هل كان بالإمكان أن يكون لبنان بلداً معظم المدارس فيه رسميّةً أو خاضعةً لتنظيمٍ صارمٍ من قبل دولةٍ ذات سياساتٍ تعليميّةٍ طموحة؟ لا يأتي هذا السؤال وليد تخيّلاتٍ تاريخيّةٍ عبثية، أو نسج أدبٍ لاواقعيّ يأتي كـ”فشة خلق” للحالمين بالدولة القويّة، المقهورين دائماً في لبنان. إذ على عكس ما نسمعه أحياناً من تطبيعٍ للوضع التربويّ الحاليّ، أيّ إظهار التفوّق العدديّ والنوعيّ للمدارس الخاصة والطائفيّة كنتيجةٍ حتميّةٍ ومنطقيّةٍ لـ”طبيعة” لبنان التعدديّة طائفياً أو كنتيجةٍ لضعف الدولة التي لم تحاول يوماً أن تمكّن نفسها، فإن الوضع المدرسيّ اليوم هو نتاج معارك طاحنة، سياسيّةٍ بامتياز، دارت خلال القرن العشرين. وقد تَواجَه في هذه المعارك مشروعان سياسيّان للتربية والدولة اللبنانيّة، وكان فيها رابحون وخاسرون. فالوضع الراهن في العام 2016 ليس سوى ترجمةً للسيناريو الرابح في هذه المواجهات الماضية، وقد تفرّد حاملوه بعدها بسرد روايتهم الخاصة عن التربية اللبنانيّة على جثة المشروع الخاسر – الصامت.
تعرض “المفكّرة القانونيّة” هنا، وفي أكثر من مقالٍ لاحقٍ، لإحدى هذه المواجهات التي جرت في خمسينيّات القرن الماضي بين المدارس الخاصّة، لاسيما الكاثوليكيّة منها، وحلفائهم السياسيّين من جهة، وجزء من موظفي الإدارة اللبنانية ونخبها الساعين إلى تنظيم أو حتى تأميم التعليم الإبتدائيّ من جهةٍ أخرى. نركّز في هذا المقال الأول على الظروف التربويّة والسياسيّة التي هيأت لهذه المواجهة (1943-1955)، علماً أن أبطالها كانوا رئيس حكومةٍ، ووزراء، ونوّاب، وبطريرك، ومطارنة، ومشايخ، بالإضافة إلى طلّابٍ استُعملوا كوقودٍ للتظاهرات المرافقة للمواجهة. في المقال التالي، سننتقل لعرض مجريات المعركة ونتائجها في العام 1956، لا سيما على صعيد إطلاق المدارس الخاصّة المجانيّة، السيئة السمعة اليوم.
عدّل إنشاء الدولة اللبنانيّة وإستقلالها في العام 1943 قواعد اللعبة التربويّة في لبنان. إذ كان القرن التاسع عشر خاضعاً لمنطق المنافسة بين الطوائف والإرساليّات المسيحيّة ورعاتها الغربيّين، في ظل خجل السياسة التربويّة العثمانيّة حتى بدايات القرن العشرين. وفي حين لم يغيّر الإنتداب الفرنسيّ الكثير في هذا الواقع، شكّل الإستقلال تحوّلاً لاسيما على صعيد إنشاء المدارس الرسميّة في الأطراف التي بقيت على هامش الفورة التربويّة في القرن السابق، حتى في جبل لبنان ذات الأغلبية المسيحيّة وإنّ بدرجةٍ أقل. ففيما كان عدد المدارس الرسميّة لا يتعدّى الثلاثمئة مدرسة في العام 1943، وصل هذا العدد إلى أكثر من ألف مدرسة بعد عشر سنواتٍ تقريباً، في منتصف الخمسينيّات. كما تضاعف عدد تلاميذ هذه المدارس تبعاً للوتيرة ذاتها. وبالتزامن مع ذلك، تشير الأرقام المتداولة إلى تراجعٍ ملحوظ في أعداد المدارس الطائفيّة خلال الفترة نفسها (من حوالي 1300 مدرسة في العام 1943 إلى أقل من 850 في العام 1956)[1]. وقد يشير هذا التطوّر إلى تحوّلٍ هام في معادلة التربية في لبنان: ففي حين كانت المنافسة طوال القرن التاسع عشر واقعةً بين الطوائف والإرساليّات، أصبحت بعد 1943 منافسةً بين المدارس الطائفيّة من جهة والمدارس الرسميّة من جهةٍ أخرى. منافسةٌ بدأت بشكلٍ تدريجيّ بعدها بتشكيل ضغطٍ على التعليم الخاص، كاسرةً إحتكاره للمسائل التربويّة[2].
