من إمارات انحطاط الدول تنصيب السياسة كحكم على القانون بينما الصحيح هو تمكين هذا الأخير من لجم الصراع السياسي ضمن الضوابط الحقوقية. ولا غرو أن لبنان تحول إلى دولة تشهد عند كل استحقاق دستوري أزمة سياسية كبيرة لا مخرج منها سوى لعبة توازن القوى بين الأحزاب المختلفة.
ومن آخر تجليات هذا الصراع المواجهة المفتوحة التي دارت رحاها على أرض دستورية حول تشكيل الحكومة. وقد بلغ الأمر درجة غير مسبوقة من الانحلال القانوني إذ تحول النص الدستوري إلى ذريعة لتسويغ شتى التفاسير وتبرير كل الاحتمالات حسب مقتضيات المصلحة. ولا ضير من استعارة مفهوم "السياسة الشرعية" من الفقه الاسلامي وتطبيقه على الواقع في لبنان: فكما أن الفقيه عند سكوت الشريعة يسمح للسلطان بالتصرف وفقا لأهوائه "سياسة" – فقد تم السماح حتى لأولياء الأمور بتطبيق عقوبة الاعدام من خارج أي نص وعرف هذا الإجراء "بالقتل سياسة"- كذلك في لبنان يمتلك الزعماء مجموعة من الفقهاء التي تفتي لهم في الدستور حسب تقلبات أمزجتهم بما يمكن أن نطلق عليه اسم "السياسة الدستورية".
فالقانون الدستوري هو مجموعة القواعد والاعراف والاجتهادات المعتبرة التي تحكم النظام السياسي في دولة ما، أما السياسة الدستورية فهي مجموعة المصالح الحزبية والطائفية التي تبحث عن شرعية قانونية لها بقالب دستوري. والغالبية الساحقة من المقالات في الصحف والتحليلات عبر وسائل الاعلام تدخل في نطاق السياسة الدستورية ولا دخل للقانون فيها إلا من أجل المغالطة والتلبيس على المواطنين.
وقد يختلف البعض في فروع القانون لكن عندما يصل الامر إلى الخلاف على المبادئ نكون قد بلغنا الدرك الأسفل من الحياة السياسية في مجتمع ما. وقد تبين هذا الأمر بشكل واضح من خلال الصخب الذي أثير على مسألة تشكيل الحكومات في لبنان. لذلك كان لا بد من إعادة التذكير ببعض القواعد الدستورية مع الابتعاد عن متاهات السياسة اللبنانية وحساباتها الضيقة.
تنص الفقرة "ج" من مقدمة الدستور على أن "لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية…". وما يهمنا في هذا التعريف هو فهم العلاقة القائمة بين تحديد نوع النظام السياسي وطبيعة الحكومة. فالطريقة التي يتم بها تشكيل الحكومة تعكس المبادئ التي يقوم عليها نظام سياسي ما، وكل مقاربة دستورية لا تأخذ هذه العلاقة في الحسبان ستبوء بالفشل لا محالة.
لبنان جمهورية برلمانية أي أن السلطة التنفيذية لا يحق لها أن تمارس صلاحياتها إلا بعد حصولها على ثقة مجلس النواب وهنا يكمن الالتباس الذي يحتاج إلى توضيح. فقد أناطت المادة 17 من الدستور السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء لذلك لا يستمد هذا الأخير صلاحياته من مجلس النواب بل من الدستور مباشرة. صحيح هذه الصلاحيات لا يمكن أن تمارسها الحكومة كاملة إلا بعد نيلها الثقة لكن هذا لا يمكن أن يعني بأي حال من الأحوال أن السلطة التنفيذية تستمد وجودها من المجلس. فالنظام البرلماني، عكس ما هو شائع، لا يقوم على مبدأ هيمنة مجلس النواب وإلا نكون قد أخلينا بالمدماك الأهم الذي يقوم عليه البناء الدستوري للنظم البرلماني ألا وهو الفصل بين السلطات. وقد أعلنت صراحة الفقرة "هـ " من مقدمة الدستور على أن " النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها". فالسلطة التنفيذية تخضع لرقابة مجلس النواب لكن هذا لا يجب أن يعني عدم المساواة بينهما إذ ان هذه الرقابة يقابلها قدرة السلطة التنفيذية على حل المجلس. وعلى الرغم من أن حل المجلس فرضية مستبعدة جدا في لبنان نظرا للشروط الصعبة التي تم وضعها بعد تعديلات 1990 لكن مبدأ الحل متاح ولو من الناحية النظرية فقط وفقا لأحكام المادة 55 من الدستور.
