتعديلات؛ ومطبّق بكامله على المحاكم العلوية الجعفرية بموجب المادة 5 من قانون انشاء وتنظيم المحاكم العلوية الجعفرية رقم 450 تاريخ 17/8/1995.
[6]– مجلس النواب اللبناني، محاضر مجلس النواب، الدور التشريعي العشرون، العقد العادي الثاني، محضر الجلسة الثانية، المنعقدة في الساعة العاشرة والنصف من قبل ظهر يومي الثلاثاء والأربعاء، الواقعين في 4 و5 كانون الأول 2001، الأسباب الموجبة لمشروع القانون الوارد بالمرسوم رقم 5700 الرامي الى تعديل قانون القضاء العدلي.
[7]– يراجع: المجلس الدستوري اللبناني،قرار رقم 1،تاريخ 23/11/1999،المراجعة المتعلقة بالقانون رقم 127،تاريخ 25/10/1999،الرامي إلى انشاء مجلس أمناء أوقاف الطائفة الدرزية.
[8]– تنص المادة 77 من قانون القضاء العدلي اللبناني على أنه: «بالإضافة الى الشروط المنصوص عنها في المادة 61 من هذا المرسوم الاشتراعي باستثناء شرط السن يجب أن يكون المرشح اما محامياً منذ ست سنوات على الأقل بما فيها سنوات التدرج واما مساعدا قضائياً مارس وظيفته ست سنوات على الأقل بعد نيله اجازة الحقوق او موظفاً في الادارات او المؤسسات العامة تتطلب وظيفته اجازة في الحقوق يكون قد مارس هذه الوظيفة طوال ذات المدة بعد نيله تلك الاجازة».
[9]– تنص المادة 87 من قانون القضاء العدلي اللبناني على أن: «يدعوالرئيس فوراً صاحب العلاقة للاطلاع على الملف وعلى تقرير المقرر وللحضور امام المجلس في الجلسة التي يعينها له.
تجرى المحاكمة بصورة سرية. يتلى تقرير المقرر ويطلب الى صاحب العلاقة تقديم دفاعه حول الأمور المؤاخذ عليها.
يحق لصاحب العلاقة أن يستعين بمحام واحد أو بأحد القضاة وإذا تغيب ينظر المجلس في القضية على ضوء المستندات فقط.
يصدر المجلس قراراً معللاً في اليوم ذاته أو يؤجله الى اليوم التالي على الأكثر.
يقبل قرار المجلس الطعن من قبل القاضي المعني او من قبل رئيس هيئة التفتيش القضائي بمهلة خمسة عشر يوماً من تاريخ صدوره امام الهيئة القضائية العليا للتأديب.
تتألف الهيئة القضائية العليا للتأديب من رئيس مجلس القضاء الأعلى أو نائبه رئيساً ومن أربعة أعضاء يعينون من قبل المجلس في بداية كل سنة قضائية، كما يعين المجلس بديلاً لأي منهم عند الغياب أو التعذر.
تتبع لدى الهيئة القضائية العليا للتأديب اجراءات المحاكمة المعمول بها امام المجلس التأديبي.
لا يقبل قرار الهيئة القضائية العليا للتأديب أي طريق من طرق المراجعة بما فيها التمييز ويكون نافذاً بحد ذاته بمجرد إبلاغه الى صاحب العلاقة بالصورة الادارية.
يبلغ هذا القرار الى وزير العدل».
[10]– المجلس الدستوري اللبناني، قرار رقم 5، تاريخ 27/6/2000، المراجعة المتعلقة بالقانون رقم 227 تاريخ 31/5/2000 الرامي إلى تعديل بعض مواد نظام مجلس شورى الدولة.