بداية الخمسينيّات: تعليمٌ رسميٌّ طموح يقابله قلقٌ دينيّ
لا تختزل الأرقام هذه الروح التنافسيّة بين المدارس الرسميّة والخاصّة بعد الإستقلال. إذ تجلّى التنافس أيضاً بين فلسفتين للدولة اللبنانيّة: الدولة المبادرة التي تحمل وتفرض مشروع ثقافةٍ وطنيّةٍ موحّدةٍ ركيزتها المدرسة الرسميّة، والدولة المهذّبة المحترِمة لحريّة التعليم في المدارس الطائفيّة وتعدديّته واستقلاليّته. وبينما اعتبر دعاة المشروع الأول أن الثاني هو مشروع دولةٍ ضعيفة، نظر دعاة المشروع الثاني إلى الأول كمشروعٍ شموليّ إستبداديّ بامتياز، يضرب خصوصية لبنان بين الدول العربيّة.
وكانت الفلسفة الأولى (المدرسة الرسميّة أولاً) منتشرةً في الإدارة التربويّة في لبنان آنذاك. فكان لشعار “مدرسة (رسميّة) في كلّ قرية” تواجدٌ قوي في وزارة التربية، وقد ورد على لسان وزير التربية رئيف أبي اللمع في 12 كانون الثاني 1951 في محاضرةٍ في “الندوة اللبنانية”. كما أن السنوات الأولى بعد الاستقلال كانت حافلة بـ”النقاشات” و”الجدالات بين مؤيدي المدرسة الخاصة ومؤيدي المدرسة الرسميّة” (كما يروي نمر صبّاح في كتابه الصادر عام 1950)[3]. في تقريرٍ يعود إلى بداية الأربعينيّات أعدّته وزارة التربية، سُجّل أن “الدولة قد تغيّرت والمدرسة الرسميّة تسير بخطى ثابتة نحو الهدف الذي حدّدناه. فإن هذه المؤسسة المزدهرة تفرض نفسها على ضمائر المواطنين كركيزة تربية وطنيّةٍ حقيقيّة”[4]. كما صرّح موظفٌ كبيرٌ في الوزارة أمام مجلس النوّاب في نهاية الثلاثينيّات أن “الإصلاح الوحيد الممكن هو أن تكون مسألة التربية الوطنيّة مسألةً حكوميّةً فقط، وسياسيّةً من ضمن سياسات الدولة”[5]. في العام 1950، أعلن المدير العام لوزارة التربية نجيب صدقه في محاضرةٍ في “الندوة اللبنانيّة” أن “الدولة، والدولة وحدها، لديها القدرة على تحقيق” أهداف التعليم وخلق شبابٍ لبنانيّ جديد[6]. كما هاجم المدير العام نفسه في العام 1954، في محاضرةٍ عامّةٍ أخرى، المدارس الطائفيّة، واتهمها بتشكيل “دولٍ ضمن الدولة”[7].
تظهر هذه الأمثلة كيف أن نموذج الدولة الخجولة أمام المؤسسات الطائفيّة لم يكن الوحيد بعد الإستقلال (إذا قبلنا بثنائية الدولة من جهة والطوائف من جهة أخرى، ولكن هذا بحثٌ أخر). إذ وُجد في قلب الإدارة اللبنانيّة تصوّرٌ قويّ لدولةٍ طموحة مبادِرة، يؤمن بمنافع توحيد التعليم كخطوةٍ نحو خلق مواطنيّةٍ لبنانيّةٍ جديدة. متى أخذنا هذا التوجّه بعين الإعتبار، يصبح من المستحيل تصوير إزدهار المدارس الخاصة كنتيجةٍ حتميّةٍ لـ”طبيعة” لبنان التعدّديّة، ويتضح أن سيناريو التعدّديّة المدرسيّة قد فُرض فرضاً إثر مواجهاتٍ متتاليةٍ مع المشروع الآخر الناشئ.
