يأتي صوت الخبير البيئي الدكتور ناجي قديح عبر الهاتف مصحوبا بضجيج وحركة. يضحك لدى سؤاله عن مكبات النفايات ال 33 في منطقة النبطية، والتي يتم حرق معظمها مرة على الأقل أسبوعياً، ليقول “خليني بمصيبتي، هذا الضجيج ناتج لأنني بصدد نقل عائلتي الآن إلى ضيعتي زوطر الشرقية (في قضاء النبطية) لقضاء الصيف، مع أنني أعرف أني، ومواطني المنطقة، لم نعد نجد الهواء النظيف الذي كنا نقصد ضيعنا في الأرياف من أجله”.
نعم هناك 33 مكب عشوائي للنفايات في منطقة النبطية، جالت المفكرة القانونية على عدد منها، فيما يؤكد قديح وجودها “أنا من أطلق الرقم بعدما تأكدت منه على الأرض، وليس مجرد تقدير”.
فرّخت المكبات العشوائية مع إقفال المكب الرئيسي في بلدة كفور والذي كان يستقبل نفايات المنطقة كلها. مكب كفور نفسه، وفيه آلاف الأطنان من النفايات على أنواعها، مشتعل بشكل مستمر منذ ما يقارب السنتين، ناشراً سمومه في المحيط ليؤثر على صحة الناس ونوعية الهواء الذي يتنشقون.
ينشر المكب القديم العائد لكفور، والمكبات الأخرى التي تشتعل دورياً، دخان نيرانها على قرى وبلدات القضاء متسببة بالأمراض التي يتفق رؤساء البلديات على ارتفاع نسبها في السنوات الأخيرة “السرطان عنا في ازدياد مستمر، وهو يصيب الأطفال وسن الشباب والمسنين ولا يستثني أحدا”، يقول رئيس بلدية الكفور سعد خضر ل”المفكرة”.
تبيّن الجولة في قضاء النبطية انطباق القول على الفعل والأرض. بينما يلفتك جمال المنطقة التي يعبرها نهر الليطاني في حوضه الجنوبي متدفقا ليزرع الإخضرار في أوديتها والحياة في حقولها وتلالها، تستقبلك مكبات النفايات العشوائية على فم أودية الليطاني تارة وفي أسفلها، بالقرب من مجراه، طوراً. ولتكتمل المأساة، تنتشر فوق المنطقة سحب من الدخان الناتج عن حرق هذه المكبات وفق ما يؤكد قديح “بعضها تشتعل فيه النيران بفعل الغازات المتراكمة والناتجة عن التخمير الطبيعي للنفايات المتكدسة، وهناك من يضرم النار عمداً في بعضها الأخر للتخلص من كميات النفايات”.
وتتطابق معلومات قديح مع ما يقوله الناس ل”المفكرة” في المنطقة، “معظم المكبات العشوائية الموجودة والعة دايما. وهناك مكب فرون على فم الليطاني ينشر دخانا مسما وقاتلاً كلما هبت فيه النيران ليلاً”. مع انخفاض درجة الحرارة وانتشار الندى الليلي “يصبح دخان النفايات أثقل من الهواء” يفسر قديح علمياً، وبالتالي لا يتبدد الدخان مع الهواء بل ينتشر في الأودية وبين منازل الضيع المجاورة لفرون. هناك لا يقوى أي من السكان على فتح نوافذ منزله ولا حتى “التمتع بجلسة صيفية على مصاطب الدور كما يفعل سكان الضيع”، وفق ما تقول مريم إسماعيل، التي لم تعد تهتم بالعودة إلى قريتها نهاية كل أسبوع كما السابق “هواء ملوث في بيروت وهواء ملوث بالضيعة”.
وتكمن الخطورة الأكبر لإشعال المكبات في نوعية النفايات المرمية. على المزابل العشوائية، وجدنا النفايات الطبية وبقايا أدوية وجيف حيوانات ونفايات مسالخ على أنواعها وكذلك نفايات المنازل وأخرى صلبة، حتى أن بعض القرى تفرّغ الجور الصحية لمراحيضها في برك أو مستنقعات قريبة من بعض المكبات أو ضمنها: “يرمى خليط غريب عجيب وخطر طبعاً” وفق ما يؤكد إبن المنطقة والخبير البيئي الدكتور ناجي قديح.
لم تبق خطورة المكبات العشوائية وإشعالها في أروقة البلديات وعلى ألسنة الناس في الضيع فقط. ها هو وزير الصحة غسان حاصباني يدق ناقوس الخطر في 5/2/2018 منبهاً مما يحصل في طول لبنان وعرضه. وبعدما استشهد بمنظمات صحية دولية وخبراء عدة، أكد حاصباني أن “حرق النفايات في الهواء الطلق يزيد احتمال الإصابة بأمراض الرئة بنسبة 200%، وأنه مع “كل زيادة 1٪ من الجسيمات الناتجة عن الحرق وتلوث الهواء يزيد احتمال الإصابة بسرطان الرئة بنسبة 14%”، لافتاً إلى أن المواطنين “الذين يعيشون في المناطق الملوثة يتعرضون لزيادة في نسبة الوفاة بسرطان الرئة بحدود 20٪، وأن إنبعاثات ثاني أوكسيد الكاربون في الجو (ينتج عن الحرق) تتسبب ب 40% من وفيات مرضى القلب والسرطان في لبنان”.
