رسم يوما السبت والأحد (18/19 كانون الثاني) مرحلة جديدة في تعامل القوى الأمنية مع المتظاهرين، ففيهما اشتدت حدة المواجهات بين القوى الأمنية والمحتجين في محيط مجلس النواب، وأطلقت قوات مكافحة الشغب الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي واستخدمت خراطيم المياه لتفريق المتظاهرين مما أسفر عن إصابة 520 شخصاً، عدد كبير منهم أصيب في القسم الأعلى من جسمه ونقلوا إلى مختلف مستشفيات بيروت فيما عولج بعضهم على الأرض من قبل فرق الإسعاف.
في هذين اليومين أصيب 4 شباب في أعينهم ونقلوا إلى مستشفى "أوتيل ديو"، هم عبد الرحمن جابر ومهد برجي وأيمن دقدوق وشخص رابع طلب من إدارة المستشفى عدم إعطاء أية معلومات عنه لأنه لا يريد الظهور الإعلامي.
عبد الرحمن جابر
لم يخطر في بال عبد الرحمن جابر ابن بلدة بوارج البقاعية أنّ مشاركته الاحتجاجية الأولى في بيروت ستفقده إحدى عينيه، فهو الذي يبلغ من العمر" 18 عاماً إلا شهراً" كما يحلو له أن يقول و"الخلوق الثائر والمحبوب من الجميع" كما تردّد والدته، ليس من هواة "العنف" وليس ممّن "يخرّبون" وإن كان لا يدين هؤلاء.
اعتاد عبد الرحمن ومنذ 17 تشرين الأول أن يشارك في التحركات الاحتجاجية المناطقية وتحديداً في بوارج وجديتا وقب الياس. ويشرح سبب مشاركته لـ"المفكرة" قائلاً: "كيف لا أشارك وأنا بلا عمل، أليس من أبسط حقوقي فرصة عمل؟" موضحاً أنّه كان يدرس الفندقية في معهد مهني وفي الوقت نفسه عمل لمدة ثلاث سنوات في أحد المطاعم قبل أن يخسر عمله بسبب الأوضاع الاقتصادية قبل 8 أشهر. ولم يستطع الإلتحاق هذا العام بالمعهد لإكمال دراسته المهنية لعدم قدرته على دفع أقساط المعهد نتيجة خسارته عمله.
عبد الرحمن وهو ابن عريف متقاعد في الجيش اللبناني والصبي الأول في عائلته المكوّنة من 6 أبناء، يعيش يومياً وجعاً يسمّيه وجعاً مشتركاً مع شباب جيله ويختصره بغياب الدولة وغياب أبسط حقوق تضمن عيشه كمواطن. هو لا يحمل عناوين سياسية رنّانة ولا يريد إلّا حقوقه التي شاءت الأوضاع أن تتحول إلى مطالب "هي مطالبنا كلنا" كما يقول "تعليم طبابة وفرص عمل ليس أكثر" ومن أجل تلك المطالب اتفق مع أصدقائه أن يشارك لأول مرة في تظاهرة في بيروت.
"عندما عرفنا بالدعوة إلى التجمّع أمام المجلس النيابي يوم السبت اتفقت مع أصدقائي وقبل يومين أن نشارك فيها، لم نكن نعلم أنّها ستتحول إلى عنف، نزلنا وحصل ما حصل" يقول عبد الرحمن. ويضيف: "لا أعلم الوقت بالتحديد ولكن الساعة كانت بين الثالثة والثالثة والنصف، لم تكن الاشتباكات بين المتظاهرين والقوى الأمنية قد اشتدّت بعد، لم أكن في الصفوف الأمامية، قرّرت أن أبحث عن أصدقائي الذين كانوا في الجهة المقابلة وما إن اتجهت صوبهم، وبلحظة نظرت إلى قوى الأمن الداخلي وأصبت برصاصة مطاطية في عيني مباشرة، من أطلقها كان بعيداً عنّي بالكاد 25 متراً، ونقلني الصليب الأحمر إلى المستشفى".
لا يفهم عبد الرحمن حتى الآن لماذا أطلق العنصر الرصاص المطاطي باتّجاهه فهو لم يكن من الناس الذين "شاغبوا" بل كان يتظاهر فقط كما يقول ويعيد كما أنّه أصيب بداية التظاهرة أي قبل الفوضى.
يروي عبد الرحمن الذي غادر المستشفى يوم الثلاثاء الماضي (21 كانون الثاني)، ما حصل معه وهو يراقب بعين واحدة والده الذي يقف عند باب الغرفة في المستشفى ويحاول إخفاء دموعه التي انهمرت بعدما توجّه له ابنه قائلاً "لشو سامم بدنك فش شي أنا منيح وأقوى من قبل".
لم يشارك عبد الرحمن في أي تحرّك مطلب قبل 17 تشرين الأول: "كنت صغيراً، لم أكن أعرف حقوقي، ولكن ما إن أشفى سأعود إلى الشارع من أجل لبنان جديد يليق بنا".
