أصدرت محكمة الجنايات في مدينة caen الفرنسية في تاريخ 8/11/2021 حكماً غيابياً بسجن الأب منصور لبكي 15 عاماً على خلفية إدانته بجرائم الاغتصاب والتحرّش الجنسي بحق قاصرات. يعيد هذا الحكم فتح قضيّة كانت موضع نقاش طويل وهي تأتي ضمن سعي الكنيسة الكاثوليكية إلى كسر الصمت عن ممارسات البيدوفيليا في الكنيسة ومكافحتها. ويكتسي هذا الحكم أهميّة خاصّة في لبنان، في فترة تشهد تجاذُباً عامّاً حول الحصانات، طالما أنّه يمهّد لإسقاط حصانة معنوية طالما استفاد منها رجال الدين وأصحاب النفوذ داخل السلطات الطائفية. وقد أمكن الحكم على لبكي بالجرائم المذكورة في فرنسا بعد أن باتت قوانينها تعتبر جرائم البيدوفيليا غير قابلة للسقوط بمرور الزمن. وفي حين قد يستأنف لبكي الحكم الصادر بحقه أو يعترض عليه، فإنّ تنفيذه سيلقى صعوبات بنتيجة عدم جواز تسليم المواطنين اللبنانيين لدولة أجنبية.
وتعود فصول القضية إلى العام 2013 حين صدر حكم كنسيّ عن محكمة الفاتيكان بحقّ لبكي على خلفية قضايا اغتصاب وتحرّش بقاصرات في فرنسا، انتهى إلى منعه عن إقامة مراسيم كنسيّة عامّة أو التواصل مع قاصرين والانصراف إلى الصلاة. وما أنْ انتشر خبر صدور الحكم في لبنان حتى سعتْ مراجع كنسية وحكومية إلى احتوائه. وقد سُجّل بشكل خاصّ في هذا الصدد بيان لمطرانية بيروت المارونية حذّر من التداول في القضية إعلامياً أو قضائياً باعتبار الموضوع من اختصاص الكنيسة حصراً. كما أعلن وزير العدل الأسبق شكيب قرطباوي أنّه لا يريد الدخول في موضوع يتعلّق برجل دين، رغم فداحة الارتكابات المساقة بحقّه. وقد ارتفع لاحقاً سقف الحماية الممنوحة للبكي إلى رأس الكنيسة أي البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي اعتبر في العام 2016 أنّ حملة تجنٍّ تُشنّ على لبكي “تحمل الكثير من الكذب”، وقد تقاطع ذلك مع دعوى سبق وتقدّم بها وكلاء لبكي أمام قاضي التحقيق في جبل لبنان بحقّ جميع الذين ادّعوا أنّهم ضحاياه ومنهم من ادّعوا أو شهدوا ضدّه في الفاتيكان فضلاً عن كهنة في فرنسا والفاتيكان، وذلك بتهمة شهادة الزور وتأليف جمعية أشرار. وقد بدا واضحاً أنّ تلك الدعوى التي لم يقم وكلاء لبكي بأي مسعى لمتابعتها قُدّمت فقط لحاجات الاستهلاك الإعلامي المحلّي من خلال استخدامها لتبيان عدم التسليم بالتهم الموجّهة ضدّه وفي الآن نفسه لترهيب الضحايا لمنعهم من متابعة الملف.
ويلحظ أنّ قاضي التحقيق السابق في جبل لبنان بيتر جرمانوس الناظر في الدعوى المذكورة في 2014 قرّر بداية ردّ الشكوى لانتفاء الصلاحية على أساس أنّ قوانين الكنيسة وأحكام الدستور اللبناني الذي حفظ حقوق الطوائف لإدارة الشؤون المرتبطة بها، يجعلها صاحبة الصلاحية الحصرية للبتّ في مثل هذه الشكوى ومشتقّاتها أياً تكن ومن أي جهة أتت. وقد آل قرار جرمانوس بالنتيجة إلى رفع يد القضاء عن النظر في ادّعاء لبكي ضدّ المدعى عليهم، بعدما حصّن الكنيسة وسائر الطّوائف إزاء أيّ مساءلة مستقبلية. وإذ تمّ الطعن من وكلاء لبكي في هذا القرار، انتهت الهيئة الاتّهامية في جبل لبنان في العام 2016 إلى استبعاد الأجانب (منهم كهنة فرنسيون وكهنة من الفاتيكان) عن الدعوى عملاً بقواعد الاختصاص الإقليمي. وهو بذلك فسخ القرار الابتدائي ليحصر الدعوى باللبنانيين دون سواهم. وبذلك، يكون القرار قد انْحاز في تعليله إلى تحرير القضية من تأثيراتها الخارجية وما قد تثيره من ردود أفعال في فرنسا والفاتيكان ليحوّلها إلى قضية لبنانية بحتة، قضية تصبح إذ ذاك أكثر قابليّة للتدخّلات.
ختاماً، يُشار إلى أنّ منتهى الحكم الفرنسي هو فرض حقيقة قضائية جديدة من شأنها أن تدحض حجّة لبكي حيال ضحاياه وتثنيه مع مؤيّديه وأنصاره عن مزيد من التنمير والتحامل والافتراءات بحقّهم. ومن هنا السؤال متى يطلب لبكي الصّفح منهم؟
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.