تحولات الخطاب المناوئ للتحقيق في جريمة المرفأ: “حفلة الجنون” حجباً لجدار الإفلات من العقاب


2023-02-04    |   

تحولات الخطاب المناوئ للتحقيق في جريمة المرفأ: “حفلة الجنون” حجباً لجدار الإفلات من العقاب

شهد الأسبوعان الأخيران تصعيداً للهجمة على مسار التحقيق في قضيّة المرفأ وعلى شخص المحقق العدلي القاضي طارق بيطار. أتى هذا التصعيد ردّا على القرار الذي اتّخذه بيطار بمعاودة زمام التحقيق بعد سنة وشهر من تعطيله عن العمل، بعدما اعتبر أنه لم يعد لدعاوى الرد والمخاصمة المقدّمة ضدّه أن تكفّ يده عن العمل. وعليه، شهد الرأي العام هجمات جديدة ضد بيطار، قاربت من حيث حدّتها الهجمات التي استهدفته في 2021 قبل أن يتم تعطيله تماما عن العمل. وبخلاف الهجمات الحاصلة في 2021 والتي ركزت على أن بيطار مسيس وجزء من مؤامرة أو من مشروع سياسيّ يستهدف المقاومة، فإنّ هجمات 2023 عمدتْ إلى التركيز على توصيف بيطار ب “المجنون”، من  دون التخلي عن فرضية المؤامرة والتي تراجعت كثيرا بفعل ثبوت وقائع مناقضة لها كما نبين أدناه. وفيما برزت قوى وزعامات سياسية بارزة في مقدمة الهجوم على هذا الأخير في 2021 بما يعكس تدخلًا سياسيّا واضحا في القضاء، أتى الهجوم هذه المرّة بشكل خاصّ من النائب العام التمييزي غسان عويدات. وهو أمر تم استغلاله لتظهير عرقلة التحقيق على أنها بفعل القضاة ونتيجة حرب صلاحيات فيما بينهم.    

وبالعودة إلى التفاصيل، يذكر أن القاضي بيطار ادّعى في تاريخ 23 كانون الثاني 2023 على عدد إضافيّ من الأشخاص، منهم النائب العام التمييزي نفسه، على خلفية التدابير التي اتخذها في المرفأ قبل أيام من التفجير، وذلك في متن نفس القرار الذي استعاد فيه زمام التحقيق. وما أن صدر هذا القرار، حتى اتخذ عويدات قرارات هستيرية تمثلت في الإفراج عن جميع الموقوفين خارج صلاحيته وبصورة غير مشروعة، والأهم في الادعاء على بيطار بتهمة اغتصاب السلطة وإصدار قرار ضده بمنع السفر. ورغم أن جهات متخصصة وازنة (ائتلاف استقلال القضاء، نادي قضاة لبنان ونقابة المحامين في بيروت) أكدت على خرق عويدات للقانون بما يتوافق مع مطالب القوى السياسية الوازنة فضلا عن السفارة الأميركية، فإن هذا الأمر لم يحُلْ دون مواصلة الجهات المناوئة للتحقيق هجومها على بيطار وإن حصل الهجوم لأسباب وبأشكال مختلفة.   

في بناء سرديّة “جنون القاضي”

أول من وصم القاضي بيطار بالجنون هي الصحافية في جريدة الأخبار  ميسم رزق، التي عنونت مقالها أن “طارق البيطار جُنّ!” وهو مقال وضع في وسطه صورة لصورة ل “طارق بيطار” تحترق. أمّا سبب الوصم في المضمون فهو ادعاء أن القاضي تجاوز صلاحياته وأنه باجتهاده “نصّب نفسه إلهاً فوق كلّ السلطات”. بعد ساعات، عاد النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر إلى استخدام تعبير “الجنون”، في سياق جلسة لجنة الإدارة والعدل المنعقدة في تاريخ 24 كانون الثاني لمناقشة اقتراح استقلال القضاء. هذا ما وثّقته المفكرة القانونية ناقلة عنهما أنهما وصفا بيطار بالمريض النفسي والمسيّس. الأمر نفسه وثقته جريدةالراي الكويتية التي نقلت أن زعيتر خرج من القاعة غاضباً ومتهماً القاضي ب”الجنون””.