يقول عبد الرحمن لـ"المفكرة" إنّه فقد النظر كلياً في عينه المصابة وأنّ هناك أملاً كبيراً بأن تبقى في مكانها إذ أنها تستجيب للعلاج.
مهدي برجي
ما قاله عبد الرحمن جابر سمعناه بكلمات أخرى من مهدي برجي ابن بلدة شعت والمقيم في ضواحي العاصمة وتحديداً في منطقة الجناح. فمهدي الذي لم يبلغ 18 عاماً بعد حاله حال عبد الرحمن، موظف أمن في شركة في منطقة بشارة الخوري، بدأ عمله قبل 9 أيام فقط من الإصابة بعدما أمضى عاما كاملاً بلا عمل، ما راكم داخله غضباً وجد في انتفاضة 17 تشرين مساحة للتعبير عنه.
يقول مهدي وهو خرّيج معهد مهني في "الميكانيك" و"الإلكترونيك" لـ"المفكرة": "فتحت محلاً صغيراً لتصليح الهواتف المحمولة ولكن بسبب الأوضاع لم يصمد طويلاً وفتحت محلاً لتصليح الدراجات النارية وأيضاً بسبب الأحوال الاقتصادية لم يستمر فأصبحت بلا عمل، ومن أجل فرصة عمل وتعليم وطبابة كنت أنزل إلى التظاهرات ومن أجلها أيضاً نزلت يوم السبت".
يروي مهدي تفاصيل ما حصل معه يوم السبت لـ"المفكرة": "كنت أقف قرب جريدة النهار، تحديداً عند زاوية فندق "لو غراي" ولم تكن الاشتباكات وصلت إلى هذه النقطة بعد، كنت أتحدث على الهاتف وما أن انتهيت من مكالمتي حتى سمعت صديقي يحذرني من عنصر أمني يصوّب البارودة صوب رأسي وبدلاً من أن أهرب نظرت إلى الخلف فوجدت مكافحة الشغب بعيدين عنّي ما بين 5 و10 أمتار وأحدهم يوجه البارودة مباشرة إليّ ويطلق الرصاص المطاطي مباشرة على عيني".
لم يكتف عناصر المكافحة بذلك بل لحقوا به ولكن أحد المتظاهرين سبقهم، ضمّ مهدي وركض معه إلى مسجد الأمين حيث بقي إلى أن وصل الصليب الأحمر ونقله إلى مستشفى "أوتيل ديو" التي غادرها الثلاثاء الماضي أيضاً.
مهدي الذي يتساءل منذ يوم السبت الماضي لماذا لم يوجّه الرصاص المطاطي إلى قدميه ولماذا التصويب عليه وهو كان متظاهراً سلمياً، يردّد خلال الحديث مع "المفكرة" بأنّه ليس حاقداً على قوى الأمن لأنّه يعرف أن معركته هي مع السلطة التي حرمته من أبسط حقوقه وأوصلت الشباب من جيله إلى الاشتباك مع عناصر الأمن.
وضع مهدي الصحي مستقر حالياً ولكنه فقد النظر بعينه المصابة فهو بحسب والدته سيخضع لعلاج تجميلي لفترة وبعدها يقرر الأطباء إذا كان سيحتاج إلى عملية زرع عين اصطناعية.
أيمن دقدوق
أيمن دقدوق (28 عاماً) هو أيضاً واحد من الشبان الذين أصيبوا في أعينهم خلال احتجاجات نهاية الأسبوع الماضي في محيط المجلس النيابي.
أيمن ابن بلدة النبطية الجنوبية يعمل في مجال الدهان والجفصين، إلّا أن الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها لبنان حوّلته إلى عاطل عن العمل منذ سنوات. وهذا أيضاً ما دفعه إلى الالتحاق بصفوف المتظاهرين، إذ كان يشارك في التحركات في النبطية وكفرّمان، إلّا أنّ القمع ومحاولة بعض القوى السياسية المسيطرة على المنطقة إخفات صوت الانتفاضة هناك دفعه إلى التوجّه إلى التحركات التي تقام في بيروت بخاصة بعد إحراق خيم المتظاهرين في النبطية وهجوم عناصر حزبية على ثوار كفرّمان.
يروي أيمن لـ"المفكرة" تفاصيل إصابته ليل الأحد (19 كانون الثاني) قائلاً: "يوم الأحد ليلاً كانت التظاهرة سلمية إلّا أنّ قوات الأمن رمت علينا مسيلاً للدموع ما أثار غضب المتظاهرين السلميين، فبدأوا برمي الحجارة. وقفت جانباً أتحدّث مع صديقي فلمحت عنصراً أمنياً يستهدف متظاهرة ركضت صوبها وانحنيت إلى الأرض لأساعدها وفجأة شعرت بشيء أصاب عيني لا أعرف إن كان حجراً أم رصاصاً مطاطياً ونقلت إلى مستشفى أوتيل ديو".
