في الجزء الأول[1]من هذه السلسلة، بحثاً عن العام، المجال العام، بما فيه من مكان وممارسات، لا بدّ من العودة إلى نصّ أساسي، قانون الأراضي العثماني الصادر سنة 1858. الهدف من ذلك هو تفكيك بعض المفاهيم والتعابير التي ما زلنا نستخدمها اليوم وتثبيت التعريفات فتكون – أو تصبح – مشتركة بالحدّ الأدنى. يصحّ القول إنّه ليس هناك تعريف واحد للمجال العام، ولكن بالإضافة إلى ذلك، يستخدم الناس المصطلحات حتى القانونية منها بغير معناها الأساسي، فيكسبونها بذلك معاني أخرى تتكدّس مع الوقت لتغيّر المفهوم وتجعله هجيناً ومرناً، عبر المكان والزمان. لا أتكلّم هنا عن تعبير أو متخيّل يتداوله فقط مستخدمو المساحات العامة في يومياتهم، بل يتداوله أيضاً الخبراء والموظفون العامّون والمشرّعون والمعنيّون المباشرون بإدارة الأراضي. فالبعض يرى أن “الميري” و” العام” مرادفان، أو “الميري” هو البعيد عن السكن، و”المشاع” هو ليس لأحد …إلخ.
وهذا الطّرس (palimpsest) ليس مستغرباً. بالإضافة إلى كون معظم القوانين المتعلقة بإدارة الأراضي في لبنان ترتكز مفاهيمها على القانون العثماني. فالمجال العام هو مفهوم مركّب ينبثق عن السياسات العامة والقوانين والممارسات الاجتماعيّة فضلا عن أمور أخرى. وعليه، من المهمّ فكفكته وفهم تحوّلاته عوضاً عن تسطيحه. وتحمل كلمة الطرس أبعادًا مكانية وزمانية، ممّا يجعلها مقاربة مناسبة لفهم قوانين ملكية الأراضي. فتلك الأخيرة هي بالنهاية أطر مؤسسية تحكم علاقات الناس بالأرض، ولكن أيضاً ببعضهم البعض. يرسم هذا الإطار شكل السلطة التي يتمتع بها أحدهم على الآخر أو على ‘الملكية’ نفسها[2]. كل تعديل للقوانين، إن كان في النص نفسه، أو كيفية فهمه وتفسير الثغرات فيه، هو لحظة زمنية تثبَّت فيها سلطة القوي فيحقق منها مكاسب مباشرة حينها أو يضمنها للمستقبل، وتعيد تشكيل المجال كما العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ضمن المجتمع.
من هنا أهمية تحليل القانون وتطوراته كنص وإنّما أيضاً المفاهيم التي يحملها. هذا هو هدف الجزء الأول من هذه السلسلة. إذاً، هي ليست مطالعة قانونية بحتة، إنما فهم لإطار وضع القانون ومتابعة تحوّلاته اللاحقة من منظار سياسي اجتماعي تاريخي. من المهم تبيان مقاربة العثمانيين لإدارة أملاك الدولة وفهم معاني العام بين “الأميري” و”المتروك” في صيغتها الأولية وكيفية تطويرها على أساس واقع وحاجات محدّدة، في وقت محدّد. فيسعنا بعدها تحديد كيف تم تشويهها ثم تثبيتها منقوصة في قانون الملكية العقارية 3339 صادر في سنة 1930، والذي أقل ما يقال عنه أنه غير واضح لا بل منكّل به. نستكمل القراءة والمقارنة مع القانون الفرنسي (3339/1930) في الجزء المقبل.
ظروف وضع قانون الأراضي العثماني عام 1858
قبل التنظيمات[3]، كانت إدارة الأراضي العثمانية مبنية على الشريعة والفقه. فلم يكن هناك قانون خاص موحّد ومفصّل لإدارة الأراضي. بالمجمل، كانت الأراضي مقسّمة إلى ثلاث فئات حسب ملكيتها واستخداماتها[4]: 1) الأراضي التابعة للدولة والتي كانت تغطّي معظم الأماكن التي تغزوها السلطنة وتضمها لبيت المال، 2) الأراضي الملك والتي كانت استثناءً وهي تضم المناطق المأهولة والعشرية أي التي كان يسدّد أصحابها عشر محصولهم للدولة مقابل ملكيتها، وأخيراً 3) الأراضي الوقف.
