انتهى موسم الأمطار في تونس (أكتوبر-مارس) بحصيلة هي الأضعف منذ سنوات. نسبة امتلاء السدود بالكاد تُناهز الـ30 بالمائة. صور وفيديوهات المنشآت المائية شبه الفارغة والأراضي المتشققة والحقول المصفرّة تكتسح وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في تونس منذ أسابيع، ومعها معجم الجفاف والعطش والقحط. القيامة الآن، أو بعد قليل. سنوات الجفاف تتوالى منذ خريف 2019؛ جفاف غير مسبوق ومتواصل منذ أربع سنوات. ومنذ بداية سنة 2023 تواترت تصريحات وبيانات المسؤولين في وزارة الفلاحة والصيد البحري والموارد المائية، التي تؤكّد على خطورة درجة “العجز المائي” الذي بلغته البلاد وتنبئ بإجراءات “طوارئ مائية” قادمة في الطريق.
منذ منتصف شهر مارس 2023 تكررت حالات انقطاع المياه الصالحة للشراب واتسعت رقعتها الجغرافية لتشمل مناطق عدّة لم تكنْ في السابق تعاني من هذه الاضطرابات في التوزيع. هذه الانقطاعات كانت تحدث من دون سابق إنذار وتوضيح من قبل الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه (الصوناد). كما أنها تزامنتْ مع حلول شهر رمضان ممّا أجّج غضب المتضررين. في الواقع، بدأت الدولة في تطبيق نظام “الحصص المائية” ولم تُعلن رسميا عن هذا التوجه إلا يوم 29 مارس 2023 في مقرر صادر عن وزارة الفلاحة نصّ على منع استعمال الماء الصالح للشراب في ريّ الأراضي الفلاحية وسقي المساحات الخضراء وتنظيف الشوارع والمباني والسيارات، و”اعتماد نظام حصص ظرفي للتزوّد بالمياه الصالحة للشرب الموزعة عبر شبكات الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه لكافة المستعملين” إلى حدود 30 سبتمبر 2023، مع التنصيص على جملة من العقوبات المالية والسّالبة للحرية للمخالفين. وبرّرت الوزارة هذه الإجراءات ب ـ”تواتر سنوات الجفاف وضعف الإيرادات بالسدود ما انعكس سلبًا على مخزونها المائي الذي بلغ مستوى غير مسبوق”.
“ظرفية غير مسبوقة”..حقّا؟
بكل تأكيد، تعاني تونس من نصيبها من آثار التغير المناخي في العالم، أساسًا ارتفاع معدلات درجات الحرارة وما يعنيه ذلك من تصحّر وتبخّر للموارد المائية وتناقص كميات التساقطات وتواتر الحرائق في الغابات وتآكل السواحل وارتفاع منسوب مياه البحر وغيرها من الظواهر. لكن لا يجب المبالغة في تقدير حدة التغيرات وآثارها. بالعودة إلى أرشيفات محطات قياس التساقطات يمكننا أن نتعرف أكثر على خاصيات المناخ في تونس. دخلت تقنيات قياس التساقطات إلى تونس أواخر القرن 19 مع احتلال الفرنسيين للبلاد. كانت في أول الأمر بدائية ثم تطورت مع بداية القرن العشرين واليوم تتوفر لدينا معطيات وأرقام -متأتية من مئات محطات القياس موزعة في كامل أرجاء البلاد- عن التساقطات في تونس منذ سنة 1909.
