أصدرت الهيئة الجديدة للمجلس الدستوري في 12 أيلول 2019 قرارها الأول رقم 4/2019 في الطعن المقدم بقانون الموازنة. ومن خلال مراجعة مضمون القرار نلاحظ أنه جاء مسهبا في التعليل بعدما كانت سمة الاقتضاب هي السائدة في ظل المجلس السابق. وبالفعل قرر المجلس الدستوري إبطال مجموعة كبيرة من المواد لا سيما تلك التي اعتبرها ماسة باستقلالية السلطة القضائية المكرسة في المادة 20 من الدستور.
ومن دون التقليل من أهمية حيثيات القرار بشأن تلك المواد، سنحصر مقالنا هنا بما تناوله القرار بشأن المادة 80 من الموازنة التي تتعلق بحفظ حقوق الناجحين في المباريات بتعيينهم بالأفضلية في الإدارات العامة، والتي أثارت جدلا سياسيا واسعا بسبب اعتبار البعض أنها “غير ميثاقية” كونها لا تحترم المناصفة بين المسيحيين والمسلمين وتخل بالتوازن الطائفي. وقد تعرّض بشكل خاص لهذه المسألة رئيس الجمهورية في الكتاب الذي أرسله في تموز 2019 للمجلس النيابي طالبا منه تفسير المادة 95 من الدستور بشأن كوتا الطوائف في الوظائف العامة.
فقد أعلن المجلس الدستوري في موقف شديد الاستغراب أنه قرر عدم التصدي لدستورية المادة 80 أي أنه استنكف عمدا عن النظر فيها بعدما ذكر بأن رئيس الجمهورية طلب في رسالته إلى المجلس النيابي تفسير المادة 95 من الدستور التي تتعلق بالتمثيل الطائفي في وظائف الدولة وبعدما وضع المجلس النيابي “يده على الموضوع”. وما يزيد من موقفه قابلية للانتقاد هو أنه اعتبر صراحة أن المادة 80 من قانون الموازنة هي مخالفة للدستور. وقد بدا المجلس الدستوري وكأنه يحقق من خلال قراره تسوية سياسية قوامها إرضاء رافضي هذه المادة من خلال إعلان عدم دستوريتها، وفي الآن نفسه إرضاء مؤيدي هذه المادة من خلال الامتناع عن إبطالها.
ان موقف المجلس الدستوري هذا هو بمثابةانتحار قانوني كونه يؤدي بكل بساطة إلى رفع يد المجلس الدستوري عن كل موضوع تقرر السلطة السياسية إحالته إلى المجلس النيابي بحجة “تفسير الدستور”. وتداعيات هذا القرار هي خطيرة جدا لأن المجلس يكون بذلك قد تنكر لصلاحياته بتفسير الدستور حتى في معرض رقابته على دستورية القوانين كما جاء في قرار سابق له إذ اعتبر صراحة أنه “يعود للمجلس أن يفسر الدستور في معرض إعمال رقابته على دستورية نص تشريعي ما لتحديد مدى انطباق هذا النص على أحكام الدستور…” (قرار رقم 4 تاريخ 29 أيلول 2001).
ولا تقف نتائج هذا الموقف المستغرب على تحويل المجلس الدستوري إلى مؤسسة رديفة ومستلحقة بالقرار السياسي الذي يستطيع منع المجلس من ممارسة اختصاصه كلما قرر مجلس النواب وضع يده على مسألة ما، بل أيضا شكل هذا القرار اعترافا ضمنيا بحق مجلس النواب بتفسير الدستور بغالبية عادية ونصاب عادي ما يهدد بالإطاحة كليا بمبدأ سمو الدستور. وكي نشرح مدى خطورة هذا الأمر لا بد لنا من شرح سريع لنظرية التفسير كما يعرضها لنا هانس كلسن في كتابه المرجعي “النظرية المحضة للقانون”.
