ذكر الإتحاد الدولي للمساعدة القانونية (آيلاك) في تقريره لعام 2013 عن سيادة القانون في ليبيا أن كليات القانون تخرج عدداً كبيراً من الطلاب، لا يصلح معظمهم لأن يكونوا محامين، أو قضاة، أو أعضاء نيابة عامة. وقد رصد عدداً من المشاكل التي أدت إلى هذه النتيجة، ومنها كثرة أعداد الطلاب؛ واعتماد طرق تدريس تقليدية ترتكز أساساً على المحاضرات النظرية، مقابل إهمال تقنيات التدريس التفاعلية. ولم يفتْ معدّو التقرير أن يشيروا إلى المشاكل المتعلقة بالمكتبات. ونقلوا عن أحد مستشاري الإتحاد الأوروبي تقويمه لمكتبة كلية القانون بجامعة طرابلس، والمتلخّص في فقر محتوياتها من الكتب والدوريات، وسوء موقعها. كما ذكروا أيضاً أن الجامعة لا توفر لأعضاء هيئة التدريس خدمات الإنترنت، ولا تمكنهم من استعمال محركات البحث القانوني.[1]
لا أتوقع إختلافاً حول أهمية تعرض التقرير لدور كليات القانون في تعزيز مبدأ سيادة القانون، وتخصيصه قسماً لتقويم هذا الدور، ولكن قد نختلف مع تقويمه لجودة التعليم الذي تقدمه كليات القانون. وسأبين في هذا المقال لماذا أتفق مع هذا التقرير في خلوصه إلى أن عدداً كبيراً من خريجي هذه الكليات يتسم بضعف التكوين، وهي في الواقع قناعة يشاركني فيها العديد من القائمين على التدريس في هذه الكليات. وسأتعرض في بياني لمكونات العملية التعليمية من معلم ومتعلم ومادة تعليمية، وكيف أنها قد تأثرت بسياسات النظام السابق في مجال التعليم الجامعي، وإن كانت سلطات ما بعد ثورة فبراير لم تقم بجهد كافٍ لمعالجة اختلالات هذا التعليم.
لم تكن كلية الحقوق أولى كليات الجامعة الليبية إنشاءً، ولكنها كانت أقدم بكثير من نظيراتها في دول عربية أخرى. فقد أُسست عام 1962، وكانت حينها قبلة لأساتذة كبار أتوا من جامعات عربية عريقة مثل عوض محمد وزكي الدين شعبان ومحسن الشيشكلي، ولا زالت كتبهم ومقالاتهم حول القانون الليبي تشهد بأثرهم. وقد انضم إليهم لاحقاً أساتذة ليبيون اختيروا من أوائل الطلاب، وابتعثوا لاستكمال دراساتهم العليا، وقد كانت فرنسا وإيطاليا من أهم الوجهات. وقد روي عن عميد كلية الحقوق في أوائل عهدها، الأستاذ إبراهيم المهدوي، أنه كان يصر على أن ينال مبتعثو كلية الحقوق درجات الماجستير والدكتوراه قبل عودتهم، خلافاً لمبتعثي كلية الآداب الذين كان يطلب منهم العودة للتدريس بعد نيل الماجستير قبل إيفادهم مجدداً لنيل الدكتوراه.
ثم أصبح الحال غير الحال. فلم تعد ليبيا وجهة للمتميزين من غير الليبيين. واقتصر القدوم، في غالب الحالات، على غيرهم من غير منتسبي السلك الجامعي، ومعظمهم يفتقر إلى ما ينتظر من الأستاذ الجامعي. وقد تكمن أسباب هذا العزوف في ضعف الحوافز المادية، واضطراب أحوال الجامعات الليبية في عهد الإدارة الطلابية وما بعده، وظهور جامعات أكثر جاذبية، في الخليج تحديداً. بالطبع كانت هناك استثناءات، ومثالها أساتذة عراقيون أكفاء قدموا إلى ليبيا فراراً من بلدانهم لأسباب سياسية، ومثالهم زهير الحسني، أستاذ القانون الدولي العام.
أما بالنسبة لليبيين، فلم يعد التفوق كافياً للحصول على وظيفة معيد. وأصبح من اللازم، بالإضافة إلى التفوق، وأحياناً بدونه، الحصول على موافقات اللجان الثورية بمستوياتها المختلفة، بدءاً بمثابة الكلية والحي وانتهاءً بموافقة منسق مكتب الاتصال باللجان الثورية في طرابلس. كما توقف الابتعاث لاستكمال الدراسات العليا، وخصوصا في الفترة التي تولى أمر أمانة (وزارة) التعليم أحمد إبراهيم، الذي اشتهر بالحظر الذي فرضه على تعليم اللغات الأجنبية. وحينما استؤنف الابتعاث في عهد خلفه إبراهيم بو خزام، اقتصر على درجة الدكتوراه. فلكليات القانون في ليبيا، هكذا قيل، القدرة على تنفيذ برامج دراسة الماجستير، وكان الابتعاث للدكتوراه مشروطاً بالحصول على موافقات جهات أمنية وثورية، ومحصوراً، في حالات كثيرة، بدول بعينها.