سنوات الجفاف الحالية ليست سابقة في تاريخ تونس الحديث[1] -ومعها المجاعات- يكفي أن نذكر “عام الروز”[2] (1936 – 1938) و”عام الشر”[3] (1945 – 1946). لا تكاد تخلو عشرية من فترة جفاف تكون أحيانا مُنحصرة في بعض أقاليم البلاد وأحيانا شاملة وتمتد من سنة إلى بضع سنوات. أطول وأقسى فترات الجفاف كانت في عشرينيات وأربعينيات وستينيات وآخر ثمانينيات القرن الفائت. وربّما تُضاف لها فترة الجفاف الحالية. ويختلف المناخ في تونس بشكل كبير بين المناطق من جاف وصحراوي في أقصى الجنوب بمعدل تساقطات سنوية يقلّ عن 100 مم إلى رطب وشبه رطب في أقصى الشمال بمعدّل تساقطات يناهز 1000 مم. وبعيدا عن سنوات “الشح” و”الندرة”، هل تستغل تونس كما ينبغي سنوات “الخير” و”الوفرة”؟
تسجّل البلاد معدّل تساقطات سنوي يقدر بحوالي 207 مم، أي ما يعادل أكثر من 30 مليار متر مكعب من المياه. وعلى الرغم من الاستثمارات والجهود الضخمة التي بذلتها الدولة التونسية منذ استقلالها، فإنّ البنى التحتية المائية الضخمة (قرابة 40 سدا، وأكثر من 250 سدا جبليا وقرابة 1000 بحيرة جبلية) لا تتجاوز سعتها مجتمعة 2،8 مليار متر مكعب، فيما تذهب مياه التساقطات في الطبيعة برا وبحرا وجوّا. هكذا، فإنّ الجفاف الذي تعيشه تونس اليوم ليس الأول ولن يكون الأخير، وربما سيصبح أكثر تواترا في الفترات القادمة.
حتى قطع المياه الصالحة للشراب ونظام الحصص ليس أمرا مستجدًّا غير مسبوق. تفخَر الدولة التونسية بأن نسبة ربط المنازل بالماء الصالح للشراب تصل إلى 100% في الوسط الحضري (بواسطة شبكات الصوناد) و94،8% في الوسط الريفي (53،4% عن طريق الصوناد و41،4% عن طريق الإدارة العامة للهندسة الريفية والغابات والمياه)[4]. أولا تعني هذه الارقام أن هناك أكثر من 5% من سكان الوسط الريفي المقدّر عددهم بقرابة 3،5 مليون ساكن لا يصلهم الماء الصالح للشراب أصلا. ثانيا، قرابة نصف سكان هذا الوسط يعتمدون على جمعيات مائية قد تتوقف عن النشاط في أي وقت أو يضطرون للتنقل مسافات قد تطول أو تقصر للتزود من الحنفيات العمومية. ثالثا، نسب الربط بشبكات المياه الصالحة للشراب لا تعطينا تفاصيل عن انتظام تدفق الماء، وجودته وعدالة توزيعه بين الولايات وحتى بين معتمديات الولاية الواحدة. يكفي أن نشير هنا إلى تضاعف استهلاك المياه المعدنية تسع مرات ما بين سنة 2000 و2022 ليرتفع من 290 مليون لتر إلى 2،7 مليار لتر سنويا.
ما أعلنه مقرر وزارة الفلاحة من قطع عرضي للماء الصالح للشراب لمدة أشهر هو الواقع المعيش لمئات آلاف التونسيين منذ سنوات طويلة. نشهد كل سنة عشرات وأحيانا مئات التحرّكات الاجتماعية التي تُطالب بالحق في الماء -وهو حق مُدستر- في عدة مناطق من البلاد خاصة في مناطق الوسط والجنوب. يكفي الاطلاع على “خرائط العطش“ التي ينشرها المرصد الوطني للمياه بشكل دوري حتى نستوعب حجم الحيف المائي الذي يتعرض له عدد كبير من التونسيين. نظام الحصص الجديد يندرج في إطار ما يمكن أن نسميه تعميم اللاعدالة.