ويعتبر العديد من الباحثين المتخصصين بتاريخ السّلطنة العثمانيّة مثال كربات وبرقان واينالجيك أنّ قانون الأراضي لعام 1858 هو علامة فارقة في التاريخ الاجتماعي للسّلطنة. فهو لم يكن فقط أداة إدارة مالية، ولكنه أثّر على التقسيم الطبقي الاجتماعي[5]، الأمر الذي بقيت مفاعيله طويلاً بعد القانون نفسه. أتى هذا القانون ضمن التنظيمات وكان أحد أهدافه زيادة مدخول الدولة من الضرائب لتمويل الجيش والحرب. كما سعت الدولة إلى تأكيد سيطرتها مجدّداً على الأرض بحيث كانت ترتكز على طبقة من الوسطاء الملتزمين لتحصيل الضرائب. كانت هذه الطريقة فعالة بحيث أنّها مكّنت الدولة من السيطرة على القسم الأكبر من السكان، أي الفلاحين، والأرض بطريقة غير مباشرة. فقد كان حقّ ملكية الأرض، أي رقبة الأرض للدولة، بينما كان للفلاح حق التصرّف أو الانتفاع الذي يديره الملتزم. لا يستطيع الفلاح تقسيم الأرض أو بيعها، أو التخلي عن زراعتها، أو تركها. وقد كانت طبقة الوسطاء هذه تتخذ قوة دوماً على حساب الدولة بحكم صلاحيتها فرض وجباية الضرائب. فكان من الضروري أن تبقى الأرض مزروعة لأنّ الضريبة كانت على أساس الإيرادات الفعلية.
في قانون 1858، شدّدت الدولة مجدّداً على أنّ أيّة أراضي يتمّ التصرف بها من قبل “أصحاب التيمار والزعامات والملتزمين والمحصّلين” (أي جميع الوسطاء) هي أراضي تبقى رقبتها للدولة وهم متصرّفين عليها بإذن منها يدوّن على شكل سند يسمّى طابو. وقد كانت الدولة قد نظّمت لذلك سنة 1847 مؤسسة لقيود السجلات تسمّى الدفترخانة. يتكوّن القانون من 132 مادّة. من المهم اليوم الرجوع إليه لأن قانون الملكية العقارية 1930 لم يكن انتاجاً فرنسيّاً بحتاً، بل أعاد تدوير القانون العثماني وأضاف إليه. لكن على عكس قانون الملكية العقارية النافذ، يخصّص القانون العثماني باباً كاملاً لكل نوع من أنواع الأراضي ليشرح أحكام بيانها والتصرّف بها. يضم مواد عديدة تفصّل حقوق المتصرّف عمليّاً وقضائيّاً (القسمة والزراعة وحقوق الاستعمال والاعتراض والفراغ والانتقال والإجارة والضريبة، الخ) كما دور مأمور الأراضي في إدارتها.
قانون الأراضي 1858: الملك لله، والعامّ للدولة
يبدأ القانون بتقسيم الأراضي الكائنة في “ممالك الدولة العليّة” إلى خمسة أقسام: المملوكة، الموقوفة، المتروكة، الموات والأميرية.
1- يفصّل القانون أنّ الأراضي المملوكة هي أربعة أنواع بقيت شبيهة إلى حد ما بتقسيم الأراضي بعد الفتح الإسلامي: الأراضي المعدّة للبناء في القرى والمدن والتي هي امتداد للسكن ولا تتجاوز النصف دونم، الأراضي التي كانت أميرية جرى تمليكها ملكاً صحيحاً، الأراضي العشرية وهي التي جرى تمليكها خلال “الفتح”، والأراضي الخراجية وهي التي بقيت “بيد السكان الأصليين غير المسلمين”. والأراضي الخراجية أيضاً نوعان: الأراضي التي خراجها (أي ما يُدفع عليها كجزية أو ضريبة) هو من محصولها (من العشر وحتى النصف)، والثانية هي تلك التي يترتب عليها مبلغ مقطوع.