لا شك في أن الشروط الإيدولوجية فيمن يعيّن معيداً، وحظر الابتعاث، وتقييده، حينما أجيز، قد أثر على أعضاء هيئة التدريس الجامعي. ولكن، رغم هذا، لا يمكن أن نعزو الخلل الملاحظ في الأساتذة الجامعيين إلى هذه الأسباب فقط. فالجيل الأول من هؤلاء قد اختير على أسس سليمة، وقد أمكن للعديد من المتميزين، رغم التضييق، أن ينضموا إلى سلك التدريس الجامعي. ما المشكلة إذن؟ لا أدعى أنني سأحيط بكل الأسباب في هذا المقال، ولكن سأركز على سبب أراه عظيم التأثير، وهو ضعف الحوافز المادية. فمرتب الأستاذ الجامعي قد غدا، مثل مرتبات باقي الليبيين، خاضعاً لقانون المرتبات رقم 15/1981، ولم يتجاوز بالتالي حدّ الكفاف، وإذا ما أراد الأستاذ زيادته، فعليه بالعمل التدريسي الإضافي. وهذا ما أدى إلى أن يصبح هذا العمل، وهو الذي يفترض فيه الاستثنائية، أساسياً، بالنسبة إلى عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس. وقد أتاح الانفجار الذي حدث لاحقاً في أعداد كليات القانون وفروعها فرصاً أخرى للتدريس الإضافي. وغدا معه وصف “أستاذ تاكسي” على وزن “استاذ كرسي” ملاصقاً لمن أمضوا أيام أسبوعهم في وسائل النقل المختلفة، ومنها أحياناً الطائرات. حتى المناهج الدراسية غدت، في البدء، مذكرات تباع للطلاب، ولاحقاً كتباً ينشرها الأستاذ بنفسه ويلزم الطلاب بشرائها. في مثل هذا الحال، لن يكون للأستاذ وقتٌ لا للتدريس بمعناه الحقيقي، ولا للبحث العلمي، والشأن في هذا الأخير أن يكون رافداً للأول يثريه.
ولا يمكن حين الحديث عن أعضاء هيئة التدريس إغفال أمر المتعاونين، وهم فئة من حملة الشهادات العليا في القانون من غير أعضاء هيئة التدريس الجامعي يُعهد إليهم بأمر التدريس. للعديد من هؤلاء خبرة عملية في مجالات مثل القضاء والمحاماة والمشورات القانونية، وهم، من ثم، أقدر على تدريس الجوانب التطبيقية في مقرارات القانون، مثل قاعات البحث في “الإجراءات الجنائية” و”الأحوال الشخصية” و”نظرية الالتزامات”. ولكن المشكلة هي أن إسناد التدريس إلى المتعاونين لم يقتصر على الجوانب التطبيقية، بل تعدّاه إلى المقررات النظرية، والسبب الرئيس لهذا هو التوسّع الكبير في إنشاء كليات القانون وفروعها، وعدم قدرة أعضاء هيئة التدريس الأصلاء على تغطيتها. وقد اقترن هذا التوسع في حالات كثيرة بتساهل في التحقق من كفاءة المتعاونين، واكتُفي في حالات كثيرة بمجرد حيازتهم لشهادة الماجستير. وحينما أكد مجلس جامعة بنغازي عام 2013 على شرط أن يتحقق في المتعاونين شرط حصولهم على درجة الليسانس بتقدير جيد على الأقل، أدى هذا في جامعة بنغازي إلى الاستغناء عن خدمات عدد ممن مارسوا التدريس الجامعي لسنوات.
هذا عن المعلم، فماذا عن المتعلم؟ سبقت الإشارة إلى أن تعليم القانون قد أُختص بكلية واحدة في بنغازي، اقتصرت في البدء على أعداد محدودة ضمت طلاباً تشهد بتميزهم مقالات وترجمات “مجلة العدالة” التي كانوا يصدرونها في ذلك الحين تحت إشراف أساتذة مثل محمد عبد الخالق عمر. وقد كان لافتاً إشادة الأخير في كتبه بمقالة كتبها أحمد بو زقية، الطالب بالسنة الرابعة حينها، عن مبادئ القانون الدولي الخاص في المعاهدات القرمانلية، ودراسة أعدها الطالب، حينها، مفتاح المهدوي عن نقابة العمال في بنغازي. ولكن هذا الأمر لم يطل، فقد غدت كلية القانون كليات كثيرة تستعصي على الحصر، كما ذكر تقرير آيلاك سابق الذكر، وقد كان من أولى الكليات إنشاء كلية القانون بطرابلس.