وضمن هذه السرديّة أيضاً، موقف النائب نوار الساحلي الذي وصف في تغريدة له قرار المحقق العدلي ب”المختلة” وآثر بعدها الإطراء على قرارات مدعي عام التمييز في إفلات كل الموقوفين في الملف. بدوره، استغرق الوزير السابق وئام وهاب في اتهام القاضي ب”الجنون”، ونكتفي بذكر مما قاله في تغريداته بأن القاضي “حاقد”، وأنه يجب “عرضه على طبيب نفسي لمعالجة أمراضه”. كما عمد إلى تهديد القاضي، قال ما حرفيّته “إذا كان البعض يعتقد أنه قادر على إستهداف غسان عويدات وغسان الخوري فهو مخطيء وكفى إستهدافاً لكرامات الناس من قبل مجموعة من المجانين”، وأضاف “من يريد الجنون على حساب الاستقرار والأمن سيدفع الثمن”. وقد وجدت هذه السردية صدى أيضا لدى النائب السابق نجاح واكيم، في تغريدة له، في نفس سرديّة “التآمر والجنون”، قال ” من جنون الدولار، إلى جنون الأسعار، إلى جنون القضاء…” وتساءل: “إلى أين تجرنا أميركا؟”

كما صب مقال آخر لمحررجريدة الأخبار“، في السرديّة ذاتها وصف القاضي بال “دكتاتور” وبأنه قام بإنقلاب، وإذ تحدّث عن “فوضى عارمة أغرقت العدلية” وعن تصادم الجهات القضائية و”فقدان البوصلة “، واعتبر “ما يحصل في العدلية، باختصار، أشبه بحفلة جنون وضياع، باستثناء أمر واحد شديد الوضوح: مشروع تدمير القضاء ووضعه تحت الوصاية الدولية دخل مرحلة التنفيذ”. وصبّ في هذه السرديّة أيضاً موقف الخبير القانوني عمر نشابة، الذي تحدّث قال في تعبير غامض أن “الجنون يقتصر على المجانين” (يرجح أنه قصد من ذلك أن حفلة الجنون التي تحدث عنها الأمين تقتصر على بيطار ولا تشمل عويدات)، ليعود ويدعو في تغريدة أخرى إلى “حسم موضوع القاضي بيطار من خلال ما يقتضيه القانون” وتحدّث عن تعطيل “المرجع الصالح”، دون أن يشرح من فعل ذلك، والسبب برأيه “أنهم يريدون، مرة جديدة، تجريم حزب الله”.

واللافت أن هذه السردية ظهرت أيضا لدى الوكيلة القانونية للمدير العام للجمارك المخلى سبيله بدري ضاهر المحامية سيلين عطالله (وهي محامية أميركية لبنانية وقد تولت الدفاع عن عامر فاخوري المتهم آنذاك أمام المحكمة العسكرية بارتكاب جرائم تعذيب وإخفاء قسري على خلفية عمله كمدير لسجن الخيام) لقناة “الجديد“. فبعدما أثنت على قرار عويدات الذي حرّر موكلها كما حرّر موكلا أميركيا آخر (… العوف) تم تسفيره في اليوم نفسه خلافا لقرار منع السفر، قالت “كان يجب أن يأتي أحد ليوقف جنون القاضي طارق البيطار”، ووجهت كلامها للمحقق بقولها “أنت لست الله فأنت ارتكبت مخالفات فاضحة للقوانين المحلّية وقوانين حقوق الإنسان”.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن وصم القاضي بالجنون لم يمنع كثيرين من تكرار اتّهام بيطار بافتعال فتنة وخدمة أجندات أجنبية. هذا ما نقرأه مثلا في تصريح أحد أكثر الخطباء عنفا ضد بيطار في 2021 الشيخ أحمد قبلان​، الذي رأى أن القاضي بيطار​ “مشروع حرب أهلية ويجب محاكمته”، وأنه “ينفذ سيناريو حرق القضاء والبلد والدوس على دماء شهداء المرفأ، واللعب بالشارع أشبه بمتاريس حرب”. ويصب في هذا الاتجاه، موقف أستاذ في القانون الدولي في الجامعة اللبنانية حسن جوني الذي وصف ل”قناة الميادين” القاضي بيطار بديتليف ميليس المحقق في قضية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. ويسجل أيضا ما أشار إليه صراحة أو تلميحا عديدون مثل الأمين ونشابة وآخرون كثيرون. وفي حين كان اتهام بيطار بالتآمر مع الخارج يغمز إلى روابط له مع السفيرة الأميركية دوروثي شيّا، فإنّ الاتهامات الجديدة باتت تغمز أكثر من قناة المحققين الفرنسيين الذين قابلوه في الفترة السابقة لقراره.

