دفعت الأزمة الإقتصادية الحادة التي عرفها الإقتصاد التونسي نهاية سنة 1984 منظومة الحكم إلى الإستعانة بالبنك الدولي لاستنباط منوال تنموي يقطع مع التجارب التنموية السابقة. جسّد المشروع الإقتصادي الذي يصطلح على تسميته برنامج الإصلاح الهيكلي للإقتصاد التونسي والذي اعتمد في مخطط التنمية السابع الذي يغطي الفترة من 1987 الى 1991 منوال التنمية البديل. إلتزمت السّلطة السياسيّة بحرفية الإصلاح الإقتصادي، فتوجّهت نحو خصخصة المؤسسات الاقتصادية العمومية لكون القطاعات الإنتاجية يجب أن تكون مجالاً للمبادرة الخاصة. وبموازاة ذلك، شجعت على المبادرة الإقتصادية الخاصة. كما توجهت نحو تحرير الإقتصاد الوطني من خلال الرفع التدريجي للقيود الجمركية. كما تدعّم انخراط تونس في منظومة العولمة الإقتصادية بما ينسجم مع إختياراتها الإقتصادية، بدخولها المنظمة العالمية للتجارة سنة 1994[1]، وتوقيعها لاتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوروبي سنة 1995[2].بدت تونس لفترة عنوانا للمعجزة الاقتصادية وفق تصور المؤسسات المالية الدولية بعد توصلها لتحقيق معدلات نمو اقتصادي فاقت نسب النمو التي كانت تحققها دول الجوار بلغ معدلها الى حدود سنة 2010 ما نسبته 4.5%.
كشف لاحقاً تفجّر الأزمة الإجتماعية بتونس، والتي بدت ملامحها الأولى تبرز للعالم الخارجيّ مع بداية العشرية الأولى من الألفية الثالثة من خلال تنامي ظاهرة الهجرة السرية من تونس نحو إيطاليا، أن المنوال الاقتصادي أرسى نمطاً إنتاجياً لا يشبع الحدود الدنيا لطلبات الشغل الصادرة عن جيل الشباب الذي استفاد من تحسن مؤشرات العيش العامة في تطوير تحصيله المعرفي.
اجتمع التوجه الليبرالي بالفساد السياسي ليؤديا إلى احتكار أسر معدودة لجانب من النشاط الاقتصادي. وكان من ثمار ذلك تطور تراكمي للبطالة التي مست مختلف الشرائح الاجتماعية وكان أثرها في وسط حاملي المؤهل الجامعي أكثر بروزاً. ولم تنجح المقاربة الإقتصادية للسلطة، والتي كانت تعوّل على الاستثمار العمومي في الأشغال العامة من جسور وطرقات، لإحداث دينامية اقتصادية وخصوصا في الجهات الداخلية وفئة الشبان. وقد كانت المناطق الداخلية، التي لم يتوجه الإستثمار الخاص إليها، الأكثر تضررا من ظاهرة البطالة. وتبدو الثورة التونسية عند هذا الحدّ في بُعدها الإقتصادي ثورةً ضدّ منوال تنموي عجز عن الاستجابة لمتطلّبات المجتمع في إشباع الحق في الشغل.
بلغ عدد العاطلين عن العمل نهاية سنة 2010 أربعمائة وواحد وتسعون ألف (491000) مواطناً. وقد علّق المعطلون وأسرهم على الثورة ومخرجاتها في منظومة الحكم آمالا كبرى في تحقيق ما عجز عن توفيره لهم النظام السابق. وقد كانت وعود الإصلاح كبيرة وتوجهت لتأكيد وجوب القطع مع المنوال التنموي السائد الذي فشل في إيجاد فرص العمل للشباب ولم يحقق التنمية بالجهات الداخلية.
حقّقت الثورة جانباً من إنتظارتها في نظر من كانوا يشتغلون بالوظيفة العمومية والمؤسسات العمومية بشكل عرضي ووفق صيغ تشغيل هشة. فقد بادرتْ السّلطة غداة الثورة لتسوية الوضعية المهنية لهم بترسيمهم في عملهم وتمتيعهم تبعا لذلك بحقوقهم القانونية. كما فرض الإتحاد العام التونسي للشغل، أهم منظمة نقابية عمالية، بذات المناسبة إنهاء العمل بالمناولة بمؤسسات الدولة وإدارتها؛ فانتدب خلال الأشهر الأولى من سنة 2011 من كانوا يشتغلون بمؤسسات المناولة بالإدارات والمؤسسات التي كانت الشركات الموظفة لهم متعاقدة معها. وبرز ذات التعاطي الثوري مع ملف التشغيل في التعاطي مع ضحايا المحاكمات السياسية خلال الحقبة الاستبدادية. فقد ضمن المرسوم عدد 01 لسنة 2011، المتعلق بالعفو التشريعي العام، الإنتداب المباشر بالوظيفة العمومية ومؤسسات الدولة لكل من تمتع بالعفو؛ وعند تعذر انتدابه لبلوغه سن التقاعد أو عجزه، فانتداب فرد من أسرته عوضا عنه. وذات الحق في العمل تمّ إقراره لأسر شهداء الثورة وجرحاها باعتبار فرد عن أسرة كل شهيد، مع تشغيل جرحى الثورة أو أحد أفراد أسرهم.