وزارة الفلاحة أو البحث الدائم عن “المجرم”
العجز المائي في تونس ليس بالأمر الطارئ، بل هو واقع معيوش منذ عقود طويلة وحاضر في الخطاب الرسمي و”الأدبيات الرمادية” منذ تسعينيات القرن الفائت وحتى من قبل ذلك. ومن المنطقي أن تَبحث وزارة الفلاحة -وهي المكلّفة بإدارة ملفّ المياه- عن أسباب هذا العجز وتُحاول تقليصه. المشكلة أن هذا “البحث” يُشبه التحقيق البوليسي في الدول التي لا تحترم حقوق الموقوفين ولا قرينة البراءة: التركيز على “المشتبهين” الأكثر هشاشة ومحاولة تحميلهم مسؤولية “الجريمة”. منذ بداية التسعينات راجَ خطاب المواطن “المستهتر” الذي يبذّر أنهارًا من المياه الصالحة للشراب عندما يقوم بغسل وجهه وأسنانه أو ينظّف ملابسه وأوانيه المتّسخة. ولو راجعنا أرشيف التلفزة الوطنية (إ.ت.ت، ثم قناة 7) خلال تلك الفترة لوجدنا رصيدا هاما من “الومضات التحسيسية” التي تؤنب المواطنين المُبَذّرين وتحذّرهم من اليوم الذي لن يجدوا فيه قطرة ماء واحدة عندما يفتحون الحنفية.
لا داعٍ أصلاً لإضاعة وقت ثمين في البحث عن ذلك الأرشيف، يمكننا الذهاب مباشرة إلى صفحة الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه على فيسبوك والاطلاع على المنشورات التي تحث المواطن على “ترشيد سلوكه الاستهلاكي” وتتوعّده بالعطش. بضعة دقائق تقضيها على الصفحة ستَمنحك انطباعا قويّا بأن أغلب التونسيين يمتلكون مسابح في منازلهم ويغسلون كل يوم سياراتهم وأنهم يستحمّون عدة مرات كل يوم ويجدون متعة كبيرة في النظر ببلاهة إلى ماء الحنفية وهو يسيل لمدة دقائق طويلة بدون فائدة. الاستهلاك غير الرشيد للمياه الصالحة للشراب هو إذا “الجريمة” الكبرى، وبالتالي يجب معاقبة القائم بالجرم -أي المواطن العادي- عبر قطع المياه يوميا لساعات قد تطول أو تقصر، بالإضافة إلى الجبر المادي للضرر عبر الترفيع كل سنتين أو ثلاث في تسعيرة المتر المكعب من الماء الصالح للشراب. هذا الخطاب “التأثيمي” يتناسى تفاصيل صغيرة قد تكون لها بعض الأهمية:
- الموارد المائية المخصصة للاستعمال المنزلي (شرب، طبخ، نظافة) لا تمثل إلا 10 إلى 15% من جملة الموارد المُستغلة، في حين تستأثر الفلاحة بما يُناهز 80% من الموارد المائية المسحوبة سنويا.
- قرابة ثلث المياه الصالحة للشراب تضيع “في الطريق” قبل الوصول إلى المستهلك. مثلا في سنة 2019 وحسب تقرير صادر عن “الصوناد“ نجد أن الشركة ضخت 758،6 مليون متر مكعب في شبكاتها ولم يصل منها للمستهلكين إلا 508،1 مليون متر مكعب في حين أهدِرَت 250،7 مليون في مرحلتي الإنتاج (96،1 مليون متر مكعب أي 38،3%) والتوزيع (154،6 مليون متر مكعب أي 61،7%).
- قرابة 60% من شبكات الصوناد يتراوح عمرها ما بين 30 و50 سنة، وهذا ما يفسّر جزئيا العدد المرتفع لعدد حالات كسر المعدات والأنابيب (أكثر من 19 ألف حالة سنة 2019) وتسرب المياه الصالحة للشراب (أكثر من 21 ألف حالة سنة 2019).