يحدّد القانون أنّ رقبة هذه الأراضي هي لصاحبها وهو بالتالي “مالكها” وله أن يورثها أو يوقفها، أو يرهنها، أو يهبها، أو يتفرّغ عنها. ذلك باستثناء الأراضي العشرية والخراجية التي تعود رقبتها إلى الدولة في حال وفاة صاحبها فتكتسب حكم الأراضي الأميرية. أَتبع المشرّع العثماني حينها أحكام ومعاملات الأراضي المملوكة للفقه ولم يغطِّها في هذا القانون[6] الذي ركّز فيه على أراضي الدولة. لكن نلاحظ أنّه لم يكتفِ بتعبير مملوكة أو خاصة، بل أبقى على فصل الملكية بين حق رقبة وحق تصرّف، ولحظ أشكال توزيعهما وفصلهما أو جمعهما حسب الحالة.
2- بما يخص القسم الثاني، الوقف، لم يرَ المشرّع ضرورة تعريفه، ولكنّه حدّد أنّه كان من المفروض أن يجري الوقف فقط على الأراضي المملوكة لكي يكون صحيحاً فيتبع أحكام الفقه. إنّما كانت الحال أنّ الكثير من السلاطين أوقفوا أراضي أميرية فسمّاها القانون أوقافاً غير صحيحة وأبقاها برعاية أحكام قانون الأراضي نفسه. يذكر القانون أن أكثرية الأوقاف هي من النوع غير الصحيح أي محكومة بهذا القانون. لكن منع أن توقف مجدّداً الأرض الأميرية ما لم تصبح خاصة (أي “مملوكة تملّكاً صحيحاً”).
3- أمّا الأراضي المتروكة فهي أيضاً قسمان: المتروكة لعموم أهالي الناس كالطريق العام وتلك التي تُركت وخُصِّصت لعموم أهالي قرية أو عدّة قرى (متروكة مخصصة). هي ليست متروكة بمعنى أنه تم التخلي عنها، بل تُركت لمنفعة الأهالي. نرى هنا أن القانون العثماني ربط نوع الحق على الأرض باستعمالاتها. فبدل أن يحدد ويرسّم جغرافياً أين هي الأراضي المتروكة، ضمّ فيها الأحراج والغابات والمراعي وأعطى حقّ الانتفاع من حطبها أو عشبها لأهالي القرى المحدّدة على أن تكون رقبة هذه الأراضي للدولة. وقد منع تصرّف الأفراد بقسم من هذه الأراضي لغاياتهم ومصالحهم المنفردة، ولا حتى للزراعة.
في القانون ايضاً مادة خاصّة للحظ منع البناء أو الغرس أو أي نوع تصرف في “الطريق العام”. ويشمل معها ما يسميه الساحات المتروكة المستخدمة لتجمّع الحيوانات أو للصلاة. يضيف الأسواق كمحلات متروكة مخصصة لكن مسجلة في الدفترخانة كونها خاضعة لضريبة دون أن يجري عليها حق تصرف لأفراد. وقد فصّل القانون مادّة لكل نوع استعمال أرض متروكة، حتى لو كانت الحقوق عليها متشابهة (كالبيدر لدرس الحبوب، السوق، مرعى الصيف، مرعى الشتاء). هي جميعها أراضٍ مملوكة من الدولة لا يجري عليها سند تصرّف مستقل، ولكن مخصصة لأهالي قرية محدّدة. الأراضي المتروكة “لا تؤخذ ولا تباع” و “لا اعتبار لمرور الزمان عليها في الدعاوي”.
هنا المجال العام. على أنواعه. الطرقات والساحات والسوق، وفسحات العبادة، والغابات، والمراعي. موجود ومحدّد حسب استخداماته أي معناه العملي المادّي اليومي للسكان. لا ندين للانتداب الفرنسي بإدخاله لا في ممارساتنا ولا في القانون. لكن بحكم المقاربة المختلفة للأرض، يجزم بعض الفرنسيين الذين درسوا القانون كما الذين عملوا عليه فترة الانتداب أنه لم يكن هناك أي نص لإدارة المجال العام[7] في ظل الدولة العثمانية. في حين أن قانون الأراضي هذا بمجمله، وليس فقط هذه الفقرة، هو قانون المجال العام، مجال الدولة.
