تتجول د. في الفيزياء سمر نجار، في طرقات بلدتها فيع بهدف إنجاز دراسة علمية عن انتشار مرض السرطان في الكورة. ترفع نجار، وهي الأستاذة في جامعة البلمند في المنطقة، يدها وتبدأ بالتأشير على البيوت المنكوبة بالسرطان: الدراسة تعتمد على عينة كبيرة وما زالت قيد الإنجاز. إلا أن نجار سمحت ل “المفكرة” بنشر بعض معطياتها الأولية ومفادها أنه من بين 15 بيتاً زارها فريق عمل الدراسة في فيع، تبين وجود 11 إصابة بالسرطان: نسبة تفوق كل النسب في لبنان من أقصاه إلى أقصاه. تلتقي فقط مع نسب السرطان في حوض الليطاني، وهي من ثلاثة إلى خمسة أضعاف المعدل العام في البلاد.
المعطيات الأولية للدراسة التي تشارك فيها نجار تتواءم مع معطيات توثيق نشرتها هيئة حماية البيئة والتراث في الكورة وجوارها، مستندة إلى سجلات الوفيات لدى رجال الدين على مدى 30 عاماً. يقول رئيس الهيئة المهندس رفعت سابا ل “المفكرة” أن نسبة السرطان في فيع وحدها تبلغ 31%، وكانت وصلت في 2005 لحدود 48.4%.
خطر السرطان وقفٌ على القرب من الشركة
تعتمد الدراسة التي تشارك فيها نجار على معيار قرب البلدات وإشرافها على شركات الترابة. وبمقارنة بلدات الكورة فيما بينها وفق هذا المعيار، يتبين أن الإصابات بالسرطان في كوسبا، إحدى أهم بلدات الكورة الداخلية البعيدة عن شركات الترابة، لم تتجاوز إصابتين في السرطان في 15 بيتاً، أي ما يقل خمس مرات عن الإصابات الحاصلة في فيع التي تطلّ على المنطقة الصناعية في شكا.
وبالرجوع إلى الذاكرة، يسجل أن الكورانيين كانوا يحسدون أهل فيع لطلتها المميزة على البحر، حيث تتربع فوق وادٍ لا يمكن لأي عمران أن يطاله، وبالتالي أن يحجب عنها البانوراما البحرية الجميلة، ولا هواء البحر الذي يصلها عليلاً. قرية ريفية بمنازل حجرية قديمة تطل على البحر، هي أجمل ما كانت تفخر به فيع مع أحراجها الخضراء.
موقع فيع الجميل تحول مع تنامي شركات الترابة إلى سبب لمأساتها. أحصى كاهن فيع الخوري سمعان حيدر لوحده نحو 75 حالة وفاة بالسرطان من أصل 79 وفاة في بلدته، “أي أنّ السرطان طال كل منزل تقريباً”. يروي الأب سمعان ل “المفكرة” أنه قال لمحافظ الشمال: “سعادتك الجمرة ما بتكوي إلاّ محلها، مات أخوتي الثلاثة بالسرطان وكذلك زوجتي التي أتيت بها من الجنوب”. “يعني القصة مش وراثة” يضيف بحزن بالغ. ويؤكد الخوري الذي تأتيه الناس تطلب إليه أن يصلي لشفاء المرضى على إصابة “أولاد عمرهم 3 و4 سنوات بالسرطان وكذلك شباب وكبار. يعني مش عم يوفر حدا”. يقول خوري فيع أنه “يحمّل المسؤولية للمسؤولين الساكتين عن قتلنا، إذا كان هناك مسؤولين”.
في فيع يضطر السكان إلى إحكام إغلاق نوافذهم بعيدان الخشب والمسامير. لم يعد هواء وادي فيع يحمل رائحة الإجاص وتين الوادي وزهوره البرية ولا السنديان، بل صار يصلهم مشبّعا بسموم الكبريت والغازات الأخرى المنبعثة من شركات الترابة.
ومن تجربته من العمل كطبيب أمراض سرطانية في مستشفى الروم وكطبيب في الكورة على مدى عشر سنوات، يلاحظ الطبيب باسم قبرصي ل “المفكرة”، وهو متابع لشركات الإسمنت، ومتخصص في الأمراض السرطانية التزايد المستمر في الإصابة بها: “مع الوقت أثبتت الأرقام التي تلمسناها زيادة كبيرة بهذا المرض”.
