“
على بُعد ليلة من التئام الجمعية العمومية لنقابة المحامين في بيروت لانتخاب أربعة أعضاء من بينهم نقيب للمحامين، تداعى حشد من المحامين والمحاميات إلى قصر العدل ووقفوا وقفة احتجاجية ظهر الجمعة. وهدفت الوقفة إلى الاحتجاج على غياب النقابة عن مواكبة الأحداث في البلاد، وإلى السعي لتشجيع الزملاء المحامين إلى الاقتراع نهار الأحد للمرشحين المستقلين لمساندة الشعب اللبناني الذي ينتفض منذ شهر ضد أحزاب السلطة. فلبس المحامين والمحاميات رواب المحاماة خلال تنفيذ الوقفة، وهو ما يُمثل حالة احتجاج على مستوى عالي بالنسبة لهم، إذ كان نقيب المحامين أندريه الشدياق قد حذر في تعميم سابق حذر فيه من مغبة مخالفة الآداب المهنية، لجهة ارتداء روب المحامين في التظاهرات من دون إذن مسبق منه. وهو ليس التحرك الأول للمحامين في هذه الانتفاضة بمعزل عن نقابتهم، إذ سبقها مسيرة نفذت في رياض الصلح بتاريخ 26 تشرين الأول.
وأثناء تنفيذ الوقفة في باحة قصر العدل في بيروت، كان عشرات المتظاهرين يقفون خارجاً احتجاجاً على إخفاء متظاهرَين خلال احتجاج على جسر الرينغ سامر مازح وعلي بصل. وبمرور نحو نصف ساعة من الوقت انضم المحامين إلى المتظاهرين خارج قصر العدل لمساندتهم ودعم مطلبهم بإطلاق سراح الموقوفين (أُطلق سراحهم من فصيلة الجميزة عصر الجمعة).
وتأتي وقفة المحاماة هذه قُبيل يومين من موعد انتخاب نقابة المحامين في بيروت المقرر عقدها نهار الأحد 17 تشرين الثاني 2019. ويأمل المحامين أن ينتج عن الانتخابات، خرق المرشحين المستقلين للمجلس النقابي الذي يُسيطر عليه منتمون إلى أحزاب السلطة. وهذه الأحزاب كما في السلطات التنفيذية والتشريعية، أثبتت فشلها في النقابات طوال عقود من الزمن، وفشلت في الحفاظ على دور نقابة المحامين في حماية الحريات ومساندة العدالة على حساب الحفاظ على مكتسباتها. لذا، وفي خضم الانتفاضة الشعبية أعلن، العديد من الحقوقيين من بينهم جمعية المفكرة القانونية، ومجموعات من المحامين، تأييد انتخاب المرشحين المستقلين على أربعة مقاعد في عضوية مجلس النقابة وعلى مركز النقيب.
ويزيد من أرجحية فوز مرشحين مستقلين هو ما لم يكن بحسبان الجسم النقابي هذا الموسم من الانتخابات، هو أن تندلع انتفاضة شعبية على طول الوطن بوجه كافة الأحزاب السياسية. وأثبتت الانتفاضة تأثيرها على المرشحين المحسوبين على الأحزاب، إذ يُلحظ أنه على خلاف العادة في المواسم الانتخابية السابقة خفوت الحملات الانتخابية وتراجع مستويات الترويج للمرشحين المتحزبين أو المدعومين من الأحزاب. إذ يلتفت أكثر من محام تحدث إلى المفكرة إلى أنه في الانتخابات الماضية لم تهدأ الاتصالات والرسائل التي تُرغب المحامين بانتخاب مرشحين محددين، وكان يحصل جهاراً الإعلان عن الدعم الحزبي للمرشحين. أما الحملات الانتخابية هذا العام، تبدو متراجعة، ما يُفسره كُثر من المحامين أن المرشحين الحزبيين محرجين من الإعلان عن الأحزاب التي تدعمهم.
وكانت المفكرة القانونية قد أصدرت بياناً في 13 تشرين الثاني، اعتبرت فيه أنه على الرغم من أهمية الانتفاضة الشعبية غير المسبوقة التي تشهدها البلاد إلا أنه “يسّجل غياب لافت لنقابة المحامين في بيروت عن مواكبة الأحداث، وكأن النقابة أم الحريات تخلّت عن مسؤولياتها في ممارسة دورها الوطني”. واعتبرت أن “مرّد ذلك سيطرة احزاب السلطة على القرار النقابي”. وفيما اقترب موعد الانتخابات النقابية نهار 17 تشرين الثاني والذي يُصادف كونه ذكرى مرور شهر على بدء الانتفاضة الشعبية، اعتبرت المفكرة بأن “الشعب الثائر ضد السلطة الفاسدة وأحزابها حاملاً شعار كلن يعني كلن، ينتظر من المحاميات والمحامين المستقلين نقل نبض ثورته الى نقابتنا لتعود رأس الحربة في مكافحة الفساد وضمان الحقوق الأساسية للمواطنين وفرض قانون استقلالية السلطة القضائية. لذا، دعت المفكرة المحامون والمحاميات التعبير عن موقفهم المعترض في صناديق الاقتراع من خلال المشاركة الكثيفة يوم الانتخاب. بالإضافة إلى عدم التصويت لأي من المرشحات والمرشحين التابعين لأحزاب السلطة أو المدعومين منها.