عوّلت الدولة على قدرتها التشغيلية لتحقيق علاجات سريعة لأزمة البطالة المستفحلة. وشجعت ذات القدرة التشغيلية المطالبين بالتشغيل على فرض حلول فردية سريعة لأزمة البطالة التي يعانون منها. حوّل العاطلون الإعتصامات والإحتجاجات إلى منفذ يجيز لهم الالتحاق بالوظيفة. تحمّل مجمع فسفاط قفصة الجانب الأكبر من أثر التحركات الإحتجاجية ذات المطلبية التشغيليةبجهة الحوض المنجمي. فكان الانتداب بتلك الشركة التي تتميز بارتفاع معدلات التأجير بها مطلب المحتجين، وكانت الاستجابة لتلك المطلبية عمل السلطة للخروج من الأزمة. تطور تبعا لذلك عدد أعوان تلك الشركة من 4898 عوناً في 2010 ليصل في 2013 إلى 7391. وتطوّر عدد العاملين بالمجمع إلى أكثر من 30 ألف عوناً بنهاية سنة 2015 بنسبة تطور في التشغيلية بلغ 45 بالمائة سنوياً. واللافت أنّ مجمع شركات فسفاط قفصة عرف نشاطه الصناعي تعطلا شبه كامل بفعل الاعتصامات المطالبة بالتشغيل خلال ذات الفترة، مسجّلا تراجعاً في الانتاج بلغ الستين بالمائة بما أدى لفوات فرصة أرباح قدرها خمسة آلاف مليون ديناراً طيلة سنوات الثورة [3].
تكفّل القطاع العام بإيجاد حلول فرديّة لطلبات التّشغيل التي فرضتها استحقاقات الثورة وهشاشة الوضع الأمني. كما التفت الفساد الإداري لذات الحل السهل ليخلق فرص عمل للمعطلين ذوي المحسوبية الخاصة. فقد نجحت النقابات العمالية بالمؤسسات العمومية في أن تفرض على المسؤولين الإداريين ما سمي حق أبناء العاملين في الأولوية بالإنتداب. تمت الإنتدابات في مرحلة أولى في إطار إتفاقات غير معلنة بين النقابات والمسؤولين الاداريين وأدت إلى إثقال المؤسسات العمومية بانتدابات هدفها الوحيد ترضية الأعوان وضمان السلم الإجتماعي بالمؤسسة. هذا السلم الذي يضمن للمسؤول الإداري البقاء في منصبه. حاول لاحقا من استفادوا من حق توريث العمل فرض تقنين للظاهرة يجيز الإنتداب بالقرابة. أحبطت الحكومة هذا المسعى بعدما التجأت بتاريخ 12-11-2014 للمحكمة الإدارية لطلب رأيها القانوني في الموضوع. تصدت المحكمة الادارية في رأيها الإستشاري عدد 636-2014 للتيار، وأكدت أن توريث العمل يتعارض مع مبدأ المساواة بين طالبي الشغل وبالتالي مع الدستور. كان يُنتظر تبعاً لذلك أن يلتزم الجميع بالقانون، إلا أن الإلتزام لم يتحقق على أرض الواقع. فقد استمرت أولوية التشغيل تلك لكن في إطار صامت عنوانه الأبرز إرضاء النقابة لإستدامة المسؤولية.
كان يُنتظر من لثورة أن تفرض شفافية الإنتداب بمؤسسات الدولة وأن تجيز لأبناء الشعب فرصاً متساوية للعمل دون محسوبية، لكن الفساد الاداري منع ذلك. كما أدى ذات الفساد لإرهاق المؤسسات المشغلة. ويُذكر في هذا الاطار أن الإنتدابات بشركة النقل بتونس والتي تمت وفق قوانين الترضية والمحسوبية أدت لأن بات لكل حافلة من حافلات هذه الشركة المثقلة بالمديونية ستة سواقين[4] بما يكشف عن الأفق المسدود الذي انتهت اليه الحلول الفردية.