ولا يقتصر تأثير هذه المكبات على ما تتسبب به حرائقها من دخان قاتل وملوث، بل تتعداها إلى تسرب عصارة النفايات إلى المياه الجوفية والينابيع ومجاري المياه السطحية، ومعها مياه الصرف الصحي والتي تشكل مصدر مياه الشفة في كل لبنان. وقال وزير الصحة أن 110% هي نسبة زيادة سرطانات الجهاز الهضمي بسبب شرب المياه الملوثة.
وربط حاصباني بين التلوث في لبنان عامة، وبين تأثير النفايات وحرقها وارتفاع احتمال الإصابة بأمراض السرطان من 100 حالة لكل 100 ألف مواطن عام 2006 إلى 300 مصاب لكل 100 ألف مواطن عام 2016.، مؤكداً تسجيل 13 ألف إصابة جديدة بالسرطان في العام 2013.
وقال وزير الصحة أن التلوث الذي يقتل المواطنين، يرفع أيضاً الكلفة الإقتصادية لعلاجهم على نفقة وزارة الصحة التي بلغت 53 مليون دولار في العام 2017 بارتفاع 12% عن العام 2016. طبعا من المعلوم أن نصف الشعب اللبناني يستفيد من تغطية صحية من الجهات الضامنة غير وزارة الصحة (ضمان وتعاونية موظفي الدولة والألوية الطبية العسكرية وصناديق التعاضد) وشركات التأمين الخاصة، وهذا يعني أكثر من خمسين مليون دولار أخرى تدفع بدل علاجات للسرطان كل عام غير مساهمات وزارة الصحة، فتتخطى الكلفة المئة مليون دولار سنوياً.
يقول الدكتور ناجي قديح أن من الطبيعي أن تؤثر المكبات العشوائية وحرقها وسوء إدارة النفايات على صحة الناس، مشيراً إلى أن وزارة البيئة اعترفت في أكثر من مناسبة بوجود 941 مكب نفايات عشوائي في لبنان. ويؤكد أن الرقم أكبر من ذلك إذ يتجاوز 1350 مكباً عشوائياً. ويقول أن غالبية هذه المكبات تحرق في الهواء الطلق بمعدل مرة واحدة في الأسبوع على الأقل.
من جهة ثانية، ودلالة على حجم المحارق التي تشتعل في مكبات النفايات نقلت منظمة هيومن رايتس ووتش عن الدفاع المدني أن عناصره استجابوا ل استجابوا لـ 3612 بلاغ حرق نفايات في الهواء الطلق منذ بداية الأزمة وحتى 30 حزيران 2017 في بيروت وجبل لبنان و814 في باقي المناطق.
اتحاد بلديات الشقيف
يضم اتحاد بلديات الشقيف العديد من البلدات التي ترمي نفاياتها في مكيات عشوائية وتشتعل النيران في معظمها أسبوعياً. يعتبر رئيس الاتحاد محمد جابر أن “كل بلدية مسؤولة عن مكبها”، مشيراً إلى أنه “كان هناك معمل لفرز وتسبيخ النفايات في منطقة الاتحاد، وتم إنشاؤه في بلدة الكفور”. المفكرة زارت المعمل في وادي منطقة الكفور حيث توقفت جميع آلياته، ومن بينها ما لم يتم استعماله مطلقاً، فيما تنتشر رائحة كريهة جداً في المكان. وتعج أرض المعمل بعصارة النفايات المتروكة وبتجمعات لنفايات يبدو أنها نقلت حديثاً إلى المكان رغم إقفال مدخله بإحكام بحاجز حديدي يمنع دخول الآليات المحملة بالنفايات.
وأسوأ ما يبينه معمل الكفور وجود قناة لا تقل سعتها عن نحو عشرين إنشاً من مياه الصرف الصحي التي تجري نحو الأودية الأخرى ناشرة الروائح والتلوث من حولها.
يرد جابر في حديث ل”المفكرة” إيقاف تشغيل المعمل إلى “عدم وجود مطمر للمتبقيات الناتجة عن فرز النفايات”، ليؤكد “أن الاتحاد يستمر في جمع النفايات، ويطلب من كل بلدة تأمين مطمر خاص فيها وضمن أرضها”. ويرى أن المكبات تنتشر عشوائياً بسبب عدم وجود بديل: “فهل نترك النفايات بين المنازل ولتغرق الشوارع؟”
ويرى أن المسؤولية تبدأ من المواطن الذي يمكنه أن يفرز نفاياته البيتية بوقت جد قصير، ثم البلديات، ” لكن المسؤولية الأساسية تقع على الدولة التي يجب أن تضع استراتيجية وطنية متكاملة لحل مشكلة النفايات وتأمين آلياتها في كل لبنان”.