ولعل مردّ التحوّل الحاصل هنا هي الوقائع التي باتت ثابتة من دون مجال للتشكيك فيها. ففي حين أن بيطار رفض إخلاء سبيل زياد العوف (المواطن الأميركي)، فإن هذا الإفراج حصل من قبل غسان عويدات بموجب القرار غير القانوني الصادر عنه، ليصار إلى تسفيره لاحقا وبسرعة فائقة تحت أنظار مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم،  خلافا لقرار منع السفر الصادر بحقه. وقد أعاد تسفير العوف للأذهان تسفير المواطن الأميركي الآخر عامر الفاخوري. واللافت هنا أن الأشخاص الذين أفاضوا في اتهام بيطار بالتآمر مع الأميركيين بدوا في مقدمة المدافعين عن عويدات وابراهيم. وهذا ما نستدلّه بشكل خاص من لزوم هؤلاء الصمت حيال الأنباء المنشورة بشأن تدخل مباشر للسفارة الأميركية مع كلاً من مدعي عام التمييز غسان عويدات ومدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم. 

وقد برز هذا الأمر بشكل خاص في مقابلة مع الصحافي حسن عليق. فلدى  استعادة معد برنامج “بالمباشر” لتغريدة يثني فيها عليق على مدعي عام التمييز واستعادته حادثة تدخّل السفيرة شيا مع المدعي العام، يسأل المعد عليق إذا ما كان أصبح في المحور الحليف للولايات المتحدة. ضحك وتجنّب الإجابة قائلاً “الفكرة أن القاضي بيطار منذ استلامه الملف يهرطق ويبلطج ويسيس الملف”.

وتابع عليق أنه “حتّى ادعاؤه على غسان عويدات هو أسوأ من سياسي فهو -سببه- شخصي”. تابع عليق سرديته “حين كان صديقاً لعويدات كان يقول أنه ليس بحقه أي شيء” (لم يوضح عليق متى صدر أو فهم عن القاضي هذا الموقف)، “حين اختلف عويدات وسهيل عبود، وعبود يحمي طارق البيطار، أقدم طارق البيطار بالادّعاء على غسان عويدات”. ووصف عليق ما أقدم عليه عويدات بأنه “قرار قضائي يؤدي إلى توازن سياسي في هذا الملف”. وتابع أنه “من الصحيح أن الولايات المتحدة استفادت بسبب الإفراج عن زياد العوف، ولكن في الأصل لا يجب أن يبقى أحد، زياد العوف أو سواه، موقوفاً طوال هذه المدة”. واعتبر أن الإفراج عن العوف، لا يعني أن قرار عويدات خاطئ. وأكد على كلامه في سياق آخر، بقوله “صحيح أن الولايات استفادت من قراره (قرار القاضي عويدات)، وأتكلم عن الولايات المتحدة لا عن زياد العوف بشخصه، ولكن القاضي بيطار تعسّف في استخدام القانون وتعسّف في استخدام الدعم السياسي من الولايات المتحدة”.

في بناء سرديّة “إشكال بين قضاة”

بالتوازي مع سرديّة “جنون القاضي”، برزتْ سرديّة أخرى صوّرت ما جرى على أنه ناجم عن تجاذبات وانقسامات داخل القضاء، فيما أسماه البعض حرب صلاحيات بين قضاة. وفي حين انقسم من تبنّوا هذه السردية بشأن المسؤولية عن هذا الانقسام أو الحرب، إلا أن مواقفهم تلاقت بالمقابل على تحميل القضاة عرقلة التحقيق، على نحو يحجب تماما مسؤولية القوى السياسية عن هذه العرقلة لا بل يبرئها تماما منها. وقد أبدتْ بشكل عام القوى المناوئة للتحقيق ارتياحا عميقا حيال بروز هذه السردية، إذ تمكّنت بفعلها من التفرج في الكواليس على عرقلة التحقيق من دون أن تتسبب به مباشرة.

