“
باللحم الحي واجه عناصر الدفاع المدني وكثير من المواطنين الذين وفدوا من مناطق لبنانية عدة إلى المشرف والدبية والدامور ودميت حيث اندلعت أشرس الحرائق ملتهمة جزءاً كبيرا مما تبقى من لبنان الأخضر، منذ غروب الأحد 13 تشرين ولغاية ليل الثلاثاء 15 منه.
هناك وسط النيران المشتعلة بألسنة عالية والدخان الخانق والعائلات المشردة والمنازل المحترقة ، كان تعاضد المواطنين مع شبان المخميات الفلسطينية وعمال وشبان سوريين يقيمون في المنطقة، هو الصورة الجميلة الوحيدة التي تترك بعض الأمل، وسط تقصير رسمي فاضح في إدارة الكوارث والإستعداد لها وفي مكافحة الحرائق المعلن موسمها ومنذ عشرات السنين من حزيران إلى تشرين الثاني في كل عام، من دون أي استعداد لها. حمل المواطنون معاولهم وأواني منازلهم وركضوا لنجدة العالقين في الحريق، فيما تجمع أكثر من خمسين شابا وصبية وأطلقوا نداء لجمع التبرعات ونظموا أنفسهم في مجموعات أوصلت الماء والغذاء والحرامات إلى المناطق المحتاجة، متخذين من مطعم الجسر في الجية مركزاً لهم. مثلهم بدا عناصر الدفاع المدني الذين لا يملك بعضهم حتى بدلات خاصة تقيهم من النيران، هم الذين تدفع بهم السلطات إلى فم النار عند كل اندلاع حريق وكارثة، يبقون في أدنى سلم التجهيز وتعزيز أدوات العمل وآلياته.
وفيما كانت الطوافتان القبرصيتان اللتان ندفع إيجارهما من 10 إلى 15 ألف دولار في الساعة تقومان برحلات دورية من البحيرات المتاحة لتعبئة المياه وأماكن الحريق، كانت ثلاث طوافات سيكورسكي يملكها لبنان رابضة في مطار بيروت الدولي لأن الجهات الرسمية كافة لم تكلف نفسها عناء صيانتها وتأمين قطع الغيار اللازمة لتشغيلها. هكذا هدر لبنان نحو 15 مليون دولار دُفعت كتبرعات لشراء الطائرات لكي لا تأكل النيران منازل المواطنين وتقضي على ألاحراج وتشرد الناس وليتم وضع حد لها مع بداية كل حريق. كل ذلك وسط تقاذف المسؤوليات وكأن المهم بالنسبة للمسؤولين غسل أياديهم من التقصير الفادح الذي كشفته الحرائق(المحرر)
منزل أبو علي في الدبيّة يحترق أمام عينيه
يحاول أبو علي، الرجل الثمانيني، أن يعود إلى عمله الطبيعيّ في دكّانه الصغير قرب بيته، برغم حرقته ومرارة إحساسه. ما زالت ثيابه تحمل أثار الحريق والشحبار نتيجة محاولته الطويلة إخماد حريق منزله في الدبيّة حيث يسكن وزوجته.
استيقظت أم علي ليل الإثنين 14 تشرين الأول 2019، على صوت سيّارات الدفاع المدنيّ في المحيط.سرعان ما أحسّ الزوجان باقتراب النيران آتية من الأحراج المجاورة. بقي أبو علي قرب منزله بعدما غادرت زوجته إلى منزل أحد أبنائها خارج الدبيّة بعدما أصيبت بضيق نفس. وشهد الرجل اقتراب النيران من منزله الكائن في الطابق الأرضيّ لمبنى خاص به وبأبنائه. متأّلما يكرّر أبو علي قصّة مناشدته، من دون جدوى، سيارة الإطفاء التابعة للدفاع المدنيّ التي كانت تُخمد النار في الشارع عينه ، وهو يراقب احتراق منزله. استغرب الدفاع المدنيّ تواجده في المنطقة في الوقت الذي نزح فيه جميع الأهالي إلى السعديّات أو بيروت.
وبعد التهام النيران لغرفة نومه وأجزاء أخرى من المنزل، أطفأ عناصر الدفاع المدنيّ الحريق، ليعود ويتجدّد بعد رحيلهم أكثر من مرّة، فتعاون أبو علي وإبنه في إطفائه بكلّ ما أتيح لهما من وسائل. استمرّ احتراق المنزل من الساعة الواحدة إلى الثالثة صباحا، وانطفأ كليّا عند السادسة صباحا. وعادت عائلة أبو علي لتطمئن على ما تبقّى من منزلها.
تركت كارثة الحرائق منزل أبو علي عودة ركاما على الأرض، في حين تشقّقت الجدران في الطوابق العليا ، حيث كان يسكن طلّاب في جامعة بيروت العربيّة، غادروا بدورهم جرّاء الدخان الصاعد من الحرائق.