4- الأراضي الموات هي المحلات الخالية البعيدة بدرجة لا تُسمع بها “صيحة شخص ذي الصوت الجهير من أقصى العمران” أي تبعد “مسافة ميل ونصف أي مقدار نصف ساعة”. لا تصرّف عليها ولا هي متروكة ولا مخصّصة للأهالي. دَمَج الفرنسيون في قانونهم تحت تعريف واحد الأراضي الخالية المباحة والموات فأصبحنا اليوم نستخدمها وكأنّها مرادفات. لكن في أساسها، هناك فروقات أتت كل كلمة خصيصاً للتعبير عنها، فهذه التسميات ناتجة عن منطق محدّد للتعامل مع الأراضي غير المستخدمة أو غير القابلة لذلك. فضمن الأراضي الموات، نجد أولاً فئة الأراضي الخالية والمحجرة، وهي أيضاً محدّدة حسب غطائها: التلال الصغيرة، وأحراج البلان والعشب البعيدة غير المخصصة سابقاً لقرية. سمح القانون بإذن من المأمور لأي شخص أن يزرع في هذه الأراضي شرط أن تبقى رقبتها للدولة وتصبح تابعة لأحكام الأراضي المزروعة مع سند طابو. هذه الأراضي هي إذاً قابلة للإحياء. أما الفئة الثانية من الموات فهي الجبال المباحة وهي ملحوظة تمييزًا عن الجبال التي فيها غابات مخصصة لقرى (أي متروكة). يُسمح التمتع بحطب الجبال المباحة لأي كان دون سند طابو فتبقى متاحة للجميع. اذاً، ليست جميع الأراضي الموات قابلة للإحياء. وليست جميعها خالية ولا مباحة.
5- نوع الأراضي الأخير والأهم هو الأراضي الأميرية. هي “ما كان عائداً إلى بيت المال من المَزارع والمراعي والمسارح والمشاتي والمحاطب وأمثال ذلك من الأراضي” وكان يجري التصرف عليها سابقاً “بإذن وتفويض أصحاب التيمار والزعامة الذين كانوا يُعتبرون أصحاب الأراضي، وبعض الأحيان بالإذن والتفويض من الملتزمين والمحصلين”. يذكر القانون أن ذلك أُلغي وأصبح التصرف يجري بإذن وتفويض المأمور مقابل سندات طابو مختومة، بموجبها يجري استيفاء الضريبة. إذاً، كان الملتزمون مسؤولين عن إدارة حقوق التصرف وجباية الضرائب، ولم يكونوا مالكين للأرض بالقانون.
هنا أيضاً، نرى وصف الأراضي الأميرية هو تبعاً لاستخدامها. فقد شدّد القانون على إلزامية زراعة كل الأراضي الأميرية القابلة لذلك لكن فرض ضريبة إضافية على زراعة الأشجار المثمرة والكروم مفضّلاً الحبوب، فالفواكه لا تُطعم الجيوش. حتى البناء المطلوب لخدمة النشاطات الزراعية كان ممنوعاً من دون إذن المأمور. أما بناء السكن فكان حتى يتطلب مرسوم إمبراطوري ولا يكفي إذن من المأمور المحلي. سنتوسّع هنا قليلاً حول مفهوم الأميري وحق التصرف بحيث ما زال اليوم مصدر خلافات ومد وجزر وتفسيرات مختلفة تأتي مع مطالبات أو ادّعاءات بالأحقية من مختلف الأطراف والفاعلين.
