تم تداول مصطلح “سلسلة الرتب والرواتب” لأول مرة بعد انتهاء الحرب اللبنانية عام 1994 حين بدأ العاملون في القطاع العام المطالبة بإقرار قوانين تضمن لهم حقوقهم وتؤمّن مدخولاً محترماً وتعويضاً يراعي الظروف المعيشية لموظفين قضوا حياتهم في خدمة أحد الأسلاك العامة. 160 ألف موظف[1] في القطاع العام، ومنهم العسكريون والمتقاعدون والمتعاقدون وموظفي البلديات، انتظروا أربع سنوات، أي منذ مباشرة درس موضوع السلسلة في ذلك العام، لتحسين أوضاعهم ورواتبهم.
اتسعت رقعة هذه المطالب وتبلورت من خلال تحركات عدة بدءاً من العام 1995، أبرزها الاضرابات التي دعت إليها الهيئات المسؤولة في القطاع العام. وكان مكتب المعلمين قد تولّى آنذاك دور القيادة في وجه حكومة الرئيس رفيق الحريري وسياستها الاقتصادية. علت وتيرة الاضرابات وتطوّرت الصدامات مع الحكومة من جهة، وداخل الحكومة والمجلس النيابي من جهة أخرى. قرر النواب في آخر جلسات المجلس في 13 آب 1996 إقرار سلسلة الرواتب للهيئة التعليمية بعد فصلها عن مشروع السلسلة الأم أي ما يشمل كلّ القطاع العام. وصرف المبلغ المخصص لها (90 مليار ليرة لبنانية) لأعوام 1996 و1997 و1998 فيما لم ينل موظفو الادارة من مدنيين وعسكريين ومتقاعدين أيّاً من حقوقهم المشروعة. حاول الحريري وقتئذ التصويت على السلسلة دفعة واحدة. وقد قيل أنّ هدفه كان تحفيز المعنيين بالسلسلة للمشاركة في الانتخابات النيابية. لكن قسم من النواب رفض هذا الاقتراح مما دفع الحريري إلى طرح سلسلة الهيئة التعليمية فقط بعدما كانت دعيت هذه الاخيرة لمراقبة مراكز الاقتراع.
اتّسم عام 1997 بالوتيرة عينها: إضرابات من جهة ووعد بإقرار السلسلة كاملة من جهة أخرى. اللافت في ذلك العام حصل في تشرين الثاني 1997 من خلال إقرار ما عرف بـ”الورقة الاصلاحية” التي تفاهم عليها الرؤساء الثلاث (رؤساء الجمهورية ومجلسي النواب والحكومة) ووافق عليها مجلس الوزراء في 4 كانون الاول. اتفق الرؤساء الثلاث على كلّ شيء الا على السلسلة التي لم تدرج كبند في “الورقة” اذ كانت موضوع خلاف فيما بينهم، ولا مجال لإظهار الخلافات إلى العلن آنذاك. لكنهم توافقوا على أنّ للموظفين حق في السلسلة، فاعتبروها دينا لهؤلاء في ذمة الدولة مهما تأخر اقرارها. وحددوا موعدا لتطبيق السلسلة بالتزامن مع إيجاد الموارد اللازمة لتغطية النفقات والتمويل. وبالفعل، أنجزت الحكومة مشروع درس السلسلة في 16 حزيران 1997، ولكن المشروع بقيَ عالقاً على طاولتها بانتظار تحديد سبل التمويل.
ظلّ الوضع محل أخذ وردّ إلى حين إقرار السلسلة عام 1998. وقد وصفت آنذاك بالمجحفة اذ أنها لم تلاق طموحات قطاع حارب من أجلها على مدى أربع سنوات فخرج مهزوماً بفعل “تواطؤ” أركان الحكم عليه من جهة وتخاذله في الدفاع عن حقوقه من جهة أخرى، كما سنبيّن في سياق المقالة.
نعود في مقالنا إلى مرحلتين من هذا “الصراع” مع السلطة أيّ سنتي 1995 و1998. نستعرض في المرحلة الأولى التحركات النقابية التي نفذها موظفو القطاع العام في محاولة منهم للضغط على الحكومة من أجل تنفيذ مطالبهم. فقد بدأ اللجوء إلى الشارع خلال هذه الفترة وخفّت الوتيرة نوعاً ما خلال مناقشة السلسلة عام 1998. وفي هذا السياق، نتطرّق إلى التحركات التي دأبت على التأثير على الحكومة والمجلس النيابي من أجل إقرار السلسلة، فنجحت بمرحلة ما في مواجهة السلطة، ولكنها فشلت في مراحل عدة عن ادراك “ألاعيب” الحكومة والبرلمان إلى أن وقعت ضحية الوعود والاتفاقات التي لم تثمر سوى سلسلة ضاعت فيها حقوق الموظفين وخاصة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي.
