أمس الأربعاء في 4 تشرين الأوّل الجاري، استمعتْ هيئة التفتيش القضائي إلى أعضاء الهيئة الإدارية لنادي قضاة لبنان تبعًا للشكوى المقدّمة من وزير العدل هنري خوري ضدّ النادي على خلفية البيانات الإعلامية الصادرة عنه منذ تولّي خوري الوزارة ومشاركة رئيسه القاضي فيصل مكّي في برنامج تلفزيوني. وقد اعتبر خوري أنّ نشاط النادي يشكّل خرقًا لموجب التحفّظ وينمّ عن تسييس ويضرّ بمصالح القضاء. وقد جاءتْ هذه الإحالة بعدما كان وزير العدل أصدر في تاريخ 24 نيسان 2023 تعميميْن بإخضاع حرّية القضاة بالتعبير والمشاركة في الندوات والتواصل مع الغير من خارج القضاء لآلية الإذن المسبق، وهما تعميمان سبق للائتلاف أن حذرمن خطورتِهما.
وقبل إبداء الملاحظات على هذه الإحالة، يجدر التذكير أنّ ناديقضاةلبنان تأسس في 2018 نتيجة نضال قضائي استمرّ قرابة 12 سنة في مواجهة رفض السلطة لنشوئه وأنّه شكّل منذ تاريخ تأسيسه مساحة لإنشاء تيار استقلاليّ داخل القضاء، ومنبرًا لهذا التيار وفق ما تؤكّده عشرات البيانات الصادرة عنه طوال السنوات الماضية، وضمنًا في أصعب المراحل.
هذه الشكوى تثير قلقًا كبيرًا لدى أعضاء الائتلاف لأسباب عدّة أبرزها الآتية:
أنّها تمسّ بحرية القضاة في الدفاع عن استقلاليّتهم
أوّل ما يجدر لفت النظر إليه أنّ استناد وزير العدل إلى موجب التحفّظ لتقديم شكواه ضدّ النادي إنّما يشكّل تعبيرًا جديدًا عن فهم هذا الوزير لهذا الموجب، بما ينسجم مع التعميميْن الصادريْن عنه سابقًا. وهذا الفهم خاطئ جملة وتفصيلًا إذ أنّ “موجب التحفّظ” يهدف إلى ضمان حياديّة القاضي في القضايا التي ينظر فيها من دون أن يحدّ من قريب أو بعيد حريّة القضاة في إبداء آرائهم بشأن الإصلاح القضائي أو استقلالية القضاء أو القوانين والتدابير المتّصلة بها أو قضايا حقوق الإنسان بشكل عامّ.
أيّ فهمٍ آخر لموجب التحفّظ يجعله بمثابة موجب صمت ويؤدي إلى إخضاع حرّيات القضاة لقيُود غير مبرّرة على حرّيات مضمونة دستوريًا، ويتعارض بأيّة حال مع مبادئ استقلاليّة القضاء المكرّسة في الجمعية العموميّة للأمم المتحدة (1983) ووثيقة بنغالور حول الأخلاقيّات القضائية. وما يفاقم من هذا الأمر أنّ الإجراء المتّخذ لا يرمي إلى الحدّ من حرّية قاضٍ فرد، إنّما إلى الحدّ من حرية النّادي كجمعيّة في اتجاه حرمانه من إصدار أي بيان. ومن شأن ذلك أن يشكّل اعتداءً مزدوجًا على حرّيتيْ التّعبير وتأسيس جمعيات ومعها على حقّ القضاة في الدفاع عن أنفسهم في مواجهة ممارسات الهيمنة والتدخّل.