أثار أيمن وبعد إصابته ضجة على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب انتشار صور له بلباس عسكري مقاتل في سوريا، الأمر الذي لا ينكره أيمن الذي يوضح أنه كان منضوياً في صفوف "سرايا المقاومة اللبنانيّة" ولم يكن يوماً منظماً في صفوف حزب الله. وفي حين يؤكد أيمن أنه لم يشعر يوماً بالندم على مرحلة انضمامه إلى السرايا، يؤكد أنّه حالياً ومنذ عام تقريباً خارجها ويقول: "لا أفكر بالعودة طبعاً، ولكنني لست نادماً، اتبعت قناعاتي حينها تماماً كما أتبع قناعاتي حالياً وأشارك في التحركات الاحتجاجية".
ويضيف أيمن أنّه في السياسة لا يؤيّد أي طرف بل هو مع الوطن وأنّه كمواطن لديه مطالب تحركه وتتلخّص بإسقاط نظام فاسد يقوم على الطائفية التي يعتبرها السبب الأساسي لكل مشاكل لبنان.
يأسف أيمن لعدم قدرته ورفاقه على الاعتراض بصوت عال على النظام في الجنوب، ولكنّه يؤكد بأنه لم يتلقّ أي تهديد من "حزب الله" أو "حركة أمل" وأنّه يستطيع العودة إلى النبطية مدينته التي يحبّها متى شاء، وهذا ما سيفعله عندما يتعافى.
أمّا في ما خصّ نشر البعض على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية خبراً بأنّ أمّه وأفراد عائلته رفضوا زيارته في المستشفى لأنه يشارك في الانتفاضة، فيقول: "أمي توفيت قبل أعوام ووالدي يعيش خارج لبنان، وخلافي مع عائلتي لا يرتبط أبداً بالحراك".
خرج أيمن من المستشفى وهو يتابع حالياً علاجاً سيستمر 15 يوماً وبعدها سيخضع لعملية جراحية قد تعيد إليه نظره حسب الطبيب ولكنّ الأمل في نجاحها لا يتجاوز 30%.
تكافل للعلاج
ليل السبت (19 كانون الثاني) وصل 52 جريحاً إلى مستشفى "أوتيل ديو" التي كانت قد اتخذت قراراً سابقاً بمعالجة المتظاهرين الذين يدخلون الطوارئ بسبب إصابات ناجمة عن اشتباكات مع القوى الأمنية على نفقتها في حال كانت إصاباتهم لا تستدعي المبيت في المستشفى.
ومن بين من وصل إلى "أوتيل ديو" في تلك الليلة عبد الرحمن ومهدي وكانا بحاجة إلى إجراء عملية جراحية على وجه السرعة الأمر الذي لا تتكفل به المستشفى. وهنا طلبت سيدة كانت ذهبت إلى المستشفى للاطمئنان على صحة المصابين من المستشفى المباشرة بالعمليتين متعهدة بجمع مبلغ مالي لهما ولكل من يحتاج إلى عملية من الثوار، وكانت المستشفى متعاونة جداً في هذا الخصوص كما تقول السيدة التي رفضت ذكر اسمها لـ"المفكرة".
وفي الليلة نفسها قامت السيدة بإرسال رسائل خاصة إلى أصدقائها ومعارفها وجمعت مبلغاً وضعته في حساب المستشفى ليستفيد منه كل من يحتاج إلى عملية جراحية من المصابين من المتظاهرين.
وبالتالي أجريت العمليات لعبد الرحمن ومهدي ومن ثم لأيمن والشاب الرابع اللذين أصيبا في اليوم التالي على نفقة الصندوق. فيما تكفّلت وزارة الصحة بتسديد نفقة مبيتهم في المستشفى وعلاجهم اللاحق.
وأشارت السيدة أنّه تمّ الاتفاق مع المستشفى أن يبقى الاعتماد الخاص بمعالجة المصابين من المتظاهرين مفتوحاً لاستفادة أي متظاهر يصاب لاحقاً.
هذا وبادر عدد من الأطباء إلى تقديم المساعدة المجانية ومنهم الدكتور سامر كحيل، رئيس المركز اللبناني السويسري للعيون الاصطناعية، الذي تعهد بتقديم وزراعة أعين اصطناعية لهؤلاء الشباب في حال احتاجوا إلى ذلك.
المسار القانوني
على الرغم من انتشار خبر إصابة الشبان وصورهم إلّا أنّ أية جهة معنيّة لم تحقّق معهم بشأن ما حصل حتى تتم محاسبة من تسبب بالأذى لهم.
وفي هذا السياق يقول الشبان الثلاثة الذين تحدثت إليهم "المفكرة" أنهم بدأوا بجمع الوثائق المطلوبة بالتعاون مع لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين من أجل رفع دعوى لدى القضاء المختص. ويؤكد أيمن أنه بدوره يعمل على جمع المستندات اللازمة حتى يتقدّم بدعوى قضائية ضدّ وزيرة الداخلية السابقة ريا الحسن ومدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان بالإسم.
هذا ويقوم عدد كبير من المتظاهرين بالتوقيع على عريضة موجهة لنقابة المحامين والقضاء تطالب بمحاكمة من أعطى الأمر بإطلاق الرصاص المطاطي في بيروت في 18 و19 كانون الثاني 2020 على المتظاهرين، وكل من يظهره التحقيق مسؤولاً عن إعطاء الأوامر.