في قصّته الفرديّة، قصّة احتراق منزله الوحيد، يعبّر أبو علي عن مشاكل عامّة تعاني منها فئة من المواطنين الذين تُركوا لوحدهم في مواجهة وحشية الحرائق النهمة. لم ينظر إلى حالهم أيّ مسؤول أو سلطة في الدولة: “بلد كلّه وسايط. يللي متلنا ما حدا بيردّ عليه إلّا إذا بيعرف حدا”. وفي حالات تضرّر المواطن جرّاء كوارث طبيعيّة وإقتصاديّة لا تساعد الدولة مواطنيها: “بيجوا وقت بدّن مصاري بس”.
أسطحُ الدبيّة تتسّع لشبان لبنان
يروي حسام وهشام زعرور كيف كانا يسهران على شرفة بيتهما في الدبيّة يراقبان النيران البعيدة مساء الإثنين، دون أن يعلما أنّها ستكون سببا في نزوحهما إلى السعديّات بعد ساعات قليلة. عند الساعة الثامنة من مساء اليوم نفسه، طلبت البلديّة عبر مكبّرات الصوت إخلاء جميع المباني، وأقام الجيش حاجزا على مدخل القرية مانعاً السيارات أن تقطعه لحماية الناس . يسخر حسام من عجز الجهات الرسميّة المعنيّة عن إطفاء الحريق: “تدّخلت الدولة وطفّتلنا ياها”، بعد أنّ انتهى الحريق من دون مساعدة: “احترق اللي بدو يحترق”.
طوال يوم الثلاثاء، لم يخلُ سطحُ مبنى في أعالي الدبيّة من حشد شبان تركوا جامعاتهم وأعمالهم في الجنوب والجبل وبيروت ليتابعوا وضع الحريق الذي لم يتوقّف في جزء من الحرج إلّا وتجدّد. من الناعمة وبرجا وداريا هرع بعض الشبان ليل الإثنين لنقل رفاقهم من سكن طلّاب الجامعة العربيّة وإيوائهم في منازلهم، ثمّ عادوا إلى الدبيّة لتقديم المساعدة للأهالي.
ومن مركز الدفاع المدنيّ في المطلّة، أتى مارك حمدان ليطفىء النار على سطح بيت عمّه قبل دخولها إلى المنزل، وتابع يوم الثلاثاء من الساعة الثالثة فجرا عمليّة الإطفاء في الدبيّة. “خربانة الدني”، هكذا يصف مارك المشهد، هو عنصر الدفاع المدنيّ جاء إلى الدبيّة بلباس مدنيّ بعد يوم كامل أمضاه في إخماد حريق الدامور، من الساعة الخامسة صباحا حتّى منتصف ليل الاثنين.
أشار حمدان إلى 11 حالة اختناق صباح يوم الثلاثاء 15 /10/2019، أرسلت 8 حالات منها إلى مركز طوارىء للصليب الأحمر في الدامور، والباقي إلى مستشفى الجيّة. وبرغم عمل الدفاع المدنيّ وجميع الشبان المتطوّعين لإخماد حريق الدبيّة، كانت النيران تعاود اشتعالها وانتشارها في الأحراج بسبب الهواء. يشكو مارك ضعف الإمكانيّات المتوفّرة لإخماد الحرائق “حتّى أنّه مش باقي معنا بدلات خاصة بالحرائق”. ويصف المشهد الكامل لعشرات المواطنين الذين جاؤوا متحمّسين للمساعدة في ظلّ غياب المعنيّين: “في عناصر متطوّعة لتشتغل بهيدا الحريق، باقي ما تبقّى كلّه نايم”.
نيران الدامور: “ما ضلّ شي حتّى تحرقو”
وفي الدامور، يصف ثلاثة عمّال سوريّين مشهد احتراق الدامور أمام أعينهم قبل رحيلهم وأهالي القرية بسبب الرماد المتطاير الذي اجتاح سماءها. “ما دخلني أنا”، ساخرا يقولها أحد العمّال (كان قد ساعد بإخماد حريق أحد المنازل) وهم الذين لا يزالوا يعانون من عنصريّة البعض بحقّهم. عنصرية لم تكن بعيدة عن حوادث الحرائق أيضا! فقد وُجهت إليهم اتّهامات بافتعال الحرائق في لبنان!
وفي المنطقة السفلى من الدامور، كبعض المناطق في الدبيّة، لم توقف الأمطار أو سيّارات الدفاع المدنيّ الحريق، بل “ما ضلّ شي حتّى يحترق” وفق تعبير أحمد، أحد العمّال الذي يُرينا كيف توقّفت النيران عند حدود المنازل أو أشجارها الخضراء. لم يشهد الحيّ الذين يسكنون فيه إلّا جمعيّة جاءت لتضع طعاما للقطط والكلاب التي هربت من البساتين المحروقة.
صوت النيران الصاعد من أحد أحراج الدامور هو الذي دفع المزارع سليم رزق الله وزوجته أن يستيقظا من سريرهما الذي طالته ثلاث شرارات من الحريق بعد ساعات من مغادرتهم المنزل. ذهبت زوجة سليم إلى بيروت هاربة من احتمال اختناق حتميّ. يعدّ رزقالله احتراق منزله وسيّارة زوجة ابنه المركونة إلى جانب المنزل جزءا طبيعيّا من الحريق الضخم الذي طال الدامور والمناطق الأخرى.