بالاضافة إلى ذلك، نحاول الاضاءة على الخلافات السياسية التي نشبت خلال عام 1998 بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري في سعي الاول إلى إقرار السلسلة “مهما كان الثمن” والثاني إلى تأجيلها مراراً وتكراراً بحجة تأمين الموارد الكافية لتمويلها. كما نسعى من خلال العودة إلى هذه المرحلة إلى إظهار أنّ الحكومات المتعاقبة منذ سنة 1994 وحتى اليوم انتهجت السياسة نفسها لمواجهة المطالب العمالية؛ أيّ سياسة التمييع والتأجيل معوّلين بالتالي على استسلام الهيئات النقابية أمام وطأة الشارع الخائف على مصالحه من ناحية ومن ناحية أخرى أمام لا مبالاة سلطة باتت عاجزة عن تطبيق أيّ إصلاح إداري يسمح بالتأسيس لنهج إقتصادي جديد يدير البلاد ويؤمّن أبسط حقوق مواطنيه.
القطاع العام في المواجهة: كيف ضاعت حقوقه؟
التجأ المعلمون، المحركون الاساسيون للقطاع العام، عبر مكتب المعلمين إلى الاضرابات بهدف الضغط على الحكومة ومجلس النواب من أجل اقرار سلسلة الرتب والرواتب.
نجح المكتب بكسب تأييد موظفي السلك التعليمي فتمكّن من شلّ القطاع بكامله في عدّة مناسبات إن كان على مستوى المدارس الرسمية أو الخاصة. التزم الجميع عموما قرارات المكتب وترك لهذا الاخير مهمة التفاوض مع الحكومة. وكان وزير التربية والشباب والرياضة روبير غانم قد استلم دفة المفاوضات مع الاساتذة في حزيران 1995 فتوصّلوا اولاً إلى إقرار “اتفاق المبادئ” الذي من شأنه أن يؤدي إلى انشاء “صندوق المعلم” و”بيت المعلم” واحداث ملاك خاص بهم، وإقرار هذه المطالب كاملة.
سعى غانم إلى الفصل بين الاتفاق ومطالب المعلمين في موضوع الرواتب. الا ان تشدد وزير الدولة للشؤون المالية فؤاد السنيورة تجاه عدم البت بموضوع السلسلة بالاضافة إلى محاولة تجزئتها إلى سلاسل لكلّ قطاع أعاد الامور إلى نقطة الصفر. ففي الواقع، كانت اللجنة الوزارية المكلفة اعداد سلسلة القطاع العام، اعدّت مشروع سلسلتين واحدة لأساتذة التعليم الثانوي وأخرى للتعليم الابتدائي، فقامت قيامة مكتب المعلمين. قرر هذا الاخير توقيف التصحيح للشهادات الرسمية ازاء “الخرق المتكرر للإتفاقات المعقودة مع مكتب المعلمين وتراجعهم (أيّ الوزراء) عن تعهداتهم ووعودهم التي قطعوها وعلى اساسها أبدى المعلمون حسن النية بمراقبة الامتحانات الرسمية”. كما ورفض المجلس التنفيذي لنقابة المعلمين رفضا قاطعا فصل السلاسل لأنّ “ذلك يؤدي إلى ضرب وحدة المعلمين ونسف جميع القوانين التي رعت حقوقهم منذ أن بدأ التشريع اللبناني”[2].