ولم يعْنِ التوسّع في إنشاء الكليات قلة في عدد الطلاب، وبالتالي فرصة أفضل للتدريس والتعلم، فقد ظلت كلية القانون ببنغازي، مثلا، تستقبل، رغم فروعها الأربعة، المئات من الطلاب كل عام. ورغم أنه يفترض في هؤلاء التميز، فهم من حازوا أعلى المعدلات في الثانوية العامة، إلا إن هذا لم يكن صادقاً في العديد من الحالات. تشي بهذا نتائج نهاية العام. ولا أنسى مقترح زميل في لجنة رصد نتائج الامتحانات النهائية بأن تعلق “عينات” من إجابات الطلاب إلى جانب النتائج كي تبرر ترديها. ضعف تكوين الطلاب في مراحل التعليم الأساسي والثانوي سببٌ رئيس لضعف تحصيلهم في مرحلة التعليم الجامعي. ولا يتوقع من الأستاذ الجامعي أن يجترح معجزة.
من يطالع المقررات الدراسية على مدى أربعة وخمسين عاماً، هي عمر أقدم كلية للقانون في ليبيا، لن يجد اختلافاً كبيراً. فالمقررات ومفرداتها مازالت إلى حد بعيد هي ذاتها. وفي حالات عديدة، ظلت المناهج المقررة ذاتها، ولا تخفي دلالة إعادة نشر كتاب مأمون سلامة في “الإجراءات الجنائية”، الذي ألفه في السبعينيات، ليقرر على طلاب بعض كليات القانون في السنوات الأخيرة.
بالطبع كانت هناك جهود لتغيير المناهج. استهدف بعضها موافقة ما يدرس في كلية القانون مع التغييرات التي أدخلها النظام السابق، أو كان يبشر بها، على النظام القانوني، فأصبح، على سبيل المثال، مقرر “القانون الدستوري” “نظاما جماهيريا”، و”قانون العمل” “شريعة مشاركة”، و”قانون الجنسية” “رابطة الجماهيرية”. وحتى كلية القانون سمّيت، وإن ليوم واحد، كلية شريعة المجتمع، وتلك قصة أخرى. ولكن التغيير لم يكن جوهرياً، فقد استمر تدريس المناهج التقليدية مع إضافة ما استحدث في ليبيا، إن وجد.
كانت هناك محاولة جادة لتطوير مقررات كلية القانون في بنغازي مطلع التسعينات. وتضمّنت إدخال ما عرف بقاعات البحث إلى بعض المواد، وفيها أسند إلى ممارسين، قضاة ومحامين وأعضاء نيابة، تدريب الطلاب على تطبيقات عملية للجوانب النظرية في المقرر. وهذه تجربة لا شك مفيدة، ومن شأنها أن تجسر الهوّة التي يشار إليها عادة بين ما تدرسه الكلية وما تعرفه ساحات القضاء. ولكن حال دون نجاحها على النحو المأمول صعوبة إيجاد ممارس حائز على مؤهل عالٍ في القانون، ماجستير على الأقل. وبالتالي، كانت قاعات البحث تسند إلى من يدرس الجانب النظري للمقرر أو إلى معيد، وهو ما يؤدي غالباً إلى صبغ هذه القاعات بالجانب النظري.
تضمنت هذه المحاولة أيضاً إدخال مقررات جديدة مثل “القانون البحري”، وحذف أخرى مثل “الإدارة العامة”، وهي تنم عن قناعة معينة بما ينبغي أن يدرس في كلية القانون نرى مجانبتها للصواب. إدخال “القانون البحري” مبني على لزومه في دولة بحرية، وحذف “الإدارة العامة” قائم على أنها تنتمي لاختصاص غير القانون. وهذا يبدو منطلقاً من أن وظيفة كلية القانون تزويد الطالب بما يحتاجه من معلومات قانونية. وهذا المنطلق، من وجهة نظري، غير صحيح، واتباعه يقود إلى خلل في تحديد ما يتلقاه الطالب في كليات القانون، ففساد البدايات، كما يقال، مفسد للنهايات.