ثاني “المجرمين” الكبار حسب الخطاب المائي السائد في الدوائر الرسمية وحتى عند جزء كبير من الخبراء هو “الجمعيات المائية”. سَادَ هذا الخطاب بعد الثورة خاصة في سنوات 2015-2018 أي في الفترة التي كانت فيها الدولة تعدّ لإصدار مجلة مياه جديدة. ظَهرَت هذه الجمعيات (المرتبطة بمجمعات التنمية الفلاحية) في أواخر سنوات 1980 وكان يُفترض أن يكون لها دور اجتماعي-اقتصادي كبير في تنمية المناطق الريفية من حيث توفير ماء صالح للشراب للمناطق التي لا تصل إليها شبكات “الصوناد” وكذلك توفير مياه الري للمستغلاّت الفلاحية. لم يخلُ بعث هذه الجمعيات وتوزعها الجغرافي وتعيين المسؤولين عليها من غايات سياسية في فترة حكم الرئيس الأسبق بن علي، حيث كانت قاطرة لبناء شبكات زبائنية ووسيلة دعائية للنظام. وصل عدد هذه الجمعيات -سواء المخصصة للشرب أو الري- حوالي 2500 جمعية قبيل ثورة 2011 لكنه تناقصَ تدريجيا في السنوات الأخيرة، حيث لم يعد هناك إلا حوالي 1400-1500 جمعية أغلبها يعاني مشاكل كبيرة أبرزها الديون المتراكمة لصالح “الشركة الوطنية للكهرباء والغاز” وتقادم و/أو تعطّل المولدات الكهربائية والمضخات وغيرها وعدم وجود تقنيين ومختصين من بين الأشخاص المكلفين بإدارة هذه الجمعيات. ويُضَاف إلى كل هذا حالات من التخريب المتعمّد والاستعمال غير القانوني للمياه المستخرجة. ويقدّر بعض الخبراء نسبة إهدار المياه في شبكات الإنتاج والتوزيع التابعة للجمعيات المائية ما بين 40 و50%. هذه المنشآت ذات الأهمية القصوى والاستراتيجية في الوسط الريفي ظلّت لمدة سنوات طويلة تُدار بطريقة عشوائية على أيدي هواة غير مختصين وأحيانا فاسدين ومتمعّشين، وتُطالب عدة منظمات من المجتمع المدني بإحداث وكالة وطنية تتولّى هي الإشراف الكامل على الجمعيات المائية بشكل منظم وعلمي يقطع مع الممارسات القديمة. باختصار “صوناد” للأرياف.
أما ثالث “المتّهمين” فهو “المُجرم” الدولي العابر للقارات: التغير المناخي الذي يَسهل إلصاق أي تهمة به وتحميله مسؤولية كل شيء. لا يعني هذا أن التغيّر المناخي كذبة أو لا تأثير له لكن لا يجب أن يكون الشمّاعة التي تعلّق عليها كل “الجرائم” و”الخطايا”. كما لا ينبغي أن ننسى أن جزءا هامّا من هذا التغير هو من فعل البشر وسياساتهم. مثلا في تونس، هل تغيَّر المناخ بشكل حاد جدا ما بين 1923 و2023؟ هل كنا مثلا بلدا ذا مناخ رطب في أغلب مناطقه أم أن المناخ الجاف وشبه الجاف هو الغالب منذ مئات السنوات؟ وإذا ما سلّمنا بأن التساقطات كانت أكثر غزارة قبل قرن من اليوم فلا يمكننا أن ننكر أن قدرة الدولة على تخزين ومعالجة المياه تطورت كثيرا بفضل السدود، والبحيرات الجبلية والبحيرات الاصطناعية وغيرها، يعني قدرة الدولة اليوم على تعبئة الموارد المائية أقوى بما لا يُقارن بما كانت عليه قبل الاستقلال. ما الذي حدث إذًا حتى “شحّت” الموارد وصرنا نعاني “العجز” المائي؟ حتى عدد سكّان تونس لم يتطور بنسق هائل، إذ انتقلنا من حوالي 4،5 مليون ساكن سنة 1963 إلى حوالي 12 مليون ساكن في 2023. ربما يجب البحث في مكان آخر عن “مجرمين” محتملين…
جذور الأزمة المائية