وفيما جهد المعلمون في تبيان أحقية مطالبهم، حاولت الحكومة تهميش حقوقهم عبر الربط بين زيادة الضرائب وتأمين موارد السلسلة. وتبعا لذلك، اتهم المكتب الحكومة بتضليل الرأي العام عبر تحميل المعلمين مسؤولية فرض ضرائب جديدة على المواطنين بالاضافة إلى التمييز بين القطاعات والنفقات ضمن القطاع الواحد بما يعزز الفرز الاجتماعي. علّق رئيس الحكومة الحريري على اتهامات المكتب بأنّ “الحكومة لا تستطيع أي زيادة لا ايرادات لها…وأنها لن تقدم على أيّ قرار تحت الضغط ونحن نعتقد أن أيّ تصرّف (بما معناه الاضرابات والمظاهرات) في هذه المرحلة لا يساعد على الحلول”[3]. وبعد التأجيل المستمر، قررت الحكومة في تموز 1995 بدل اقرار السلسلة اعطاء زيادة 20 بالمئة على رواتب الموظفين ابتداء من 1/1/1995 وابقاء الامور على ما هي عليه وبالتالي ارجاء السلسلة الجديدة إلى السنة المقبلة قارنة اياها هذه المرة بملف الاصلاح الاداري. لكن ورغم تأجيل السلسلة، أقرّت الحكومة زيادة 3 آلاف ليرة لبنانية على صفيحة البنزين وبدأت تطبيقها فوراً، والخطوة تظهر استغلالها للموضوع لرفع الضرائب. وكما بات معهوداً، لم تصارح الحكومة الهيئات النقابية بنيّتها تأجيل السلسلة التي كانت وعدت بها. توعّد الاتحاد العمالي العام بالاضراب المفتوح فانتهى الى إضراب تحذيري ليوم واحد، مما يدلّ على على قلّة فعاليته في مواكبة حقوق المنضوين تحت سقفه. وعاد مكتب المعلمين إلى وقف التصحيح واستمرّ على موقفه طوال اثني عشر يوما. علق غانم يومها قائلاً: “لن نترك وسيلة عقلانية في إطار الحوار المستمر الا نطرقها حتى نصل إلى حلّ مقبول ومرضٍ لأنه لا يجوز لأيّ فريق ارتهان ما يزيد عن 90 ألف طالب من أجل تحقيق مطالبه، حتى لو كانت هذه المطالب من باب الجدل محقة”. أما رئيس رابطة اساتذة التعليم الثانوي الرسمي في لبنان فؤاد صعب فعلّق على التحرك مؤكداً أنّ قرار وقف التصحيح هو “لمساعدة الحكومة على اثبات صدقيتها وعدالتها فلا تميّز بين ابنائها العاملين ضمن القطاع الواحد”. كما وأشار صعب على أنّ المكتب نجح بالكشف أن فرض الضرائب سيكون مع اقرار سلسلة الرواتب أو دونه. وذكّر هذا الاخير الحريري بوعده بإعطاء الموظفين “سلسلة لن يتمكنوا من رفضها” فأكد أنهم لن يملوا من انتظارها[4]. اثر تشبث الاساتذة بموقفهم، قرر الحريري الاجتماع بهم مع اللجنة الوزارية فاتفقوا على العودة إلى التصحيح بعد التوافق على بعض المطالب كالملاك الخاص وسلسلة رتب موّحدة. ومرّة أخرى، خاب أمل المعلمين اذ جاء تقرير اللجنة منافياً كلياً لما تمّ الاتفاق عليه. الا أنهم لم يعودوا إلى الضغط على الحكومة عبر الامتناع عن التصحيح بل اكتفوا بالاضراب يوماً واحداً تسجيلاً لإحتجاجهم على “تحايل” أهل الحكم عليهم مما سمح بإصدار نتائج الامتحانات كما قد راهنت الحكومة.
لم يغيّر الاساتذة في استراتجيتهم بوجه “خداع” الحكومة المستمر، فأخذوا يعلنون الاضراب تلو الآخر على مدى ثلاث سنوات. تقتضي الاشارة هنا الى أنّ الرابطة التعليمية أوقفت تحركاتها أربع عشرة مرة بناء على تطمينات وتمنيات المسؤولين. اربع عشرة مرة نجحت من خلالها السلطة في التسويف والتأجيل إلى أن أقرّت سلسلة خذلت الجميع ورمت الاساتذة مجدداً في قلب المواجهة.
عندما تصبح السلسلة حلبة للتجاذب السياسي
واجه الموظفون منذ احالة المشروع الاساسي لسلسلة الرتب سلبية كبيرة، حيث كان واضحاً أن الحكومة لا تريد، أو على الاقل، تتهرّب من الوصول إلى استحقاق تصحيح رواتب موظفي القطاع العام. كما ربطت الحكومة مسألة اقرار السلسلة تارة بإيجاد الموارد اللازمة لتمويلها وطوراً بضرورة البدء بعملية إصلاح اداري شامل.