“الله ستر” ولمح أحد الجيران إطفائية الدفاع المدني فناداها لتنقذ منزل سليم من الإحتراق الذي طال الغرفة السفليّة التي تحوي أغراضاً ثانويّة له ولأبنائه الذين يعيشون في الطوابق العليا. ومثل أبو علي في الدبيّة، تابع سليم وابنه عمل الدفاع المدنيّ وقاما بإطفاء ما تبقّى من الحريق بأيديهم، بعد محاولتهم إعادة الكهرباء لضّخ المياه إلى المنزل.
يتفقّد سليم الغرفة المحروقة في الأسفل أكثر من مرّتين في الساعة حتّى يتأكّد أنّ النيران لن تعيد السيناريو المعتاد في الأحراج. وفي جولته التفقديّة، يكتشف كلّ ما احترق من عدّته الزراعيّة، ومن كتب أولاده وأحفاده، ومن كتب أخرى نادرة يروي كيف جمعها إبنه. وفي جولة حول المنزل، يحزنه مشهد الأشجار المحترقة، وتلك التي اختنقت جرّاء الدخان، فذبلت شجرة الأفوكا ، واحترقت أشجار زيتون في موسم قطافها. وبرغم كلّ تلك الأضرار، يفرح سليم بنجاة “الدجاجات”.
وجاء الإحتراق الأكبر من نصيب مركز arc en ciel لمعالجة النفايات في الدامور، الذي احترق بالكامل لأكثر من 12 ساعة. قضى فوج إطفاء بيروت على هذا الحريق الذي لم ينتج عنه سوى أضرار ماديّة تمثّلت باحتراق سيّارات وسقوط حظيرة تابعة للمركز ممّا أدّى إلى قطع الطريق. تابع ناشطون ومتطوّعون عمل الدفاع المدنيّ، وقدّموا المياه والطعام لهم وللعاملين في مركز arc en ciel الذين أمضوا طيلة يومهم محاولين إخماد النار التي قضت على مركزهم. ومن خلف المبنى، يظهر جبل احترق من أعلاه يسارا حتّى أسفله يمينا. هو ضررٌ كبير “لا تستطيع أن تلتقطه عدسة كاميرا مهما كانت واسعة” بحسب تعليق أحد عناصر فوج إطفاء بيروت.
مشاهد شعبيّة في مشرف تغلّبت على النيران
على أحد أرصفة بلدة المشرف، يتكىء عناصر من فوج إطفاء الضاحية على أكتاف بعضهم البعض بعد نجاحهم في إخماد أكثر من 90% من حريق نال من أحراج القرية على مدار يومين.
مشهدٌ جميل في ساحة واحدة بعد إخماد الحريق الهائل يجمع بين جهات ساعدت مباشرة، وصبايا وشبان واكبوا فريق الإطفاء بالمياه والطعام والمساعدة في تلبية أيّ نداء. جمعت هذه الساحة متطوّعين ومتطوعات من المناطق كافة. وقف هؤلاء على جوانب الطرقات يوزعون الغذاء والمياه لكلّ سيّارة آتية . وفي الساحة نفسها شبان من الهيئة الصحيّة الإسلامية، وفوج إطفاء الضاحية، وفوج إطفاء إقليم التفاح، وبلديّة الغبيري بصهاريجها ومتطوعيها، واتّحاد بلديّات الضاحية، وفوج إطفاء بيروت، وكشّافة الرسالة، وأهالي المشرف والمنطقة وبلديّاتها. وكلّ هذه الجهات أعلنت استمرار جهوزيّتها بعد يومين من العمل المضني، خوفا من احتمال عودة اشتعال النيران بسبب الهواء، ذلك قبل قضاء مطر مساء الثلاثاء على ما تبقّى من شرارات نار صغيرة هنا وهناك، عاد بعضها إلى التجدد ليلا ومع الصباح، حيث عمل عناصر الدفاع المدني ومتطوعون على تبريد اراضي الحرائق.
وفي منطقة أخرى من منطقة المشرف كانت النيران قد ألتهمت حصة كبيرة من البلدة التي كانت خضراء، نشطت قطاعات شبابية من أحزاب لبنانيّة قامت بحركة تضامنيّة إمّا عبر الإمداد بالطعام أو عبر المساعدة في إطفاء الحريق. يتحدّث وسام إندراوس، أحد سكّان المشرف، وعضو قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعيّ، كيف جمعت هذه الحادثة “أهل البلد” وشبابا متحمّسين صعدوا إلى المناطق المتضرّرة للتخفيف من مأساتها ومحاولة القضاء على النيران. بين مطعم الجسر في الدامور، ومشرف والدبيّة توزع حوالي 40 صبية وشابا على مجموعات لكلّ منها دورها بالتنسيق مع شبان المناطق المنكوبة في المشرف والدبيّة ودميت والدامور. يصف وسام مشهد الذين صعدوا إلى المناطق لنجدة أهلها “جايين وبدّن ياكلوا النار أكل”، حتّى أنّ بعضهم تعرّض للإصابة بحروق جرّاء عملهم في إخمادها.
“