يقع المعمل الذي موله الاتحاد الأوروبي في بلدة الكفور وكان يمكنه استيعاب فرز وتسبيخ معظم نفايات المنطقة. يعيد رئيس بلدية الكفور خضر سعد في حديثه ل “المفكرة” إيقاف تشغيله لأنه “لم يشتغل من الأساس بطريقة صحيحة، ولم يكن الفرز يجري بطريقة تمكن المعمل من أداء مهامه بشكل سليم وفعّال”. ويصف سعد المعمل المتوقف عن العمل بأنه من” أفضل معامل فرز النفايات، وبيطلع منه حديد وكرتون ونسبة قليلة من المتبقيات، وهو يعالج التسبيخ أيضاً وقد كلف مبالغ كبيرة”.
ينفي سعد أن تكون البلديات تعمد إلى حرق المكبات العشوائية “ما فينا نترك النفايات بالشوارع ولذا نردمها في المكبات، والحل الكامل هو مسؤولية الدولة”. مضيفاً “لا ما في حرق كل ضيعة عم تدمله …كحل مؤقت لأنه ما فينا نترك النفايات بالشوارع”. ولكن إذا كانت كل البلديات لا تشعل النيران في مكباتها، حيث أن كل رؤساء البلديات ينفون حرق مكباتهم، فمن أين يأتي ذلك الدخان الذي غالباً ما يغطي منطقة النبطية؟ فلا يمر أسبوع من دون أن يشكو سكانها مع محيطها من دخان الحرائق الذي يقتحم صدورهم قبل بيوتهم.
ورداً على سؤال عن مكب كفور القديم المشتعل منذ سنتين، يؤكد سعد أن البلدية “كلفت الخبير البيئي الدكتور ناجي قديح إعداد دراسة عن كيفية حل هذه المشكلة وتحويل المكب إلى حديقة أو على الأقل تشجيره وإيقاف سمومه عن المواطنين”. ولتنفيذ خطة قديح، رفعت بلدية الكفور كتاباً إلى المدعي العام البيئي في النبطية للسماح بإعادة فتح المكب لمعالجته “وقد جهزنا كل الأوراق التي طلبت منا للحصول على الإذن”، يؤكد سعد.
الحل وفق الواقع
يرجع قديح اشتعال مكب الكفور بصورة دائمة إلى الغازات الناتجة عن تخمر هذا الكم من النفايات (عشرات آلاف الأطنان)، مشيراً إلى أن دخان نيرانه يخرج من نوافذ التهوئة التي تنفتح تلقائياً من داخل المكب مع الوقت وبتأثير الاشتعال”.
وينطلق قديح من متابعته من معمل الكفور الذي كان يستقبل نفايات كل المنطقة وأقفل، ليقول “لم يكن يتم تشغيل المعمل بطريقة صحيحة والشركة يلي كانت ملتزمة بتشغيله، لا علاقة لها بإدارة النفايات”. ويعطي قديح مثالاً على سوء التشغيل الذي أدى إلى إقفال المعمل ب “أنه كانت ينتج 80% متبقيات غير قابلة لأي نوع من التدوير (أو ما يسمى نتيجة خطأ شائع عودام) وهذا يدل على عدم الاستفادة من قدرات المعمل كونه مجهزا بكل ما يلزم ليؤمن فرزاً جيداً وكذلك التسبيخ، ولكي لا ينتج أكثر من 25% متبقيات غير قابلة إلا للطمر وبطريقة صحية”.
ويرى قديح أن الحل يكمن في إعادة تلزيم المعمل بطريقة شفافة ومهنية وعلمية لجهة لديها خبرة في تشغيلها “إذ لا يمكننا التعاقد مع عمال غير مؤهلين لهكذا نوع من العمل والقول أننا أمنا اليد العاملة اللازمة للتشغيل”. والحل المتكامل يكون، وفق قديح، بقيام كل بلدية بفرز نفاياتها، وبتشغيل العمل بطريقة فعالة، وبإنشاء مطامر صحية للمتبقيات وإعادة تدوير كل ما يمكن من نفايات عضوية ومعادن وبلاستيك وورقيات طبعاً”. لكن هذا هو لبنان “العالم تريد حلاً بشخطة قلم وترى في المحارق هذا الحل متغاضين عن مضارها وأثر كل إهمال ملف النفايات على صحة الناس والذي بدأ يتمظهر بأقسى حالاته في السنوات الأخيرة”.
- نشر هذا التحقيق في العدد 55 من مجلة المفكرة القانونية، للاطلاع على العدد انقر/ي هنا: مناطق الموت في لبنان