كيف[1] أتى ردّ فعل المؤسّسات الدينيّة في وجه هذا الحراك التربويّ الرسميّ؟
بدا القلق سيد الموقف في المقلب الآخر من التعليم في لبنان. فقد أنشئت “الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكية” في العام 1948، في سياق محاولةٍ لتوحيد الجهود أمام التحديّات المستجدة في دولةٍ حديثة الإهتمام بالأمور التربويّة. وكانت هذه الأمانة العامّة تهدف رسميّاً إلى “إستبدال المنافسة بين المؤسسات التعليميّة الكاثوليكيّة بالتعاون في ما بينها”[8]. وكما أكّد لنا أمينٌ عامٌّ سابقٌ للمدارس الكاثوليكيّة في مقابلةٍ معه، فإن هذا المنطق التوحيديّ هدف إلى “ضرورة التنظيم لضمان إحترام المادة العاشرة من الدستور” اللبنانيّ، التي تكرّس حقوق الطوائف في إنشاء مدارسها الخاصّة (“على أن تسير في ذلك وفقاً للأنظمة العامّة التي تصدرها الدولة”[9]). كما اندرج هذا التوحيد ضمن “مجهودٍ أوسع للدفاع عن حرية التعليم”. فلماذا السعي إلى الوحدة بغية الدفاع عن هذه الحرية إن لم يكن هناك شعورٌ لدى المؤسّسات الدينيّة بوجود تهديدٍ لمدارسها عبر انتشار المدارس الرسميّة، وفي الفكر الذي يخطّط لهذا الإنتشار؟
يظهر قلق الطوائف بشكلٍ كبير في رسالةٍ رعويّةٍ لأحبار الطوائف الكاثوليكيّة في لبنان، وجّهت سنة 1949، وتمّ فيها انتقاد الحراك التربوي للدولة منذ 1943 بشدّةٍ ووضوح[10]. فشجبت الرسالة “كلّ محاولةٍ تقوم أو قامت لتقييد حقوق العائلة والكنيسة في التربية، فالدولة حارسةٌ لحريات الأفراد لا سالبة، وعليها أن تعترف بسلطان الكنيسة وحقوقها”. وبينما “يزعم بعض الناس أن الدولة ينبوع كلّ الحقوق ومصدرها”، يبقى “هذا القول ضلالاً مبيناً”[11]. كما أن “التربية لا تناط ]بالدولة[ إلا في نطاقٍ محدود يتجاوزه حقّ العائلة والكنيسة”. وتضيف الرسالة:
“وإلا عدّ عملها ]الدولة[ إجحافاً وإحتكاراً، وكلّ إحتكارٍ للتربية والتعليم، بالطرق الإقتصاديّة أم الأدبيّة، يكره العائلات على طلب العلم في مدارس الدولة، ظلمٌ صارخٌ لا يقرّه الوجدان المسيحيّ والإنسانيّ. (…). فالتذرّع بمصلحة الوطن العليا، لحذف المدارس الخاصّة، أو الحدّ من نشاطها، بأيّ نوعٍ كان، لا يتلاءم مع تربية وطنيّة صحيحة تفترض قدسية النفس، وتصون الحريّة الشخصيّة كما أقرّها الدستور اللبنانيّ وشرعة حقوق الإنسان. هذه حقوق الدولة وتلك حقوق الكنيسة ولا تناقض بينهما. (…). وإذا قاومت الدولة، أو قيّدت بتدابيرها حرية العمل، فعلى الكاثوليك أن يهبّوا هبّة رجلٍ واحد، منظّمين صفوفهم وموحّدين قواهم للدفاع بكلّ وسيلةٍ مشروعةٍ عن حرية المدرسة وللحصول على تشريعٍ عادلٍ في التعليم”[12].