عند الحديث عن شح وندرة المياه في تونس، يتركّز الحديث بشكل كبير على المياه الصالحة للشراب والموارد المُخصصة لقطاعي السياحة والصناعة، علما أن كل هذه الاستعمالات -وعلى الرغم من مظاهر الإهدار التي تصاحبها- لا تتجاوز قيمتها مجتمعة 20-25% من جملة الموارد المسحوبة سنويا. النشاط الفلاحي يستأثر بأكثر من ثلاثة أرباع الموارد المائية في تونس البلد الفلاحي بامتياز. بالنظر إلى هذا النصيب الهائل الذي يذهب إلى القطاع الفلاحي يفترض أن تكون “قِفاف” و”بطون” المواطنين مليئة بما لذّ وطاب من خيرات بلادهم. لكن هذا ليس صحيحا خاصة في العشريتين الأخيرتين. “قفة” التونسي وبطنه مليئتان فيي أغلب الأحيان بخبز القمح الليّن المستورد والمعجنات المشتقة من القمح الصلب المستورد والزيوت النباتية الرديئة المستوردة والحلويات والعصائر العامرة بالسكر المستورد. وقليل من الخضار ولحوم الدواجن المنتجة محليا. لا يقدر جزء هام من التونسيين على شراء زيت الزيتون أو التّمور، في حين أن بلدهم من كبار المنتجين والمصدرين. وكذلك الأمر بالنسبة للحوم الحمراء والأسماك على الرغم من وفرة الإنتاج المحلي. عندما لا يستطيع أغلب التونسيين الحصول على كمية كافية من الغذاء المتنوع والصحي بمذاق وجودة محترمين وبأسعار مقبولة فهذا يعني أن هناك خللا ما في السياسات الفلاحية للبلاد. أين يذهب كل الإنتاج وأين تذهب كل المياه المخصصة للفلاحة؟
خيّرت الدولة التونسية منذ بداية سبعينات القرن الفائت -أي بعد نهاية تجربة “التعاضديات“ الفلاحية والسير في دروب “الانفتاح” الاقتصادي- التركيز على إنتاج زيت الزيتون والقوارص (التي عوّضت نسبيا الكروم والخمور في الشمال الشرقي) والتمور وباكورات الخضروات وبعض الفواكه (وحتى الفراولة والورود) أي السلع (وكلها تتطلب كميات كبيرة من المياه لإنتاجها) التي لها حظوظ أكبر في التصدير، وذلك على حساب الحبوب والبقوليات وعدة منتجات أساسية. وهي في ذلك لم تختلف كثيرا عن سياسات الاستعمار الزراعي التي طبّقتها فرنسا خلال احتلالها لتونس (1881 –1956). وشجّعت كذلك الترفيع في إنتاج اللحوم والألبان، ودعّمت الصناعات الغذائية التحويلية. كان الهدف من هذه السياسات تعصير الفلاحة والترفيع في قيمتها المضافة وخلق مواطن شغل وكذلك جلب أكثر ما يمكن من العملة الصعبة وفق مبدأ “الأفضليات المقارنة“. بالتوازي مع هذه السياسات الفلاحية، انتهجَت تونس في نفس الفترة سياسة السياحة متدنية التكلفة واستطاعت استقطاب ملايين السياح الأوروبيين سنويا مع ما يتطلبه ذلك من موارد غذائية ومائية. كما أنها تخلت تدريجيا منذ سنوات 1980 عن دعم صغار الفلاحين مقابل دعم المستثمرين وكبار المنتجين أي فلاحة “البزنس”.
نتيجةً لكل هذه الخيارات، سيشهد استهلاك المياه في تونس قفزات كبيرة على مر الخمسين عاما الفائتة. مثلا المساحات السقوية التي لم تكن تتجاوز 50 ألف هكتار في أواخر ستينيات القرن الفائت صارت اليوم تُناهز نصف مليون هكتار في حين أن عدد السكان لم يتضاعف إلا مرة ونصف خلال نفس الفترة. عدد الآبار المحفورة لاستخراج المياه الجوفية يتجاوز اليوم 35 ألفا، أكثر من 60% منها عشوائية لم تَحصل على ترخيص، وهو حلّ يلجأ إليه صغار الفلاحين أساسا نظرا لقلة الموارد المائية “القانونية” المتاحة أو ارتفاع تكلفتها. يفعل أغلبهم ذلك للحفاظ على أرضه والصمود في “سباق” غير متكافئ مع كبار المستثمرين الفلاحيين.