وبعدما يتوقف عند سعي الشركات تحميل السرطان المنتشر للإترنيت وحده، يقول قبرصي “معهن حق بالنسبة لسرطان غلاف الرئة، وهو من الإترنيت تحديدا، وطلع معنا 14 حالة من أصل مية سرطان، بينما لازم يكون 0.5%. ويضيف “عدنا وفصلنا الرئة كسرطان عن سرطان غشاء الرئة، وطلع معنا أربعين حالة سرطان رئة، وليس غشاء الرئة”، ليستنتج “وطبعا هذا من الشركات وإن كان للدخان دور أيضاً”.
نسبة السرطان في عفصديق 36%
عفصديق جارة فيع لديها مأساتها أيضاً. تقول أم طوني، والدة خوري عفصديق أنطوان ملكي، أن غبار مقالع الشركات التي تتغلغل بين البيوت وعلى مشارفها، قتل زوجها: “إبني لمن أخد تقرير وفاة والده، قال الطبيب من الغبرة”. كان زوجها “متل الأسد آكلة منه الشمس قد ما بيشتغل بالأرض على مدى تلاتين سنة وما بيدخن. مرض فجأة بالرئة. وانفقد الأوكسيجين منه وعاش ع الآلات أربع سنين”. قطع الخوري شجر السرو من على مصطبة الدار لأنها كانت تعشعش بالغبار: “كان أبوه يقعد تحتهن، فكر إذا قطعهن بيردّ الموت عنه”.
هربت عائلة الخوري من بشمزين بسبب الغبار الذي كانت تنشره الشركات من مقالع التراب الأحمر في سهل الكورة. الشركات لم تأخذ وقتا طويلاً حتى لحقت بهم “كل يوم منكنّس منلاقي ترابة. قومي صوري الفيترين (الشرفة)، صرلي ساعة ماسحة غبرتها”، تقول أم طوني التي تعيش قلقاً عميقاً على أولادها وأحفادها من المرض: “أنا مش فارقة معي بعد ما مات رب البيت”.
منى ملكي، وهي عضوة مجلس بلدي سابق، تعاني أيضاً من حساسية في الجهاز التنفسي والعيون وضعف في نسبة الأوكسيجين “بصير بحس بالإختناق، وأوقات بيختفي صوتي، وكتير ناس متلي”.
يقول خوري عفصديق أنطوان ملكي أن نسبة الإصابة بالسرطان في بلدته تلامس 36% من الوفيات “هيدا تقرير عملناه مع اتحاد بلديات المنطقة، صار لي خوري 21 سنة، يعني أنا يلي بجنز لبيموتوا من السرطان وبصلي للمصابين به”. يقول ملكي “الضرر المباشر من الشركات كان الدخان، وفيه خليط من أسيد السيلفيريك وانبعاثات أخرى. كنا ننشر غسيلنا فنجد عليه نقاطاً سوداء. نضع عليها الماء لغسلها فتتحول إلى ثقوب في الألبسة”، ليسأل “ماذا تفعل في الرئة إذن؟ ونحن نتنفس هذه الإنبعاثات”.
صحة الناس كجهاز قياس
أهل المنطقة ليسوا بحاجة لآلات بل يعيشون الأزمات الصحية من ربو وسرطانات على أنواعها وأمراض صدرية أخرى. يتساءل أهل الكورة عن السبب الذي يجعل وزارة الصحة تمتنع عن نشر نسب الإصابات بالسرطان المصنفة حسب المناطق اللبنانية. فالتصنيف معروض على صفحتها في جداول حسب أنواع السرطان والجنس والعمر، من دون الإشارة إلى كيفية انتشاره جغرافيا.
الأمر لا يخفى على أحد. فهم يخفون نسب السرطان في حوض الليطاني والكورة، وهي أضعاف المعدل العام في البلاد، تهربا من إثبات مسؤوليات الجهات الرسمية والسلطات والأطراف المشاركة بها عن قتل الناس ومعها الشركات والمصانع الملوثة.
نشر هذا المقال في العدد | 58 | كانون الثاني 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
الكورة في فم التنين: من رخّص بالقتل؟