كما كان الأمين العام للمدارس الكاثوليكيّة إغناطيوس مارون قد أشار في العام 1951 إلى وجود “عقدةٍ شائكة” مستجدة في النظام المدرسيّ اللبنانيّ[13]. فسأل مارون إذا كانت المدرسة الرسميّة “ضرورةً لبنانيّة” وإذا كان الطفل اللبنانيّ “شيئاً تملكه الدولة”، منتقداً النزعة اللبنانيّة الحديثة إلى “تأميم كلّ شيء”، وأصحابها الذين يتناسون أنهم في لبنان. وفيما يدعو إلى استبدال التنافس الراهن وقتها وغير المنصف (بفعل عدم تكافؤ الإمكانيّات) بين المدارس الخاصّة والرسميّة بتعاونٍ بينهما، أيّ بين الدولة والطوائف، كان يحذر من “موجة العلمانيّة” التي تهدّد لبنان عبر التعليم الرسميّ:
“لقد اتخذ لبنان موقفاً من هذه النقطة ]التربويّة[ منذ عشر سنواتٍ فقط. الدولة اليوم تريد تجييش الشباب (…). لقد تكاثرت المدارس الرسميّة كالفطريّات، وقد تمّ طبعاً تخصيبها بأكثر الأسمدة خصوبةً، أيّ الأموال العامّة (…). نحن اليوم شهود على ابتعادٍ مؤلمٍ بين الذين يأمرون والذين يطيعون (…). الوحدة الوطنيّة لن تؤمَّن عبر إكراه القانون (…) والمدرسة الرسميّة العلمانيّة لا يمكن أن تناسب حاجات الشعب اللبنانيّ”.
إذاً، في بداية الخمسينيّات، بدا المشهد التربويّ متأزماً إلى أقصى حدّ. فمن جهة، حملت نخبةٌ من كبار الموظفين العامّين مشروعاً تربويّاً يريدون تطبيقه على كامل الأراضي اللبنانيّة عبر المدارس الرسميّة، كخطوةٍ على درب بناء الدولة الشابّة. ومن الجهة الأخرى، اعتبرت مدارسٌ خاصّة كاثوليكيّة أن تدخّل الدولة المتزايد في مسألة التعليم يشكّل مشروع استبدادٍ غير مقبولٍ سياسيّاً وتربويّاً. وقد تفاقم تأزّم هذا المشهد مع دخول أساتذة التعليم الخاصّ على الخطّ في مطلع الخمسينيّات، مطالبين الدولة بالتدخّل لحماية حقوقهم التي تهدرها المدارس الخاصّة – الطائفيّة.
حقوق معلّمي المدارس الخاصّة: حصان طروادة الدولة؟
في شباط 1956، لخّص وزير التربية آنذاك جورج عقل مسار قضية معلّمي المدارس الخاصّة عندما قدّم للمجلس النيابيّ مشروع القانون الهادف إلى تحسين ظروفهم[14]. وشرح الوزير أن مطالب هؤلاء المعلّمين تجد جذورها في الحراك الإجتماعيّ الذي نشأ في الأربعينيّات، عندما تحرّك العمّال اللبنانيّون لإنتزاع حقوقهم. إلا أن الأساتذة بقوا خارج هذا الحراك المطلبيّ ومنافعه، على عكس زملائهم في التعليم الرسميّ المحميّين بفعل انتمائهم إلى الوظيفة العامّة. ولم يكن عدد أساتذة القطاع الخاصّ هامشيّاً، إذ أنهم شكّلوا آنذاك أكثر من نصف الأساتذة في لبنان. كان جزءٌ كبيرٌ من الجسم التعليميّ يعاني إذاً من وضعٍ معيشيّ صعب.
وتحرّك أساتذة القطاع الخاصّ في العام الدراسيّ 1950 – 1951 مطالبين بتحسين ظروفهم وبالمساواة مع أساتذة التعليم الرسميّ. وكان الوضع القانونيّ لهؤلاء الأخيرين قد عرف تحسّناً كبيراً خلال الأربعينيّات، ما طفع بأساتذة التعليم الخاصّ للمطالبة بمعاملةٍ مماثلة. وقد أدّى هذا الحراك إلى إصدار قانون 27 آذار 1951 الذي شكّل إحدى أولى محاولات الدولة اللبنانيّة للتدخّل في شؤون المدارس الخاصّة عبر السعي لحماية حقوق أساتذتها (بعد المرسوم الإشتراعيّ رقم 212 تاريخ 31 آب 1942). بالإضافة إلى جملةٍ من التحسينات التقنيّة في أحوال المعلّمين، كرّس هذا النصّ مبدأ المساواة بين أساتذة التعليم الخاصّ وزملائهم في التعليم الرسميّ، علماً أن أساتذة المدارس الخاصّة المجانيّة لم يشملهم القانون الجديد. إلا أن مبدأ المساواة هذا لم يخلق مشكلةً إلا عندما أُقِرَّت مجموعة مراسيم تشريعيّة عام 1953 أعادت تنظيم الوضع القانونيّ للمعلّمين الرسميّين، ما حسّن ظروفهم بدرجةٍ كبيرة.