استمرار الدولة في سياساتها الفلاحية-التجارية التي أرسيَت قواعدها منذ أكثر من نصف قرن يكون مقبولا لو أنها حققت سيادتها الغذائية واحتياجات مواطنيها ولديها موارد مائية هائلة، لكن في ظل ارتفاع فاتورة العجز الغذائي وتدهور المقدرة الشرائية، فإن إعلان حالة “الطوارئ المائية” يصبح اعتداءً على حق أغلبية التونسيين في الماء والغذاء لصالح أقلّية من المستثمرين الفلاحيين وظلم صارخ مُسلّط على صغار الفلاّحين وصغار المستهلكين للمياه الصالحة للشراب الذين يُعاقَبون ويطالَبون بتضحيات للتأقلم مع أزمة لم يكونوا هم المتسببين فيها.
الموارد المائية غير التقليدية: حلول ناجعة أم هروب إلى الأمام؟
كان من الطبيعي مع كل هذا الحديث عن الفقر المائي والعطش أن تبحث الدولة عن حلول تعوّض “النقص” في الثروات الطبيعية وتمكّن من تعبئة موارد جديدة، وأبرز هذه الحلول: إعادة استعمال المياه الرمادية (مياه الصرف المنزلي المستعملة) بعد تطهيرها، وتحلية المياه الجوفية المالحة وكذلك تحلية مياه البحر.
حسب معطيات الديوان الوطني للتطهير لسنة 2019 نجد أن 22% من المياه المستعملة المعالجة (تبلغ قيمتها الجملية 285 مليون متر مكعب)، أي 62 مليون متر مكعب تمت إعادة استغلالها. 21% من هذه المياه المُعاد استغلالها[5] ذهب إلى ري 4114 هكتار مهيأ لمثل هذا الاستعمال وهي مقسمة كالآتي: 2734 هكتار من المساحات الزراعية السقوية، 930 هكتارا من ملاعب الصولجان، و450 هكتارا من المساحات الخضراء.
وشرعت تونس في تحلية المياه الجوفية المالحة منذ سنة 1983 عبر إنشاء محطة تحلية في جزيرة “قرقنة” وفي آخر تسعينيات القرن الفائت اتسعت شبكة التحلية بإنشاء محطات في “قابس” (1999) و”جرجيس” (2000) و”جربة” (2000)، ثم جاءت الموجة الثالثة من المحطات بعد ثورة 2011: بدأت بمحطة “بنقردان” (2013). وبلغت أوجها في فترة 2015-2017 بإضافة عشر محطات أخرى في ولايات الجنوب الشرقي والغربي: بني خداش، مارث، مطماطة، توز، سوق الأحد، قبلي، دوز، نفطة، حزوة، بلخير. مجمل الطاقة الإنتاجية لهذه المحطات يناهز 100 ألف متر مكعب في اليوم. ويُنتظر أن يرتفع عدد هذه المحطات إلى 25 وحدة بحلول سنة 2030.. على الأقل حسب البرامج المعلنة.
أما بالنسبة لتحلية مياه البحر، فما زالت التجربة في خطواتها الأولى. إذ تم تدشين أول محطة في جزيرة جربة سنة 2018 بطاقة إنتاجية تقدر ب ـ50 ألف متر مكعب/ في اليوم. كما تمّ الشروع في بناء ثلاث محطات أخرى: محطة “الزارات/قابس” التي ستدخل حيز الاستغلال أواخر سنة 2023 بطاقة إنتاجية تقدر بـ50 ألف متر مكعب/في اليوم، محطة “قرقور/صفاقس التي يُفترض أن تكون جاهزة موفى سنة 2024 بطاقة إنتاج تقدر بـ100 ألف متر مكعب/ في اليوم، ويمكن مضاعفتها في مرحلة ثانية، ومحطة “سيدي عبد الحميد/سوسة” التي تنتهي الأشغال فيها أواخر سنة 2024 ويُنتظر أن تنتج يوميا ما يقارب 50 ألف مترا مكعب قابلة للمضاعفة في مرحلة ثانية.