رسم يلَخّص تقسيم أنواع الأراضي قبل وبعد عام 1858 [8]
الأرض الأميرية وحق التصرّف
يُنظر اليوم إلى حقّ التصرف على أنّه انتقاص من حقّ الملكية الكامل. لكن حتى بداية القرن العشرين، كان تحويل أرض أميرية إلى ملك استثناءً. من خلال حق التصرف أُتيح للناس الوصول للأرض، أرض الدولة، تحديداً وليس من خلال التمليك. فكان هدف قانون الأراضي هذا هو تنظيم وتفصيل حق التصرّف على الأراضي التي رقبتها للدولة، وهي القاعدة لاستعمال الأرض من قِبل الأفراد أو الجماعات. كان قد ثُبّت العديد من أطر إدارة هذه الأراضي في قوانين سابقة عامي 1847 و1849 [9]. سنركّز على نقطتين مهمتين في هذا الشأن.
كانت حقوق التصرف على الأرض الأميرية تُعطى فقط للأفراد كلّ “على حدة” وليس لمجموعة كالأراضي المتروكة. فيبيّن لنا القانون هنا أن العثمانيين أولوا أهمية عالية جدّاً للإنتاج الزراعي وما تؤمّنه من مدخول للدولة ولذلك تحديداً أبقوا على ملكيتها للدولة، عكس منطق الفرنسيين تماماً الذين اعتبروا أن الملكية الخاصة هي التي سوف تزيد الإنتاجية. سمح القانون قسمة الأراضي المزروعة بالاشتراك إذا كان إفراز الأرض ممكناً، ولكن لم يمنع بالمقابل أن تبقى مزروعة بوجه الاشتراك عند استعصاء القسمة، كمحاولات الفرنسيين إلغاء وحتى تجريم المشاعات. أساء بعض الباحثين الفرنسيين فهم عدة مواد من القانون العثماني في هذا السياق. فيقول كاردون[10] مثلاً أن القانون في مادته الثامنة منع الملكية المشتركة للأرض، الأمر الذي تعارض مع العادات المحلية في بلاد الشام وخاصة مع عادات الرحّل. لكن هذه الخلاصة منقوصة حيث إنّ القانون لم يحدّ الملكية المشتركة على الأراضي الزراعية فحسب، إنما حدّ من جميع أنواع الملكية، فردية كانت أم جماعية\مشتركة. بالمقابل، طوّر وشرّع توزيع حقوق التصرف التي أُعطيت للأفراد على الأرض الأميرية كما للجماعات على الأراضي المتروكة. هذا التفريق أساسي في فهم إطار إدارة الأراضي العثماني، ويبقى مهمّاً اليوم نظراً لما يحدث من تشويش بالتفريق بين حقوق الملكية والرقبة والتصرف. أضاف العثمانيون أيضاً أحكاماً وشروطاً لضمان الإنتاجية. مثلاً، إذا بقيت الأرض غير مزروعة ثلاث سنوات دون عذر يُسحب حق التصرف (تصبح “مستحقّة الطابو”) ويُعطى لفلاح آخر. استثني العسكر من هذا الشرط إذا تركوا أراضيهم خلال الخدمة، ولكن ليس المهاجرين أو تحديداً من “يترك الديار بلا عذر” لثلاث سنوات أو أكثر. لم يتمّ تحديد ما هو العذر الصحيح أو المقبول في النصّ. أبقى الفرنسيون على هذه المادة في القانون الحالي مع مهلة خمس سنوات للسبب عينه. لكن، مع كيفية فهم وإدارة الأراضي الأميرية اليوم هذه المادة عملياً هي بلا جدوى، ولم تنفّذ يوماً بجميع الأحوال.