فتبعاً لمبدأ المساواة المكرّس سنة 1951، صار يتوجّب على المدارس الخاصة تأمين ظروف عملٍ مماثلة لأساتذتها، ما يرتّب عليها أعباءً ماليّة ضخمة من دون أيّ مساعدةٍ مرتقبة من قبل الدولة. وقد تجاهلت معظم المدارس الخاصّة مبدأ المساواة لهذا السبب الماليّ، فاستمرت على نهجها القديم. فأثار هذا الوضع موجةً جديدةً من التحرّكات المطالبة هذه المرة بتشريعٍ جديدٍ يُطَبَّق مباشرةً على معلّمي القطاع الخاصّ، يعطيهم المنافع التي حصّلها زملاؤهم في التعليم الرسميّ، ويشمل أيضاً أساتذة المدارس الخاصّة المجانيّة.
دفع هذا الحراك الحكومة إلى تقديم مشروع قانونٍ (مرسوم رقم 9105 في 30 نيسان 1955) إلى البرلمان هدفه تنظيم العلاقة بين المدارس الخاصّة وأساتذتها بشكلٍ “متوازن”، مثلما صرّح وزير التربية في الجلسة التشريعيّة بتاريخ 22 شباط 1956، أيّ عبر تحقيق جزءٍ فقط من مطالب الأساتذة. وبالفعل، وضع مشروع القانون أساتذة التعليم الخاصّ في وضعيةٍ متوسطة بين مكتسبات قانون 1951 وما يستفيد منه أساتذة التعليم الرسميّ بعد 1953. إلا أن اللجان النيابيّة عدّلت المشروع لصالح الأساتذة وباتجاه المساواة، واعتبرت شروط عملهم الجديدة المحسّنة متعلقة بالنظام العام ولا تقبّل أيّ نوعٍ من الإستثناءات.
أعادت اللجان النيابيّة التحسينات المُدخَلة على وضع المعلّمين إلى صلب المشروع، فترتّبت أعباءٌ ماليّة كبيرة على المدارس الخاصّة. وقد اعترف النوّاب بذلك في توصياتهم إلى الحكومة، فطالبوها بمساعدة المدارس الخاصّة على تحمّل تلك الأعباء. لمّا أقرّت اللجان مشروع القانون، انتقل إلى الجمعية العموميّة التي ناقشته بدءاً من العام 1956 تحت أعين مختلف الفاعلين في المساحة العامّة والإعلام، وفي أجواءٍ مشحونة بمطالب الأساتذة وبمخاوف المدارس الخاصّة، ولا سيما الكاثوليكيّة منها، تجاه التكاليف الماليّة التي ستتكبّدها بسبب ما تعتبره انحياز الدولة لصالح الأساتذة وتدخّلاً في شؤونها. وخلف ذلك كله، كان يدار صراعٌ حول مصير النظام المدرسيّ في لبنان، بين مؤيدي التعليم الرسميّ الموحّد ومؤيدي التعليم الخاصّ. وقد شكّل هذا الصراع الأخير قلبَ المواجهة التي كانت تتحضّر من خلال معركة حقوق المعلّمين.
إنطلاقاً من هنا، وبينما كانت سنة 1955 تنتهي على وقع هذه المطالبات والتشنّجات ممهّدةً لبدايةٍ مليئة بالصدامات للعام 1956، يمكن التركيز على نقطتين هامّتين:
- بغض النظر عن الآراء والمواقف المختلفة تجاه التعليم الرسميّ، أظهرت تطوّرات مطلع الخمسينيّات كيف أن المدرسة الرسميّة، بعد 10 سنواتٍ فقط على انطلاقتها الفعليّة في العام 1943، أصبحت المعيار الذي يُقاس على أساسه تنظيم المدارس الخاصّة وحقوق أساتذتها. فما هو عادلٌ أو غير عادل، مقبولٌ أو غير مقبولٍ حقوقيّاً واجتماعيّاً، صار يُقّيَّم نسبةً للتعليم الرسميّ ومؤسّساته وقواعده. هذا الواقع يدفعنا إلى إعادة النظر بمفهوم الدولة وممارساتها: فآثار الدولة نجدها حتى خارج حدود مؤسّساتها ومدارسها وسياساتها المباشرة الرسميّة، عبر معايير جديدة تفرضها بشكلٍ عابرٍ للمؤسسات الخاصّة – الطائفيّة والعامّة.