وإذا ما كانت التكلفة المادية والبيئية لمعالجة المياه الرمادية منخفضة نسبيا فإنها تصبح عالية جدا عندما يتعلق الأمر بالتحلية، خاصة مياه البحر. تقوم هذه الوسيلة على تقنيات شرهة للطاقة (وما يعنيه ذلك من استثمارات مالية وانعكاسات إيكولوجية) وتَنتج عنها ترسّبات لكتل ذات سُمّيّة عالية تذهب مباشرة إلى البحر ومنظوماته البيئية.
هذه أبرز الحلول “غير التقليدية” المعتمدة في تونس والتي يَعتقد البعض أنها حلول سحرية، وحتى إن تغاضينا على الجانب البيئي فإن تكلفتها المادية باهظة جدا. قد تشكل هذه حلولاً للدول التي تشكو من فقر مائي مدقع وتتمتع بفائض مالي كبير. لكن بالنسبة لتونس، فإن الفاتورة تبدو أكبر من قدرتنا على السداد. كما يبقى السؤال قائما: هل نحن بحاجة حقا إلى هذه التقنيات وهل التعويل عليها حتمي؟ ألم يكن من الأجدر مراجعة سياساتنا الفلاحية ونمط عيشنا و استهلاكنا؟ لم لا يتم استثمار جزء من المبالغ الضخمة المخصصة لمشاريع التحلية في تشجيع المواطنين على بناء “المواجل” و”الفسقيات” واقتناء الخزّانات الكبيرة وغيرها من تقنيات/معدات تجميع مياه الأمطار حتى يتمّ استغلال أكثر ما يمكن من التساقطات وتخفيف الضغط على شبكات الماء الصالح للشراب. ولم لا أيضا غرس ملايين الأشجار التي لا تلتهم الكثير من المياه بل تساعد في تساقط المطر بكميات أكبر وتلعب أيضا دور مصدات للرياح وتقلص من نسق التصحر؟
التكيّف والتخفيف بدلاً من المقاومة والتغيير
السّعي إلى تعبئة موارد مائية “غير تقليدية” بدلاً من تثمين الموارد الطبيعية/التقليدية والتطوير الجدي للبنى التحتية المائية وصيانتها (الخزن والمعالجة والتوزيع) ومعاقبة صغار المستهلكين، والتركيز على المياه الصالحة للشراب والإطناب في ربط “ندرة” المياه بالتغير المناخي وتجنّب الحديث عن السياسات الفلاحية للبلاد ودورها في إهدار المياه، والحديث عن المسؤولية المشتركة وضرورة التأقلم…كلّها دلائل واضحة تُبين أن الدولة التونسية لا تنوي إعادة النظر جديا في حوكمة المياه والموارد الطبيعية عموما. حتى بعض البرامج المرحلية مثل المخطط التنموي 2023-2025 و”المياه في أفق 2030″ و”أفق 2050″ وعلى الرغم من طموحها و”نواياها الحسنة” في ترشيد استعمال المياه وتعبئة أكثر ما يمكن من الموارد تظل أسيرة “التوازنات” الاقتصادية الكبرى للدولة التونسية، وبعضها كما أوضحنا ذلك يعود إلى أكثر من نصف قرن وحتى أكثر.
بدلا من التغيرات الجذرية، يدلّ الخطاب الرسمي على أن البلاد تسير في درب “التكيف” و”التخفيف”. هذان المصطلحان أصبحا العنوانين الأبرز لمخططات وسياسات “مقاومة” آثار “التغير المناخي” في العالم: التكيّف مع الانعكاسات الكارثية للسياسات الملوثة للبيئة والمستنزفة للموارد الطبيعية واعتبارها قدرا لا مفرّ منه، مع محاولة التقليل من حدة هذه الآثار بإجراءات سطحية تقوم على الكثير من “الغسل الأخضر” (Greenwashing) والقليل من “المساعدات” التقنية والمالية للفئات والجماعات والدول الأكثر تضررا من التغيرات المناخية. ومن المثير للاهتمام أن مبتدعي ومروّجي مثل هذه المفاهيم هم أساسا خبراء وقياديين من الدول الغربية التي تتحمل المسؤولية الأكبر فيما آلت إليه أحوال الكوكب الأزرق. لن نتوقف عن ضربك لكن سنوفر لك مسكنات الألم، وبدلا من أن تقاوم الضرب وتتصدى للمعتدي من الأفضل أن تتدرب على تحمل آثاره. ولا تَنسى أن تساهم بقسط من ثمن المسكنّات فالكوكب مسؤولية كل البشر. هذه “الوصفة” الدولية تطبق في تونس مع إضافة بعض البهارات المحلية.
