يحتدم السجال القانوني بين أركان النظام السياسي حول “الحل” الواجب اعتماده من أجل منع الفراغ في قيادة الجيش قبل بلوغ العماد جوزيف عون سن التسريح الحكمي في كانون الثاني المقبل. ففي حين ذهبت بعض القوى السياسية إلى تقديم اقتراحات قوانين بهدف تعديل قانون الدفاع الوطني من أجل تأمين بقاء قائد الجيش الحالي في منصبه لفترة زمنية إضافية، برزت مؤخرا نظرية جديدة تقول بتأجيل تسريح قائد الجيش بقرار من مجلس الوزراء مع تناقل معلومات عن نية رئيس حكومة تصريف الأعمال دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد لاقرار تأجيل التسريح لفترة ستة أشهر فقط.
وبما أن النقاش القانوني في لبنان يعكس غالبا تضارب المصالح بين أركان السلطة الحاكمة كان لا بد من تفنيد هذا الزعم على ضوء القانونين الدستوري والإداري من أجل معرفة مدى جواز صدور هكذا قرار عن مجلس الوزراء.
تنص المادة 55 من المرسوم الاشتراعي رقم 102 الصادر سنة 1983 (قانون الدفاع الوطني) على إمكانية تأجيل تسريح المتطوع “بناء على قرار وزير الدفاع الوطني المبني على اقتراح قائد الجيش في حالات الحرب أو إعلان حالة الطوارئ أو أثناء تكليف الجيش بالمحافظة على الأمن”.
وفي حال وضعنا جانبا أن جميع الحالات التي تذكرها هذه المادة غير متوفرة قانونا اليوم، وفي حال لم نعالج أيضا مدى جواز أن يقترح قائد الجيش تأجيل تسريح نفسه، يتبين أن تأجيل التسريح يدخل في اختصاص وزير الدفاع الذي يمارس تلك الصلاحية بموجب قرار.
ولا بد من التذكير أن وزير الدفاع لجأ إلى المادة 55 من أجل تأجيل قائد الجيش السابق جان قهوجي لثلاث مرات على التوالي في سنوات 2013 و2015 و2016. وهكذا يتبين أنه بغض النظر عن مدى قانونية تأجيل تسريح قائد الجيش بهذه الطريقة، لكن التأجيل تم بقرار من وزير الدفاع أي المرجع القانوني المختص.
لكن المشكلة اليوم مختلفة كون الفريق السياسي الذي يتبع له وزير الدفاع الحالي يرفض التمديد لقائد الجيش ما يعني عدم قابلية المادة 55 للتطبيق، لذلك وجد البعض الحل في قيام مجلس الوزراء بوصفه السلطة التنفيذية التي تخضع لسلطته القوات المسلحة اتخاذ هكذا اجراء عبر إقرار مرسوم بتأجيل تسريح قائد الجيش، أي أن السؤال القانوني الذي تثيره هذه القضية يتعلق بمدى جواز حلول مجلس الوزراء محل وزير الدفاع من أجل اتخاذ القرار بتأجيل التسريح.
إن الإجابة على هذا السؤال تتعلق بتعريف السلطة التسلسلية (pouvoir hiérarchique) في القانون الإداري. فكما هو معلوم تنبع السلطة التسلسلية من الطبيعة الهرمية للإدارة وهي تظهر في حق الرئيس بتوجيه التعليمات لمرؤوسيه وحقه في إلغاء أو تعديل القرارات الصادرة عن هؤلاء. كما يحق للرئيس أيضا وعلى سبيل الاستثناء ومن أجل تأمين استمرارية عمل المرافق العامة الحلول محل المرؤوس وذلك باتخاذه القرار الذي كان من المفترض أن يصدر عن هذا الأخير[1].
لكن القانون الإداري حدد مجموعة صعبة جدا من الشروط التي تجيز حلول السلطة الرئاسية محل الجهة المختصة وهي التالية: لا بد أن يجيز القانون ذلك صراحة، لا بد للسلطة الرئاسية من توجيه تحذير للسلطة الدنيا تخطرها بوجوب اتخاذ القرار خلال مهلة زمنية محددة، لا بد أن يكون رفض السلطة الدنيا اتخاذ القرار رفضا صريحا ولا ينجم عن مجرد إهمال[2].
وهذا ما أعلنه مجلس شورى الدولة في لبنان إذ اعتبر التالي: ” وبما أن السلطة التسلسلية لا تملك سلطة الحلول (Pouvoir de substitution) ما لم ينص القانون على خلاف ذلك وإلا تكون قد مارست صلاحية منحها القانون لغيرها (…) وبما انه تأسيسا على ذلك اذا اقدمت السلطة العليا على التعرض الى اختصاص السلطة الدنيا بأن أصدرت القرار بداءة في موضوع يولي القانون بشأنه السلطة الدنيا وحدها حق إصداره فيكون هذا القرار مشوبا بعيب عدم الاختصاص ولا يمكن التذرع به أو الاستناد إليه” (قرار رقم 84 تاريخ 4/11/1998).