الحكومة هي إذا سلطة دستورية قائمة بذاتها مساوية للسلطة التشريعية عملا بمندرجات الطبيعة البرلمانية للنظام الدستوري القائم في لبنان. وقد راجت في الأوساط السياسية مقولة غريبة بعض الشيء مفادها أن "مجلس النواب سيد نفسه" لدرجة يظن فيها المرء ان السلطة التشريعية تملك صلاحيات مطلقة وحرية كاملة تخولها اجتراح المعجزات. وكالعادة في لبنان، تتحول هذه الشعارات إلى مسلمات بديهية يقبلها الجميع دون التدقيق في مدى صوابيتها. فهل يحق لمجلس النواب مثلا مخالفة الدستور؟ وهل بمقدوره أيضا عدم احترام مبدأ فصل السلطات والتدخل في عمل السلطة التنفيذية؟ وبما ان الجواب المنطقي على هذه الأسئلة هو قطعا بالنفي، كيف نستطيع إذا أن نفهم مقولة المجلس سيد نفسه؟ لقد أجاب الدستور عن هذا الأمرعندما نصت المادة 43 منه بأن "للمجلس أن يضع نظامه الداخلي" أي انه يستطيع أن يضع القواعد التي ترعى عمله الداخلي بحرية تامة كتحديد عدد اللجان، وكيفية التصويت، وما هي الاجراءات الواجب اتباعها عند استجواب الحكومة أو وزير محدد. فالهدف من النظام الداخلي هو حماية السلطة التشريعية من هيمنة السلطة التنفيذية التي كانت في القدم، ممثلة بشخص الملك، تصادر حرية الهيئات التمثيلية وتحتكر كل السلطات. لذلك كان من الضروري بعد انتشار الأنظمة البرلمانية وانتصار الديمقراطية ترسيخ هذه المكتسبات عبر ضمان حرية المجالس المنتخبة من خلال منحها حق إقرار أنظمتها الداخلية بنفسها. ومع مرور الأيام جنحت بعض البرلمانات إلى إساءة استخدام هذه الصلاحية، فقامت بتضمين الأنظمة الداخلية مجموعة من المواد التحكمية التي تضعف الحكومة وتحول دون ممارسة سليمة للسلطة، مما دفع بعض الدول إلى توسيع اختصاص المجالس الدستورية ليشمل أيضا الرقابة على الأنظمة الداخلية كالمادة 61 مثلا من دستور الجمهورية الخامسة في فرنسا.
جراء ما تقدم، يتبين لناأنتشكيل الحكومة في لبنان أمر يدخل في صلب اختصاص السلطة التنفيذية بشكل عام ورئيس الجمهورية تحديدا. فتعيين رئيس مجلس الوزراء يتم بمرسوم يصدره رئيس الجمهورية عملا بأحكام الفقرة الثالثة من المادة 53 من الدستور. ونحن نعلم جيدا بأن رئيس الجمهورية يسمي رئيس الحكومة الجديد بناء على استشارات نيابية ملزمة لكن هذا هو بالتحديد ما يثير الاهتمام. فإذا كانت التسمية لا تتعلق برئيس الجمهورية، لماذا ابتكر الدستور آلية الاستشارات الملزمة ولم ينص بكل بساطة على انتخاب رئيس مجلس الوزراء في مجلس النواب. والسبب وراء ذلك هو الطبيعة البرلمانية للنظام اللبناني حيث السلطة التنفيذية هي مؤسسة أصيلة لا تنبثق عن مجلس النواب وإلا أصبحنا في نظام مجلسي (Régime d’assemblée) حيث تنحصر جميع السلطات في البرلمان أو ما يوازيه.
إن المرسوم الذي يصدره رئيس الجمهورية بوصفه رأس التنظيم الاداري في لبنان بتسمية رئيس مجلس الوزراء ومن ثم بشكيل الحكومة يتمتع بقوة انشائية مطلقة خلافا لزعم البعض بأن هذه المراسيم هي مجرد نصوص اعلانية ولا قيمة لها إلا بعد الحصول على ثقة مجلس النواب. فالمجلس لا يكوّن السلطة التنفيذية بل يسمح لها بممارسة صلاحياتها، أي صلاحيات تعود لها بمقتضى الدستور وليس بتفويض من البرلمان. وقد نصت الفقرة الثانية من المادة 64 من الدستور على أن الحكومة" لا تمارس صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال". وما نستشفه من هذا النص لا يحتاج إلى جهد في الشرح. فالحكومة هي قائمة قبل نيلها الثقة ويحق لها أن تصرف الأعمال كونها مؤسسة تخضع لمبدأ الاستمرارية. فكما أن المبدأ القديم يعلن بأن الملك لا يموت لأن مؤسسة الملكية قائمة دائما بغض النظر عن الأشخاص، كذلك اليوم نستطيع أن نقول أن السلطة التنفيذية لا تموت وهي موجودة دائما لكن ممارستها لصلاحياتها يختلف من وقت إلى آخر.
ولا شك أن تشكيل الحكومات في النظم البرلمانية يجب أن يعكس رأي الأكثرية النيابية. ومن البديهي القول بأن تعيين الوزراء يتم من قبل الحزب الذي فاز في الانتخابات وحصل على غالبية المقاعد النيابية. لكن هذا الواقع هو حقيقة من الناحية السياسية الصرفة أما من الناحية الدستورية فإن تعيين الوزراء يصدر عن رئيس الدولة بما يضمن مبدأ الفصل بين السلطات. هذا أقله ما يوجبه القانون الدستوري أما السياسة الدستورية فهي تغني على ليلاها ولا وازع يلجمها في لبنان خاصة بعد النهاية البائسة للمجلس الدستوري.
خلاصة القول أن المبادئ الدستورية باتت في خطر شديد. فهي مستباحة من كل حدب وصوب والأخطر عدم وجود مرجعية لحل النزاع عبر الوسائل القانونية. انه اللوياثان، وحش السياسة الذي تكلم عنه "هوبس" وقد تحرر من كل قيوده.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.