النقطة الثانية المهمة هي أنّ من خلال قانون الأراضي، ترك المشرّع للفقه أن يبتّ في الملك الخاص وأبرم إطاراً مدنيّاً لإدارة أراضي الدولة خارج نطاق نفوذ رجال الدين. فيفصّل القانون كيفية شروط حيازة حق التصرف على الأرض الأميرية، الفراغ عنه، وانتقاله إذا توفي حامله. بحكم أن المشرّع اعتبر الأراضي الأميرية أراضي دولة فهي خاضعة لقانون الأراضي المدني وليس للفقه، نصّ على انتقال حق التصرف بالتساوي بين الذكور والإناث، عكس الأراضي المملوكة التي ما زالت حتى اليوم في ظل غياب قانون مدني للأحوال الشخصية تُورّث من دون مساواة بين الجنسين حسب الطائفة. كان هذا الأمر قد أصبح نافذاً منذ عام 1847 ضمن قانون مخصّص للأراضي الأميرية وإدارة الطابو[11]. بالمقابل، طُوّرت في لبنان تباعاً منذ عام 1926 قوانين الإرث لجميع الطوائف وآخرها ل”غير المحمديين” في عام 1959، عوضاً عن إرساء قانون أحوال شخصية مدني للجميع، بعد أن كانت كلّها تتبع المذهب الحنفي أيّام الدولة العثمانية. هكذا، بقي انتقال الأملاك الخاصة خاضعاً لسلطة وقوانين الطوائف وبقي انتقال حق التصرف على الأراضي الأميرية بالتساوي قائماً، ولو على الورق[12]، يذكرنا بلحظة قررت الدولة العثمانية إدارة أراضيها – أي أملاكها العامة – بعيداً عن رجال الدين. للتحديد، وحسب القانون، انها ليست ملكية الأرض الأميرية التي تنتقل بالتساوي، انما حق التصرف عليها. رقبة الأرض تبقى للدولة.
خلاصات
هدف قانون الأراضي العثماني إلى إعادة إرساء ملكية الدولة لأراضيها من خلال إطار مدني، أتى ضمن سياسات أوسع سعت لإعادة تقوية السّلطة المركزية. لكن لم تتحقق أهداف الدولة العثمانية من هذا القانون، لا بل مهّد لأول عمليات خصخصة لأراضٍ في المنطقة. فسلطة الدولة على مجالها قد ضعفت حكماً مع ضعف الدولة؛ خفتت سلطة العام على الأرض. واستفاد الوسطاء مجدّداً من تعديلات القانون في لحظة ضعف الدولة ليحوّلوا العام إلى خاص. في بداية القرن العشرين، كانت قد أصبحت الحرب على الأبواب، وقوّة الامبراطورية تخفت، والحاجة لمال أكثر وبسرعة تتصاعد. أجرى العثمانيون تعديلات عديدة على هذا قانون 1858 خاصة عامي 1912-1913 ساهمت في تزايد التماهي بين الأراضي الأميرية والمملوكة وإضعاف سلطة الدولة على الأراضي الأميرية. لكن لم يتسنّ لهم تطبيقها خاصّة في أطراف السلطنة، فأتى الفرنسيون ليثبّتوها ويضيفوا عليها.
تطبيق هذا القانون كان بالأساس مسعىً طموحاً جدّاً. فكانت الدولة تفتقر حتى إلى الموظفين للقيام بذلك على كامل أراضي الإمبراطورية. يضيف كربات أن فشل القانون في تحقيق أهدافه يمكن أن يعزى إلى انعدام ضمير البعض عند إثبات ملكية الأراضي وتسجيلها على أنها ملك لهم حسب أدلة ملتوية، وسوء حالة السجلات، والخوف من التجنيد الإجباري بعد التسجيل[13].
لم نراجع هذا القانون بهدف تقييم نتائجه المباشرة حينها. فبطبيعة الحال، النص لا يعبّر عن كامل الواقع الاجتماعي السياسي في المنطقة خاصّة في فترة 1840-1920 الحافلة. لكن كما رأينا، يطلعنا النصّ على وجود المجال العام والأهمية المعطاة لأراضي الدولة وتنظيمها من خلال حقوق التصرّف. بالتالي، كان نوع الأرض والحقوق عليها، أي قدرة الناس الوصول إليها، مربوطاً مباشرةً باستخدامها وليس بملكيتها.