انتهت الخمس سنوات الأولى من الثورة وقد تضاعف عدد أعوان العاملين بالوظيفة العمومية ليبلغ ستمائة وخمسين ألف موظفاًبعد أن كان سنة 2007 ثلاثمائة وستة وثلاثين الفاً[5].كما أثمرت ذات المدة تضخماً غير مسبوق في عدد العاملين بالمؤسسات العمومية. ولم يؤدّ في المقابل ذلك إلى حلّ لمشكل البطالة التي كشفت المؤشرات الاحصائية أنها استفحلت. فقد بلغ عدد العاطلين عن العمل نهاية سنة 2015 قرابة ثمانمائة الف شخصاً.
أكدت الإنتفاضة التي عرفتها تونس نهاية الشهر الأول من سنة 2016، والتي كانت المطالبة بالحق في التشغيل محركها الأساسي، فشل السياسة التشغيلية للحكومات التونسية المتعاقبة. فقد كشفت هذه الإنتفاضة أنّ الحكومات التونسية التي مارست السلطة على تعدد تصنيفاتها من حكومات سياسية إلى حكومات تكنوقراط والتي جاهرت جميعها برفض المنوال التنموي القائم للسلطة لم تتوصل إلا لتدعيم مظاهر الفساد في تطبيقات ذات المنوال بما أكد العجز عن تصور المنوال البديل.
حاولت الحكومة التونسية سنة 2012 طرح تصور لما ذكرت أنه مخطط استراتيجي للتشغيل سيتم بفضله في موفى سنة 2017 بلورة منوال تنموي للشغل ورفع الإنتاجية بعد أن تكون سنة 2015 قد شهدت تقلصا هاما في نسبة البطالة بفضل الإجراءات التي اتخذت سنتي 2013 و2014 وتمثلت أساسا في التشجيع على بعث مشاريع خاصة “متناهية الصغر للمعطلين عن العمل”، وفي تطوير مخرجات التكوين المهني لتوفير يد عاملة للقطاعات الاقتصادية التي تشكو نقصاً في اليد العاملة والتي قدرت حاجياتها بمائة وعشرين الف عاملاً. كما عولت ذات الاستراتيجية التنموية على الهجرة كحل للبطالة. بدا جليا أن منوال التشغيل لم يراجع المنوال التنموي وبحث عن حلول للتشغيل والتنمية هي نفسها الحلول التي كانت معتمدة قبل الثورة إلا في مبالغتها في التعويل على الهجرة. انتهى حديث الاستراتيجية الوطنية للتشغيل إلى النسيان بعدما تبين أنه لم يُؤسّس على رؤية واضحة في خصوص الهجرة الى ليبيا ولم يكن جديا في إدعائه القدرة على تشغيل ستمائة ألف عاطلاً عن العمل في ثلاث سنوات.
لم تتحقق خلال سنة 2015 تطورات نوعية في مؤشرات تشغيل المعطلين عن العمل. في المقابل شهدت تلك السنة عودة البحث الرسمي في تصورات معالجات الملف الشائك. فقد قررت الحكومة بمناسبة طرح موازنتها لسنة 2016 أن تنهي التعويل على الوظيفة العمومية كخزان للتشغيل. فقد تمّ حصر الإنتدابات المزمع إجراؤها في حدود خمسة عشر ألفا وثمانمائة انتداباً، مُوجهة أساساً لقطاعات الأمن والجيش والصحة والشؤون الاجتماعية[6]. كما تم في موفى ذات السنة طرح “الوثيقة التوجيهية لمخطط التنمية 2016-2020”.
أكدت الوثيقة التوجيهية قصور المنوال التنموي عن تحقيق ما هو مطلوب منه من بناء لاقتصاد تشغيلي يضمن نسب نمو محترمة تؤدّي لتطور الدخل الفردي وبالتالي لتحسين مؤشرات العيش. وتميزت هذه الوثيقة بتشخيصها الموضوعي لفترة ما قبل الثورة، فابتعدت عن الحديث السياسي لتقرّ بكون الجانب الأكبر من الإستثمار العمومي خلال الفترة الفاصلة بين سنتي 1992 و2010[7] وُجّه للمناطق الداخلية. لكن هذه الاستثمارات لم تحقق أهدافها التشغيلية بتلك المناطق أولاً ولم تنهِ عزلتها ثانيا لكون الرأسمال الخاص عزف عن التوجه للإستثمار فيها. وقد اتجهت هذه المناطق نحو التصحر السكاني بمفعول ظاهرة الهجرة الداخلية نحو المدن الكبرى بحثا عن العمل بالنسبة للمعطلين من أبنائها أو بحثا عن ظروف الحياة الافضل لمن وفق من أبنائها في النجاح في الصعيدين المهني والمعرفي.