- بعكس رؤية المؤسّسات التربويّة الكاثوليكيّة التي قرأت المشكلة المدرسيّة عبر ثنائية الدولة والطائفة، وجدت نخب الدولة الشابّة نفسها أمام مساحةٍ مثلّثة الأبعاد. فبالإضافة إلى الثنائيّة المتصلة بالنظام المدرسيّ اللبنانيّ ومستقبله، والقائمة بين الوظيفة السياسيّة للمدرسة الرسميّة ووظيفة المدرسة الخاصّة، توجّب على المسؤولين الإداريّين والحكوميّين التعاطي مع بعدٍ ثالثٍ متّصلٍ بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية لفئاتٍ مهنيّة نظّمت نفسها بعد الإستقلال، ولا يمكن إدراجها خلف مصالح الطائفة. فكان على نخب 1955 أن تتحرّك بين حقوق الطوائف بالحفاظ على مدارسها (وهي حقوقٌ يعتبرها القيّمون على الطوائف أسمى من الدولة ومنظومتها الحقوقيّة وتواجَه بها الدولة، مثلما رأينا أعلاه)، وبين حقوق الناس بتعليمٍ يمكن الوصول إليه مهما كانت ظروفهم الإجتماعيّة وحقوق المعلّمين (وهي حقوقٌ في حالتي المواطنين والمعلمين لم تنوجد إلا مع نشوء الدولة، فيُطلب منها هي تكريسها وحمايتها).
أما كيفية تطوّر هذا النزاع التربويّ – السياسيّ بين المدارس الكاثوليكيّة، معلّميها، ونخب الدولة الجديدة في العام 1956، فهذا ما سنستكشفه في الجزء الثاني من البحث الذي ستنشره “المفكّرة القانونيّة” في عددها المقبل.
نشرت هذه المقالة في العدد |44|تشرين الأول/أكتوبر 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :
[1] يمكن الوصول إلى هذه الأرقام من خلال مجموعة أعمالٍ بحثيّةٍ حول التربية في فترة ما بعد الاستقلال، أنظر مثلاً:
ABOU-RJEILI (K.), L’école subventionnée, Thèse de doctorat, Beyrouth : Université Saint-Joseph, 1981, pp. 43-44.
[2] أنظر مثلاً بهذا الخصوص: أبو رجيلي، ص. ٤٦-٤٧.
[3] SABBAH (N.), L’évolution culturelle au Liban et la nouvelle orientation de l’école libanaise, Lyon : Imprim. Janody, 1950, p. 115.
[4] Baroudi (W.), Rapport sur l’enseignement au Liban, août 1941, cité et traduit par Sabbah, 1950 : p. 120.
[5] صباح، ١٩٥٠: ص. 128 و 133.
[6] في محاضرة ألقيت في 4 كانون الأول 1950 في الندوة اللبنانية، تحت عنوان: “النهضة الثقافية في لبنان”.
[7] وقد ألقاها صدقه في 22 شباط 1954. “محاضرات الندوة اللبنانية”، السنة الثامنة، رقم 5. وإن كان صدقه قد اعتمد خطاباً أكثر واقعيةً تجاه المدارس الخاصّة في العام 1954نسبة لمحاضرته في العام 1950، وسوف نعود إلى هذا التحوّل لاحقاً.
[8] أنظر :
“L’Église catholique et l’éducation”, texte présenté à la réunion patriarcale maronite, octobre 2004, p. 288.
[9] نصّ المادة العاشرة.
[10] تمكن مراجعة النصّ الكامل للرسالة في كتيّب ”الكنيسة والتربية: النصوص الرسميّة الصادرة عن الكنيسة الكاثوليكيّة في لبنان من 1736 حتى 1997″، بيروت: منشورات الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية، 2002، ص. 17-30.
[11] المرجع ذاته، ص. 23.
[12] المرجع ذاته.
[13] في محاضرة ألقيت في 19 شباط 1951 في الندوة اللبنانيّة.
[14] أنظر محاضر جلسة 22 شباط 1956 النيابيّة. تمكن أيضاً مراجعة أطروحة أبو رجيلي في هذا الخصوص، ص. 46.