“الصدمة المائية” التي تعيشها تونس واهتمام المواطنين الكبير بالمسألة كان ينبغي أن يشكّل فرصة تاريخية حتى ينطلق حوار سياسي-اجتماعي-تقني بهدف التوافق على سياسات مائية وفلاحية جديدة ننهي بها مسار الإهدار المتواصل منذ عقود طويلة الذي أصبح خطرا على أمن البلاد المائي وسيادتها الغذائية. لكن لا مؤشرات حقيقية عن نوايا تغيير حقيقي لدى أصحاب القرار، أو حتى الوعي بضرورة التغيير. لا زالت الحلول الترقيعية -وبعضها مكلف ماديا وطاقيا وبيئيا- سيدة الموقف. ولا زال البحث عن “مُجرم” مستمرا، وما زال تمييع المسؤوليات رياضة رسمية. حتى مجلة المياه الجديدة التي تُحاول وزارة الفلاحة تمريرها منذ 2019 -وتأجلت المصادقة عليها بضغط من المجتمع المدني الذي طالب بسحب مشروع القانون ومراجعته- يبدو أنها اليوم جاهزة وقد تعرض قريبا على البرلمان الجديد من دون أن نعرف تفاصيلها وإن كانت ستُحافظ على التعديلات التي فرضها المجتمع المدني أم أنها ستتجاهلها.
أزمة المياه في تونس هي قبل كل شيء فشل في حوكمة ثروة طبيعية والتعامل معها بعقلية الاستثمار والربح السريع. المياه ملف سياسي بامتياز ولا يمكن تسليمه بالكامل إلى التكنوقراط والبيروقراطيين. الطريق إلى الأمن المائي يمرّ حتما عبر التعامل مع الماء كمنفعة عامة لكل التونسيين يتمتعون بها على قدم المساواة ويحفظونها كأمانة للأجيال القادمة. بلا شك، تعديل بوصلة السياسات الفلاحية هو أمر شاق ومعقد، وله تكلفة سياسية واجتماعية مرتفعة، لكن تكلفة عدم المراجعة والتغيير ستكون أعلى بكثير.
نُشرت نسخة مختصرة من هذا المقال في العدد 26 من مجلة المفكرة القانونية-تونس…
لقراءة المقال باللغة الانكليزية
[1] للاطلاع أكثر
-Hénia, Latifa. Les grandes sécheresses en Tunisie au cours de la dernière période séculaire, in EAU ET ENVIRONNEMENT :
Tunisie et milieux méditerranéens, ENS EDITIONS, Lyon, 2003.
-Benzarti, Zeineb. La pluviométrie en Tunisie. Analyse des années très pluvieuses, in EAU ET ENVIRONNEMENT : Tunisie et milieux méditerranéens, ENS EDITIONS, Lyon, 2003.
[2] الأرز بالعامية التونسية
[3] الجوع بالعامية التونسية
[4] حسب أرقام التقرير القطاعي للمياه لسنة 2020 :
[5] تشير معطيات الديوان الوطني للتطهير إلى أنه “تم خلال سنة 2019 إستغلال 62 مليون متر مكعب من المياه المعالجة (22%) منها 21 مليون متر مكعب لري 4114 هكتار من جملة 9815 هكتار من المساحات المهيأة للري بالمياه المعالجة”. في حين لا تقدم نفس النشرة الإحصائية معطيات حول مسالك استغلال الكميات المتبقية من المياه المعالجة.