يميز كلسن بين التفسير العلمي (interprétation scientifique) والتفسير الأصلي (interprétation authentique). فالتفسير العلمي أو الفقهي هو التفسير الذي يصدر عن فرد أو جهة معينة لكنه بغض النظر عن قيمته العلمية غير ملزم. أما التفسير الأصلي فهو التفسير الذي يصدر عن جهة خولها القانون تفسير النص. فالمحاكم مثلا في معرض تطبيقها للقوانين تقوم بتفسيرها وهي تستطيع فرض هذا التفسير بصرف النظر عن مضمونه. فالتفسير الأصلي لا يكترث بالمضمون بل هو فقط ينظر الى الجهة التي تبنته وهل هي مخولة قانونا لفعل ذلك. فالنص الذي جرى تفسيره بشكل أصلي لا يمكن له أن يحتمل اي تفسير مغاير للتفسير الذي صدر عن الجهة المخولة قانونا بذلك حتى لو جاء هذا التفسير غريبا جدا أو كان مخالفا لرأي غالبية فقهاء القانون. فالتفسير الأصلي ينتج مفاعيل قانونية بينما التفسير العلمي لا مفاعيل قانونية له.
فلو كان من الممكن أن يقوم مجلس النواب وفقا لصلاحياته التشريعية العادية بتفسير الدستور لكان ذلك يعني أنه يستطيع تفسيره بغالبية عادية ونصاب عادي دون احترام الشروط المشددة التي يفرضها الدستور من أجل تعديله، ما يخل بمبدأ سمو الدستور الذي يعتبر حجر الزاوية في كل النظام القانوني القائم في لبنان.
لذلك عندما يجتمع مجلس النواب لتفسير المادة 95 من الدستور فهو لا يقوم بتفسير أصلي كون الدستور لا يخوله هذه الصلاحية، بل هو يقوم بتفسير علمي غير ملزم كون تفسيره هذا لا وجود له خارج محضر الجلسة التي تم عقدها والمحاكم على اختلافها غير ملزمة قانونا بما تم اقراره في مجلس النواب. وعليه، إن لاعتبار مجلس النواب بغالبيته العادية الجهة المخولة بتفسير الدستور نتائج خطيرة جدا كونه يسمح لغالبية الحضور بتقديم تفسيرات تختلف وفقا لتقلب المصالح والأهواء، بحيث يصبح الدستور خاضعا كليا لنظام التوافق السياسي القائم في لبنان ما يجرده من حصانته الفعلية ويعزز سلطة الطبقة الحاكمة. فلمجلس النواب أن يناقش ويعطي التفسير الذي يشاء للدستور لكن هذا لا يعني أنه الجهة الوحيدة والحصرية المخولة بإعطاء التفسير الأصلي الملزم للدستور.
ختاما، يجدر التذكير بأن الدستور منح المجلس الدستوري صلاحية مراقبة دستورية القوانين (مادة 19) ما يعني أنه منحه حكما صلاحية تفسير الدستور في معرض رقابته هذه. وهذا يعني أن المجلس الدستوري هو الجهة المخولة لتقديم التفسير الأصلي للدستور وذلك فقط في معرض رقابته على دستورية القوانين. وعليه، يشكل موقف المجلس الدستوري موقفا مستهجنا وهو يفيد تخليا عن مسؤوليته االدستوري وتنكّرا للحماية التي يجب عليه أن يوفرها للمواطنين عبر حرصه الدائم على ضرورة احترام السلطة التشريعية للضمانات التي يوفرها الدستور لهم. وهو أيضا أعلن انسحابه التام من كل قضية تقرر السلطة السياسية إحالتها إلى مجلس النواب، مقرا أنه لا يحق له تفسير الدستور خلال رقابته لدستورية القوانين بانتظار ما يقرره مجلس النواب. وهكذا تكون الهيئة الجديدة للمجلس الدستوري قد أرسلت في أول قرار لها إشارة غير مطمئنة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.