حلقة جديدة في مسلسل الاعتداء على القضاء والحرّيات
تأتي ملاحقة نادي قضاة لبنان ضمن سياق اعتداء متواصل على القضاء والحرّيات العامة، في اتجاه تحصين نظام الإفلات من العقاب من أيّ محاسبة أو مساءلة. وليس أدلّ على ذلك من تزامن تقييد حرّيات القضاة في نيسان 2023 معتقييدحرّياتالمحامين في آذار من السنة نفسها بما يهدد محامي الحراك أو من تزامن هذه الإحالة مع الملاحقات المتلاحقة ضدّ فئات مهنيّة عدّة من إعلاميين ومدرّسين ونقابيّين وكوميديّين ومفوّضي مراقبة حسابات كاشفي فساد. كما تتزامن مع تفعيل كيانات هجينة منشأة حديثًا (مثال جنود الرب وجنود الفيحاء) لترهيب المواطنين وضرب حرّية التظاهر والسطو على الفضاء العام. كلّ ذلك في ظلّ تقاعس السلطة عن اتخاذ أي تدبير بحق هذه الكيانات. ولعلّ أخطر ما يرشح عنه الاستهداف الأخير، هو أنّه يستهدف القضاة أي من أناط بهم الدستور حماية الحقوق والحرّيات.
إجراء يخلّ بموجب ضمان بيئة سليمة للعمل القضائي
فضلًا عمّا تقدم، تأتي هذه الشّكوى بمثابة إجراء إضافيّ من شأنه إضافة مؤثّرات سلبية جديدة على بيئة العمل للقضاة وإحباطِهم، تُضاف إلى ممارسات التدخّل والمحسوبية وإلى انهيار القيمة الشرائية لرواتبهم. فبدل أن يبذل وزير العدل قصارى جهده لتحسين بيئة العمل هذه ماديًّا ومعنويًّا واتخاذ تدابير فعّالة للحفاظ على ما تبقى من القضاء، تراه ينشط لتقويض ضمانات استقلاليّتهم ممّا يهدد بمزيد من الاستقالات والإحباط ويهدد المرفق العام للعدالة بأكمله. وما يزيد من قابلية موقف الوزير للانتقاد هو موقفه المتخاذل إزاء انقلابات كبرى تعرّض لها القضاء وبخاصّة انقلاب النائب العام التمييزي غسان عويدات على المحقق العدلي طارق بيطار في قضية المرفأ. آنذاك، رفض هذا الوزير تحريك أي شكوى على عويدات مكتفيًا بموقف شاهد الزور.
وعليه، يسجّل ويطالب ائتلاف استقلال القضاء بالأمور الآتية:
نطلب من هيئة التفتيش القضائي حفظ شكوى وزير العدل بصورة عاجلة ونهائية، لكونها تشكل تحويرًا للسلطة واستهدافًا لضمانات استقلاليّة القضاء والتيار الاستقلالي. فالهيئة وُجدت من أجل الحدّ من التعسّف بحق القضاة وليست هذه الشكوى إلّا نموذجًا فاقعًا على هذا التعسّف. هذا فضلًا عن أنّ صلاحية الهيئة في التحقيق تنحصر في المخالفات المعزوّة إلى قاضٍ بعينه وليس في المخالفات المعزوّة إلى جمعية قضاة تتمتّع بشخصية معنوية مستقلّة ليس لوزارة العدل أي سلطة عليها. كما نطلب من الهيئة بالمقابل تخصيص الجزء الأهم من وقتها لمحاسبة القضاة المدعومين سياسيا ممن كانوا حصنا دائما لنظام الإفلات من العقاب.
نطالب وزير العدل بالتراجع الفوري عن الشكوى وعن تعميميه الصادرين في 24 نيسان 2023 والالتزام بضمانات استقلاليّة القضاء، .
نطالب مجلس النواب مجددًا بأداء دوره في الإسراع في إنجاز اقتراحيْ قانون استقلاليّة القضاء وفق المعايير الدولية ومن دون أيّ إطالة، محمّلين إياه مسؤولية كبيرة في استمرار ممارسات الاعتداء والتدخل والتعطيل في القضاء.
أخيرًا، نعلن عن تضامننا الكامل مع نادي قضاة لبنان الذي طالما عبّر من خلال بياناته المتلاحقة عن تَوقِه إلى بناء قضاء مستقلّ لا ولاء له إلّا للشعب وفي الآن نفسه عن رفضه في أن يكون شاهد زور على اغتيال العدالة في لبنان.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.