والقانون حمّال وولّاد للتوترات والمشاكل. فمفسّروه، من موظفين عامّين إلى مسّاحين ومحامين وسياسيين، استخدموه كالعجينة عمداً أو عن قلّة معرفة، فاتّخذ أشكالاً مختلفة في التطبيق حسب تطويع المصالح له. منذ القرن التاسع عشر، فهم الملتزم “المقاطعجي” الفرق بين الأميري والملك جيّداً فعمد إلى تثبيت حقه في الملكية مستخدماً سلطته. اليوم، ما زال القانون يُدار كشيء مطاط دون فهم جوهره. عند الحاجة، يتم تفسيره خارج الزمان وكأنه جامد أو حتى مُنزل، بينما يتم إكساب معانٍ مختلفة لكل فئة من الأراضي بالرجوع إلى المتخيّل التاريخي. فنشأ هذا الطرس المشوّه الذي أنتج اليوم مثلاً في السجلات أراضي أميرية جمهورية، وأراضي أميرية خاصة، وأراضي أميرية مشاع، وأراضي متروكة ملك، وغيرها. سنغوص في الأسباب التي أنتجت هكذا ترتيبات غريبة في جزء لاحق، ونركّز على شخصيات الرواية من المشرّع إلى المسّاح وغيرهم، وكيف تعاملوا مع النصوص ومع الأرض.
ولكن قبل ذلك، يجب فهم ما حصل بين قانوني 1858 و1930 ومقاربة الفرنسيين لإدارة الأراضي في لبنان وسوريا. فهي بعيدة عمّا يمكن أن يسمّى بالتحديث، كما يصف البعض مساعي الانتداب. بل كان إدارة مجزّأة لواقع أكثر تعقيداً ممّا كانوا يتصورون. في هذه النقلة بين القانونين نجد أبرز أسباب عدم وضوح القانون الحالي، إنّما أيضاً نجد تحوّل الأرض إلى “ملكية عقارية”. لذا من المهم إجراء مقارنة دقيقة لعملية التحول هذه، موضوع الجزء المقبل.
[1] هذا المقال هو واحد من سلسلة بعدّة أجزاء، تحمل عنوان “بحثاً عن العام”، محاولة لفهم التطور التاريخي، القانوني، الاجتماعي والسياسي للمجال العام في لبنان. إنّ التحاليل والنتائج الواردة في هذه السلسلة مبنية على بحث لأطروحة الدكتوراه التي أعدّها منذ 2020 في معهد باريس للعلوم السياسية Sciences Po .
[2] Davies, M. (2007). Property: Meanings, Histories, Theories. Routledge Cavendish.
[3] التعديلات والإصلاحات في حكم وإدارة الدولة العثمانية في أول عهد السلطان عبد المجيد الأول سنة 1839، امتدّت لعقود وتضمنت عدة قوانين ومراسيم هدفت إلى تقوية مركزية الدولة ورفع مداخيلها.
[4] Ziadeh, F. J. (1993). Property Rights in the Middle East: From Traditional Law to Modern Codes. Arab Law Quarterly, 8(1), 3–12. https://doi.org/10.2307/3381489
[5] Karpat, K. H. (2002). The Land Regime, Social Structure, and Modernization in the Ottoman Empire. In Studies on Ottoman Social and Political History (pp. 327–351). Brill. https://doi.org/10.1163/9789047400899_016
[7] Cardon, L. (1932). Le régime de la propriété foncière en Syrie et au Liban. Université de Paris – Faculté de droit et des sciences économiques.
[8] مقتبس ومترجم من سماحه، ب. (2021) الملك العام و”رقبة” الدولة المستباحة. ندوة في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى. بيروت و Samaha, P. (2022). Land as a Cash Machine: The case of Lebanon. GLTN’s Arab Land Initiative
[9] Mundy, M. & Smith, R. S. (2007). Governing Property, Making the Modern State: Law, Administration and Production in Ottoman Syria. Bloomsbury Academic
[10] Cardon, L. (1932). Le régime de la propriété foncière en Syrie et au Liban. Université de Paris – Faculté de droit et des sciences économiques.
[11] Mundy, M. & Smith, R. S. (2007). Governing Property, Making the Modern State: Law, Administration and Production in Ottoman Syria. Bloomsbury Academic.
[12] غالباً ما يتم تجاوز هذا الأمر من خلال التنازل أو بيع حصص النساء للرجال بالتراضي قبل وفاة صاحب حقّ التصرّف
[13] Karpat, K. H. (2002). The Land Regime, Social Structure, and Modernization in the Ottoman Empire. In Studies on Ottoman Social and Political History (pp. 327–351). Brill. https://doi.org/10.1163/9789047400899_016
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.