قضية استراحة صور: النقيب يسترد تكليف المحامين دون مبرر
والحقيقة أنه للمحامين دوافع عدة تستدعي الوقوف بوجه نقابتهم، التي يعتبرونها غائبة عما يحصل في البلاد، وبعدما اقتصر موقفها على مجرد بيان اقتضى انتظار زهاء أسبوع لتعلن عنه في الأول في 24 تشرين الأول. وكان قد بدى من البيان أنه تجميعا لمواقف مترددة أو حتى متناقضة. ففيما أيد البيان مطالب الحراك، فإنه أيد أيضا بعض ما جاء في ورقة الإصلاحات التي أصدرتها الحكومة اللبنانية وحذر من مغبة المس برئاسة الجمهورية (العهد) وأشاد بالدور الذي تؤديه القوى الأمنية وبالجيش.
وكان تصرف النقابة الأخير تجاه تكليف محامين للدفاع عن الموقوفين في قضية “حرق استراحة صور” مستغرباً، إذ وافق النقيب بداية على تكليف مجموعة من المحامين بناء على اقتراح لجنة المعونة القضائية في النقابة للدفاع عن الموقوفين، وحينما توجه المحامون إلى قصر العدل في صيدا لحضور الجلسة أمام قاضي التحقيق بعد 24 ساعة من صدور التكليف، فوجئوا المحامون باسترداد تكليفهم، وبالمقابل تكليف محامين آخرين غيرهم في القضية دون النزول عند رغبة المدعى عليهم. وإذ برر عضو لجنة المعونة القضائية المحامي ماجد دمشقية التراجع عن التكليف بأن “التكليف استُغل للظهور الإعلامي وإطلاق المواقف الإعلامية”، خشي البعض بأن يكون تصرف النقيب ناتج عن ضغوطات سياسية.
ويظهر أن “لجنة الدفاع عن المتظاهرين” لم تقتنع بكلام دمشقية إذ اعتبرت في بيان استنكار لاسترداد التكليف أنه “مُخالِف لقواعد مناقبية المهنة، ومُنعدِم الوجود لأنه أشبه بالعزل الفُجائي المُهين غير المبُرَّر وذي الطابع التعسفي والمخل باستقلاليتهم”.
وشرح البيان بأن ما حصل هو “غير مشروع، وحصل دون أي سند قانوني أو نظامي، … ويُشكِّل سابقة خطيرة، وكما يؤكِّد أحقية المطالبة المُلحَّة باستقلالية السلطة القضائية لتحصينها من الضغوط التي تُمارِسها السلطة السياسية، ولعله بات لِزاماً المُطالَبة بالمِثْل لتكريس استقلالية نقابات المهن الحرة والاتحادات العمالية عن سائر التدخُّلات”.
وفي مقابل هذه الأساليب التي تستخدمها النقابة بوجه المحامين المنخرطين في الشأن العام، تجدها تصمت عن انتهاكات بالجملة تحدث أمامها. والحال أن الانتهاكات التي تصمت عنها “نقابة الحريات والقوانين” في بيروت، تبدأ مما ترتكبه الأجهزة الأمنية لناحية التعامل مع المتظاهرين والتوقيفات غير المبررة، وخروج عشرات الموقوفين من الاحتجاز وعلى أجسادهم آثار تعذيب، عدا عن صمتها أمام الانتهاكات التي ترتكبها هذه الأجهزة خلال فض الاعتصامات أو فتح الطرقات. وصمت النقابة بالنسبة للمحامين هو فضيحة، خاصة وأن الأجهزة الأمنية وقضاة النيابة العامة ينتهكون أيضاً المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تضمن للموقوف حق الاتصال بأحد أفراد عائلته وتوكيل محام والخضوع لكشف طبيب. هذه الانتهاكات القانونية ترصدها “لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين” التي تشكلت من قبل محامين بمعزل عن النقابة خلال حراك 2015 وأُعيد تفعليها خلال الانتفاضة في 17 تشرين الأول 2019، وترصد اللجنة أيضاً الانتهاكات التي يُمارسها أصحاب مؤسسات بحق عمالها، مثل حالات صرف بحق المشاركين بالتظاهرات أو خصم من الرواتب تذرعاً بالحالة الاقتصادية.
ويحصل انتهاكات أخرى ترتكبها المصارف بحق عملائها عبر سحب عمولة غير قانونية من ودائعهم، وانتهاكات دستورية يرتكبها مجلس النواب من خلال تعيين جلسة نيابية نهار الثلاثاء الآتي لتشريع عدة قوانين، مع العلم أن الدورة الحالية والتي بدأت في 22 تشرين الأول 2019 مخصصة حصراً للبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل كل عمل آخر وفق المادة 32 من الدستور.
“