وهكذا يصبح جليا أن السلطة الرئاسية لا يمكن لها الحلول مكان السلطة الدنيا من دون وجود نص تشريعي يجيز ذلك صراحة. لكن هذا الشرح لا يفي بالمطلوب للإجابة على سؤال مدى جواز حلول مجلس الوزراء محل وزير الدفاع كون سلطة الحلول لا يمكن أن تنبع إلا من سلطة تسلسلية قائمة بين رئيس ومرؤوس بينما مجلس الوزراء (واستطرادا رئيس مجلس الوزراء) لا يعتبر الرئيس الإداري للوزير ولا يحق له توجيه الأوامر الإدارية أو إصلاح قرارات هذا الأخير، فكم بالحري الحلول محله. فالقول بصدور قرار تأجيل التسريح بمرسوم عن مجلس الوزراء في ظل رفض وزير الدفاع للأمر يجعل من مجلس الوزراء سلطة تسلسلية في علاقته مع الوزير، وهو ما يخالف مسؤولية الوزير الدستورية الذي سيفقد حقه في إدارة شؤون وزارته.
لكن غياب السلطة التسلسلية بين مجلس الوزراء والوزير لا يعني أن رئيس الجمهورية (مجلس الوزراء عند شغور سدة الرئاسة) لا يحق له إصدار مرسوم في موضوع ينص القانون على ضرورة اتخاذه بقرار وزاري. لكن هذا الأمر لا يمكن أن يتم إلا في حال كان الوزير المختص قد وقّع على المرسوم، ما يعني أن موافقة الوزير على المرسوم عبر توقيعه إلى جانب توقيع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء هي كافية كي تجعل من هذا المرسوم صحيحا من الناحية القانونية. وهذا ما أعلنه مجلس شورى الدولة الفرنسي في أكثر من قرار[3] له وأكده الفقه[4] أيضا.
فصدور مرسوم عن مجلس الوزراء الذي يتولى صلاحيات رئيس الجمهورية بتأجيل تسريح قائد الجيش هو جائز شريطة توقيعه من قبل وزير الدفاع. وفي ظل رفض وزير الدفاع التوقيع يعتبر المرسوم صادرا عن سلطة غير مختصة ومخالفا للدستور، وهو قابل للإبطال في حال تم الطعن به أمام القضاء الإداري. فمجلس الوزراء في هذه الحالة لا يحل محل الوزير كون هذا الأخير قد وافق فعليا على هذا المرسوم، بينما السلطة التسلسلية تحل مكان السلطة الدنيا من دون موافقتها.
يظهر الجدل المتعلق بالفراغ في قيادة الجيش مدى هيمنة الاعتبارات السياسية وتحويل القانون إلى مجرد أداة لتبرير التوافقات السلطوية بين أركان النظام السياسي. وليس أدل على ذلك من إعلان النائب جبران باسيل أن الحلول القانونية كثيرة، بينما المنطق الدستوري السليم يعتبر في المبدأ أن الحل القانوني الصحيح هو واحد فقط، ولا يمكن أن يتخذ أشكالا متعددة يتم الانتقاء منها وفقا لأهواء القوى السياسية وقدراتها.
[1] Benoît Plessix, Droit administratif général, LexisNexis, Paris, 2018, p. 244.
[2] على سبيل المثال في التشريع اللبناني نص المادة 128 من المرسوم الاشتراعي رقم 118 تاريخ 30 حزيران 1977 (قانون البلديات) التي تنص على التالي: ” إذا تمنعت إحدى البلديات الأعضاء عن تنفيذ قرارات مجلس الاتحاد فعلى القائمقام أو المحافظ إما عفوا أو بناء لطلب رئيس مجلس الاتحاد أن يوجه إلى البلدية المختصة أمراً خطياً بوجوب التنفيذ خلال مهلة عشرة أيام وإلا حلّ محل المجلس البلدي أو رئيس البلدية في القرار الذي يضمن حسن تنفيذ قرار مجلس الاتحاد”.
[3] « Considérant que, lorsqu’il est prévu par les dispositions en vigueur qu’une décision administrative doit être prise par voie d’arrêté ministériel, il est satisfait aux dites dispositions lorsque cette mesure est prise par un décret contresigné par le ministre compétent » (CE, SYNDICAT PROFESSIONNEL DES RADIOS AFFILIÉES, 23 juin 2000).
[4] “De même, est régulière une mesure prise par décret, alors qu’elle devait l’être par arrêté ministériel, dès lors que le décret porte le contreseing du ministre compétent” (René Chapus, Droit administratif general, Tome 1, Montchrestien, 15eme édition, Paris, 2001, p. 1029)