الإجابة عن سؤال: ماذا ندرس، أي السؤال عن المقرر العلمي، يفترض أن يكون لاحقاً على الإجابة عن سؤال آخر: لماذا ندرس، يقول أستاذنا الراحل أحمد بوزقية.[2] إجابة السؤال عن الغاية من تدريس القانون قد تكون تزويد الطالب بالمعلومات القانونية التي سيحتاجها بعد تخرجه، وهي إجابة غير صحيحة. فلا يمكن لكلية القانون أن تزود الطالب بكل ما قد يحتاجه من المعلومات القانونية. فتطور الحياة المتسارع أنتج مجالات معرفية جديدة، وتشريعات أيضاً جديدة، ولا يمكن للكلية مجاراة ذلك، ومثال ذلك التجارة الإلكترونية والجرائم الإلكترونية. ولكن البعض يختار هذه الإجابة، ولا يجد غضاضة في اقتراح أن تمدد فترة الدراسة في كلية القانون إلى خمس سنوات لتغطية المقررات الجديدة. ولم أنس حتى الآن كيف علت أصواتنا استنكاراً، نحن طلاب السنة الثالثة، عندما أخبرنا أحد الأساتذة عن قناعته هذه. ويراودني الآن سؤال عن رأيه في تقليص المدة إلى ثلاث سنوات، كما تفعل بعض كليات القانون المرموقة في العالم.
البداية التي أراها صحيحة، مقتفياً في هذا أثر الأستاذ بو زقية، هي أن غاية التدريس في كلية القانون تزويد الطالب بمهارات التحليل القانوني التي تمكنه من تطبيق المعلومات القانونية، حتى تلك التي لم تتحْ له فرصة تلقيها في الكلية، على ما يستجد له من وقائع، أي الملكة القانونية كما يسميها البعض. هي، بعبارة أخرى، مهارة إخضاع اللامتناهي من الحوادث للمتناهي من القواعد. إذا كانت هذه هي غاية التدريس، تحدد عندها ما ينبغي أن يدرس. إنها المقررات التي تكسب الطالب الملكة القانونية. قسّم الأستاذ بو زقية مقررات القانون إلى ست عائلات لكل منها تفريعاته ومميزاته الخاصة من حيث التطبيق والتفسير: القانون الخاص، القانون الجنائي الموضوعي، والقانون العام، والفقه الإسلامي، والقانون الإجرائي، وقواعد تنازع القوانين. واقترح انتخاب مقررات من كل عائلة، تضاف إليها، توسعة لمدارك الطالب وتنمية للنظرة الشمولية للمسائل، مواد مكملة مثل الاقتصاد، والإدارة العامة، وفلسفة القانون، على ألا تزيد الساعات التدريسية بحال على 18 ساعة أسبوعيا. ولكن هذه الرؤية لم تحز قناعة العديدين، ولم يكتب لها النجاح بعد.
ولكن، ينبغي التأكيد هنا، أن تعديل المناهج وتطويرها لن يكون كافياً. أمر الإصلاح ينبغي أن يتطرّق إلى مكوّنات العملية التعليمية كافة. وهذا ما حاولنا فعله في لجنة كتابة مشروع قانون الجامعات. كانت لجنة شكلها وزير التعليم العالي عام 2013 من أكاديميين ليبيين من جامعات وتخصصات مختلفة، وأعدت مشروعاً بنته على قناعة بأن إصلاح الجامعات لا يتأتى إلا بمنحها استقلالية تامة، أكاديمية وإدارية ومالية، فينعقد لها أمر اختيار أساتذتها وطلابها، وتتخذ التنافسية منهجاً، وتوفر لأساتذتها حوافز مادية مناسبة، كما تفرض عليهم ضوابط صارمة منها، على سبيل المثال، ربط ترقياتهم الأكاديمية بأدائهم التدريسي والبحثي وخدمة مجتمعهم، وإنهاء خدمة من لم يحقق هذه المتطلبات في أجل معين. للأسف، لم تكتب لمشروع القانون الحياة. فبعد أن درسته لجنة التعليم العالي في المؤتمر الوطني العام، ولم تبدِ عليه أي ملاحظة جوهرية، عدا طلب حذف جدول المرتبات، لم يدرج في جدول أعمال المؤتمر.
لم يكن المشروع عصا سحرية ستحل باعتماده مشاكل التعليم العالي، ومن ضمنها مشاكل التعليم القانوني، ولكنه كان سيمنح الجامعات قدراً كبيراً من الاستقلالية الأكاديمية والادارية والمالية. وهذا، لا شك، خطوة أولى ضرورية في سبيل علاج هذه المشاكل.
نشر في العدد 4 من مجلة المفكرة القانونية تونس
[1]International Legal Assistance Consortium (ILAC). 2013. Rule of Law Assessment Report: Libya 2013
[2]بو زقية، أحمد عمر. مناهج كليات القانون وتطوير دراسة القانون. ضمن دراسات واستشارات قانونية. بنغازي: دار الفضيل للطباعة والنشر والتوزيع. 2013. 9-38.