لم تطرح الوثيقة التوجيهية تصوّراً للمنوال التنموي البديل، غير أنها توصلت لتشخيص دقيق لأزمتي البطالة والتنمية في تونس في ظل منوالها التنموي القائم. ويبدو أن البحث عن المنوال التنموي البديل سيكون الجهد الأصعب في تصور مخطط التنمية بعدما فشلت السياسات التشغيلية قبل الثورة وبعدها في تحقيق التنمية. ويلحظ أن الحكومة تراجعت عن عزمها الأول في إنهاء خلق فرص العمل في الوظيفة العمومية.مع نهاية الشهر الأول من سنة 2016، حين أعلنت عزمها لانتداب ثلاثة وعشرين ألف عوناً بالوظيفة العمومية، علاوة على تسوية وضعية ثمانية وثلاثين الفاً من الذين يعملون بشكل هش سواء في إطار الآلية 16 [8]أو من عملة الحضائر[9] والذين تم انتداب أغلبهم بعد الثورة في إطار بحث عن حلول عاجلة لاحتجاجات الذين يطالبون بالعمل.
فشلت الحكومة في الابتعاد عن تصور حكومات ما بعد الثورة والتي تمثلت في استخدام الوظيفة العمومية كأداة لتوليد فرص عمل بمعزل عن أي نمو اقتصادي. وللخروج من هذه الحلقة المفرغة، يجدر إعادة طرح السؤال حول دور الدولة الإقتصادي، خصوصا في القطاعات ذات التشغيلية العالية والمردوديةالاقتصادية المحدودة. هذا الدور الذي تعارضه سياسة المؤسسات المالية الدولية فيما يستدعيه البحث عن التوازن الجهوي وتحقيق الحق في التشغيل الذي يظل حتى اللحظة شعارا دون مضمون.
[1] – ابرم اتفاق الشراكة بين وتنس والاتحاد الاوروبي في 15/7/1995 و يهدف إلى تكثيف العلاقات الاقتصادية بين الطرفين من خلال رفع تدريجي للقيود الجمركية
[2] – المنظمة العالمية للتجارة : منظمة بعثت بمقتضى اتفاقية مراكش بالمغرب الأقصى سنة 1994 و بدأ العمل فعليا داخل هذه المنظمة منذ 1995 التي يتمثل هدفها في تنظيم التجارة العالمية و تحريرها.
[3]تونس تخسر خمسة الاف مليون دينار خلال ست سنوات – صحيفة الشروق التونسية 06-03-2016
[4]اوردت مجلة “
بزنس” في دراسة اجرتها حول الوضعية المادية واللوجستية لشركة النقل تونس .
إن الشركة تشكو صعوبات و ضائقة مالية كبيرة إنعكست على ميزانيتها المالية التي سجلت عجزاً كبيراً و ذكرت هذا العجز مرده بالأساس حجم الإنتدابات الغير مدروسة والعشوائية في فترة ما بعد الثورة والتي قدرت ب1500 عامل وهو ما انعكس سلبا على مؤشر الاستغلال ليصل إلى 6 سواق في الحافلة الواحدة .
[5]التقرير السنوي حول خصائص اعوان الوظيفة العمومية لسنة 2007 –المعهد الوطني للاحصاء
[6]موزعين على 5200 لوزارة الداخلية و6500 لوزارة الدفاع الوطني و1100 لوزارة العدل و2700 لوزارة الصحة و190 للشؤون الاجتماعية
[7]كشفت الوثيقة الرسمية ان نصيب المناطق الداخلية المصنفة الاقل حظ من التنمية من الاستثمار العممومي خلال الفترة من 1992 الى 2010 كانت في حدود 3705 دينار للفرد الواحد في مقابل 2875 دينارا للفرد الواحد بالمناطق الساحلية .
[8]تعد الالية 16 من آليات التشغيل الهش يتم انتداب أصحاب الشهادات الجامعية بموجبها بالادارات العامة في اطار عقد تربص يدوم 9 اشهر يمكن تجديده و تسند للمنتفع منحة شهرية تقدر ب120 دينار تونسي
[9]صنف من التشغيل الهش يستهدف العاطلين عن العمل من غير ذوي الكفاءة يندرج ضمن برنامج الحضائر الجهوية للتنمية. تنتدب الدولة بشكل وقتي عمال الحضائر من أجل القيام بأشغال عامة من قبيل العناية بالمساحات الخضراء والمساعدة في التنظيف بمقابل مالي دون الأجر المضمون ودون تغطية اجتماعية.