وما عزز من هذه السردية هي ردّة فعل غسّان عويدات على الدعوى التي أقامها ضده القاضي طارق البيطار، والتي ظهر فيها مظهر الذي يسعى إلى الانتقام من خلال الردّ على هذه الدعوى بدعوى أقام بنفسه ضد بيطار، مع التأكيد على أن الكلمة الأخيرة هي كلمته بفعل السلطان الذي يملكه. وقد تجلى ذلك بوضوح كلي في مستهل كتابه حيث استعاد العبارة الواردة في إنجيل مرقص: “بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ”، كما استعادة آية قرآنية ورد فيها: “إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات فانفذوا. لا تنفذون إلا بسلطان”. وقد أظهرت هذه المواقف والتصريحات الغاضبة الصراع الحاصل كأنه صراع بين قاضييْن، في حين أن العودة إلى مجريات هذه القضية تثبت من دون لبس أن الخلفية وراء عرقلة التحقيق هي في مبدئها ومنتهاها سياسية.

ولعلّ الإعلامية سمر أبي خليل مقدمة برنامج “الحدث” على “الجديد” أفضل من عبر عن مضمون السردية، بقولها: “المشهد أمس يظهر أننا كنا بالفعل أمام محورين وأمام قادة محاور (في إشارة إلى القضاة) غير مسؤولين وغير حريصين على البلد وعلى العدل”. وقد وافقها الصحافي رضوان مرتضى لكن مع إلقائه اللوم على القاضي طارق بيطار متسائلاً “من أيقظ الملف بعد الثبات الطويل الذي كان عليه كل هذه المدة؟”. مضيفاً أن هذا المشهد يجسّد الانقسام في البلد “فالقضاة لا يحكمون بالعدل إنما هم قرروا أن يكونوا طرفاً في هذا الملف. وتساءل إذا ما كان القاضي بيطار يبحث عن عدل أم عن كسب جمهور”. ويصب في هذه السردية ما قاله الإعلامي مارسيل غانم في مقدمة برنامج صار الوقت، في حديثه عن انقسام عامودي في القضاء مع إلقائه اللوم على “مطرقة البيطار التي فجرت المشهد القضائي وهزت دعائم العدلية وأعلنت سقوط القضاء تماماً في لبنان”. كما أن شقيقه جورج غانم المعروف بولائه لرياض سلامة، فقد تحدّث في حلقة “صار الوقت” عن تسابق بين القضاة لتنفيذ الأجندة الغربية، و”من بنيهم القاضي بيطار” على حد تعبيره.

ضمن هذه السرديّة أيضاً، مقالات طوني بولس على موقع “independentarabia”، واعتبر في أحدها أن قرار بيطار فتح “صراعاً مفتوحاً بين القضاء العدلي والنيابة العامة التمييزية”، وكأنّ الخلاف مستجد، ولا يتعلّق بتجاوز عقدة “الإفلات من العقاب”. ونقل مقاله عن مصادر قانونية أنّ “احتدام الصراع داخل المؤسسات القضائية يعكس في طيّاته الصراع السياسي السائد في البلاد”. وأشار مقال آخر للكاتب، إلى أن “الانقسام العمودي وغير المسبوق برز بشكل واضح في حرب الصّلاحيات والفوضى العارمة التي تشهدُها “العدليّة” وفي ملف التحقيق الذي أصبح في مهبّ الضياع والتسييس والادعاءات المتبادلة بين المؤسسات القضائية”. ما يوحي أن ما جرى هو فعل وردة فعل وإشكال شخصي بين قضاة، لا استمرارية للمحاولات الممنهجة في التهجم على المحقق وفي ضرب التحقيق. وذهب الكاتب في مقال ثالث للقول أن “سحب فتيل التفجير من الشارع لم يعالج الحرب القضائية المستعرة بين المؤسسات القضائية”، مشيراً إلى “حرب القرارات المتتالية” بين القاضيين عويدات وبيطار. وقد تبنى موقع “أخبار اليوم”هذه السردية، فذكر الموقع في أحد المقالات أن ما يجري في القضاء هو “حرب صلاحيات”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، قرارات قضائية ، لبنان ، مقالات ، مجزرة المرفأ ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني