“
من منزله المطل مباشرة على بحر الهري “الأجمل” في لبنان، كما يصفه أهلها، يشير مختار البلدة إلى الشاطئ لجهة اليمين: هناك باع والده في الخمسينات قطعة أرض بمساحة 2700 متر مربع لكي تقبل شركة الترابة اللبنانية “هولسيم” توظيف شقيقه. اشترت الشركة الأرض ب “تراب المصاري”، وفق ما يؤكد، ووظفت “بديع” شقيقه. مع الوقت مات بديع بالسرطان، و”راحت الأرض”. مؤخراً، سعى إبن بديع للعمل في الشركة، لكن الأخيرة “عادت وطردته”. تكاد هذه القصة تمثل بشكل كاريكاتوري وضع الهري مع شركة “هولسيم” وفق ما سمعناه من أهاليها.
وقبل إعطاء شهادات هؤلاء وشكاويهم، يذكر أن هولسيم تنبسط على جزء كبير من الهري، بمساحة لا تقل عن مئة ألف متر مربع كمنشآت وليس كأملاك. ولها فيها مرفأ هولسيم الذي هو الأكبر في المنطقة بين أربعة مرافئ أخرى (السبع والصيادين وفلوريدا بيتش وجواد عدرا). وهي إذ بنت شركة الترابة الأقدم في لبنان معملها الجديد في كفريا، جارة الهري، فإنها أبقت على منشآتها القديمة في الهري وبعض مخازنها ومعداتها وطبعا مراحل العمل الصناعي.
السياسة لوثت، والسياسة سرقت منا الوظائف
في المبنى العائلي الذي يسكن فيه مختار الهري منجد صالح طبقته الأولى، ضرب السرطان أربعة أشخاص من البيت نفسه: زوجة المختار الأولى “ماتت خطَيْ (عبارة تستخدم في شمال لبنان للتأسف) بالسرطان”، تاركة له خمسة أبناء يربيهم، وشقيقه الثاني، وهناك امرأة أخرى من العائلة ضربها سرطان الثدي و”لكنها لا ترغب بالحديث عن الموضوع”، يقول. ويشير المختار إلى أن هولسيم لا توظف الآن إلا القليل من أبناء الهري، بخلاف السبع التي توظف العديد من أبناء شكا.
يؤكد المختار صالح: “الشركة كانت تستوعب مئات العمال لأنها “تتابع صناعتها 24 ساعة، يعني عندها تلات دوامات عمل”. مع تطوير الشركة واستقدام آلات حديثة، ومع تهجير أبناء المنطقة خلال الحرب بدأت الأمور تتغير، بعدما كان نصف عمالها من الهري”. باع كثيرون أراضيهم قبل الحرب وخلالها للشركة، بعضهم طمعا بوظيفة وبعضهم من يئس من تدهور الإنتاج الزراعي الذي ضربته الغبار والإنبعاثات وأمطارها الحمضية”. وظائف الهري ضُربت أيضاً مع تغيير سياسة الشركة التوظيفية “عندهم 15 متعهد لتأمين أشغالهم”، يقول أهل الهري. أما المتعهدون فمحسوبون على النافذين ومن يغطون أشغال الشركة ومخالفاتها للقانون. والمتعهدون يتحكمون بمن يشغلونهم، و”أسماؤهم تأتي أيضاً بالواسطات”.
حتى الذين يحاولون إيجاد طريقهم نحو حياة كريمة بعيداً عن الشركات يصطدمون بآثارها. “من يبني بيتاً ليؤجره لن يجد راغبين كثرا بالسكن بسبب التلوث”. حتى سعر متر الأرض كان “200 دولار، هلأ بشي 100 دولار وما حدا بيشتري”. هناك متر البناء (أي الشقق) معرضة ألف دولار لمتر العمار ولا أحد يشتري. ضربت الشركة أسعار العقارات، والثروة السمكية والزراعية وحياة الناس، ولكنها لا تسأل عنهم. الهري “قصة حزينة في هذا البلد المتخلي عن مواطنيه”.
“ما حفظت الخبز والملح والسم والغبرة يلي نشقتنا اياهن ومرضتنا فيهم” تقول سيدة جاءت توقع بعض الأوراق من المختار. السيدة تتحدث بحسرة كبيرة “إبني عم يدرس ماجستير، ما خليت واسطة وما عملتها، بعدين أخدوه مع متعهد ليشطف الأرض”، تقول بينما تفيض عيناها بالدموع. إبن السيدة ترك الشركة بعد المعاملة السيئة التي تلقاها وغادر ليعمل في أحد مطاعم بيروت “شغل ما في، شو منعمل؟”
بعض أهالي الهري يعيدون وضعهم “ما حدا بيسأل عنا” إلى التقسيم الإنتخابي- الإداري الطائفي. بلدة 75 من أهلها إسلام سنة تم ضمها إلى البترون رغم وقوعها طبيعيا في ساحل الكورة. فيما ضمت بدبهون وبرغون وهما من الطائفة نفسها إلى الكورة، وأخذوا القلمون من ساحل الكورة مع البحصاص إلى طرابلس إداريا وانتخابيا. “يعني معليش مش عم بحكي طائفية بس هيدا الواقع للأسف، وما عنا نائب يمثلنا”.
الطائفية نفسها سبق وضربت أهل الهري “بالحرب تقاتلوا الأحزاب من الجهتين ببعضهم وتهجرنا وراح عشرات الضحايا من الطرفين”، يقول المختار صالح. ترد زوجته، التي ولدت في الهري أباً عن جد، “ما كنا نعرف مين مسيحي ومين مسلم وما كان في تفرقة حتى بوظائف الشركة”. كانت نساء الهري يلبسن اللباس نفسه “وعنا عادات وتقاليد مشتركة”. تعرّف الأهالي إلى دينهم حين تهجروا نحو طرابلس “هونيك عرفت إني مسلمة وعرفت الدين”.
الثروة السمكية تتضمحل والملوث لا يدفع
عدم توظيف أبناء الهري، واتهامها بنشر الأمراض السرطانية والصدرية والقلب والشرايين “في كتير بيموتوا بسكتة قلبية”، هو أحد أوجه “مضار” الهولسيم على الهري، ومعها جارتها السبع في شكا، وفق ما يقول الصياد علي سالم ل “المفكرة”. سالم من أبناء شكا كسجل قيد ولكنه من سكان الهري منذ أيام “الوالد الصياد”. “قطعت الشركة برزقنا من البحر” يقول بحسرة بعد ثلاثين عاماً قضاها في الصيد البحري. بدأ سالم مرافقة والده ع “الفلوكة من عمر عشر سنوات”، وعاماً بعد عام تتضاءل الثروة السمكية “عم تضمحل قدام عيوني”. كان سالم يصطاد مئة كيلو سمك في اليوم “بأيام الخير وقت المرحوم بيي، نطلع 60/70 كيلوغرام سمكة بلميدا لوحدها”. اليوم بالكاد يعود ب”كيلوين اثنين، ووقت بتوفق بتصيد شي عشرة كيلوغرام”.[1]
يعتاش سالم من البحر مع ولديْن وزوجته “هي نص زلمي”. عندما تستغرب الوصف لزوجته يضحك ويشرح “هي لبتساعدني بالصيد متل أقوى رجّال وهي سندي بتضرب الشباك وبتنضفها وبتنقي معي السمك، سوا منطلع ليرة مناكل بليرة”.
فكر سالم أن يهجر الصيد ويجد عملاً في “الهولسيم” لكنهم لم يمنحوه وظيفة “الوظائف محسوبيات”. المحسوبيات في الهري محفوظة بالدرجة الأولى ل “آل فرنجية” وفق ما يقول أهالي الهري “نحن مننتخب بالبترون إداريا، والجماعة رغم ذلك مش سائلين عنا”. في البترون، “عمل باسيل مينا الصيادين جنة، وهون ما بيسأل عنا لأنه المنطقة مربط خيل لفرنجية، ليش لنكذب”[2].
هولسيم تبيع عقاراتها في الهري وكفريا
بالإضافة إلى منشآتها، ما زالت هولسيم تتملك الكثير من الأراضي في الهري، برغم لجوئها في السنوات القليلة الماضية إلى بيع أملاكها في البلدة وبعض أراضيها في كفريا أيضاً كون الأمور تغيرت ولم تعد قادرة على التصرف فيها كما كانت تفعل خلال فترة الحرب، وفق ما يقول أحد المطلعين :”يعني كيف بدها تعمل مقلع ع البحر، أو بجبل راس الشقعة من ناحية بحر الهري وحامات؟”، يقول “مضيفاً “المصالح والعلاقات ومعها استخدامها لمقالعها في كفرحزير”.
في فم بعض أهالي الهري “ماء”، يساير هؤلاء الشركة والذين يمونون عليها، طمعاً بوظيفة أو بدعم أو بمساعدات. البعض الآخر ومنهم في مراكز قرار في فمه “مال” من الشركة. أما البعض الثالث فيائس، ويشعر أن لا مكان للصلح مع شركة تضرب عرض الحائط موقف محيطها منها، مع دولة تخلت عنهم، مع تقسيمات طائفية تجعلهم بمثابة أقليات مرمية على الهامش.
نشر هذا المقال في العدد | 58 | كانون الثاني 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
الكورة في فم التنين: من رخّص بالقتل؟
[1] يراجع مقال مخصص لمشكلة الصيادين في العدد نفسه.
“