بدأ بري بالضغط على الحريري منذ مطلع العام 1998 بغية انجاز السلسلة وإحالتها على مجلس النواب. لكن كلا الفريقين الممثلين للسلطتين التنفيذية والاشتراعية لم يسعيا إلى مناقشة المشروع جدياً لايجاد الحلول المناسبة. بل أخذ كلّ منهما يقذف بالكرة إلى ملعب الآخر، محاولا إلقاء اللوم على الطرف الثاني. وفي هذا السياق، صدرت مواقف عن الحريري يلوم فيها المجلس على التأخير في إقرار السلسلة من ناحية ويحمّل الحكومة والبرلمان مسؤولية تأمين مصادر تمويلها من ناحية أخرى.
لكن بري حمّل الحكومة وحدها مهام تطبيق المشروع، رافضاً “صعود الجميع في مركب واحد”[5]. حدد هذا الاخير مسؤولية المجلس الكامنة في اقرار مشروع قانون السلسلة بعد أنْ تكون الحكومة قد وضعت قانون موضع التنفيذ. ففي تلك الفترة، بات بري مقتنعاً أنّ الحكومة لا تقدّم أجوبة دقيقة حول التكلفة الفعلية لتنفيذ السلسلة عن سنوات 1996 و1997 و1998. وخير دليل على ذلك إعلان السنيورة مطلع سنة 1998 عن أن تكلفتها تبلغ حوالي 300 مليار ليرة سنوياً، فيما أكدّ بعض النواب إلى أنّ الكلفة لن تزيد عن 200 مليار ليرة كحد أقسى. وبالتالي وقع الخلاف على الارقام وبات قسم كبير من النواب مقتنعا أنّه يمكن توفير التمويل من خلال اجراءات صغيرة لا تستحق كلّ هذا التهويل في فرض ضرائب لن يتمكن المواطن من تحمّلها. استغرب بري الارقام غير الدقيقة التي تطرحها الحكومة والتي تحاول من خلالها “تكبير الحجر لتفادي الضرب به”، في إشارة منه إلى تعمّدها العرقلة من خلال ربطها بزيادات جديدة للرسوم والضرائب[6].
استمرت المواجهة بين الطرفين حتى انفجرت في جلسة للمجلس النيابي حيث هدد بري بإسقاط الحكومة أمام الوزراء والنواب. وصفت الصحافة يومها الخلاف بأنه “لا سابق له على هذا النحو من الحدة”. ثم “كانت الصلحة وعادت المياه إلى مجاريها. وكل ذلك في خمس ساعات أو أقلّ![7]“، هذا كله بناء على “تمنيات” الطرف السوري الذي دخل على الخط “لتبريد” الاجواء ومنع وقوع أيّ خلاف يؤثر على “التناغم” داخل السلطة.
انتهى الفصل الاول من الصراع بين بري والحريري بإسترداد الحكومة من البرلمان مشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب في آذار 1998. وعلى إثر ذلك، وبعد دراسة مستعجلة فاجأت المعنيين، أقرّ مجلس الوزراء سلسلة للعاملين في القطاع العام، أتت مجزأة وجائرة اذ تقرر تمويلها بضرائب تساوي الفقراء بالاغنياء. وعلى الرغم من ذلك، خرج مشروع السلسلة من مجلس الوزراء إلى المجلس النيابي في انتظار انعقاد اللجان النيابية المشتركة تمهيداً للتصويت عليه في الهيئة العامة. اعتقد الجميع أنّ الحلّ أتى أخيراً وأنّ السلسلة ستقرّ بعدما طال انتظارها.
لكن الحقيقة جاءت على خلاف التوقعات اذ استمرت سياسة الحكومة على حالها. استمر السنيورة ابان انعقاد جلسات اللجان النيابية المشتركة بالمماطلة فكان يكتفي بالحضور ربع ساعة إلى الاجتماعات بحجة تداخل مواعيده مع أوقاتها. وكان يحرص على تأكيد السياسة الاقتصادية التي تعتمدها الحكومة في كلّ مرة. وفجأة قفزت أرقام السلسلة من 415 مليار ليرة كما وردت في آخر مشروع للحكومة إلى 850 مليار من دون الاتفاق على رواتب جميع موظفي القطاع العام. وعاد السنيورة للتذكير بأنّ “المشكلة هي في تدبير الأموال اللازمة لإنصاف العاملين في القطاع العام من دون زيادة العجز في الموازنة حفاظاً على الاستقرار الاقتصادي والمالي. وأكدّ أنّ “الحكومة التي لا تتهرب من مسؤولياتها لا يمكن أن تقرّ الموارد المالية اللازمة لتغطية أكلاف السلاسل لأن ذلك من المهمة الاشتراعية للمجلس[8]“.
من ناحية أخرى، تمحور الخلاف بين بري والحريري حول تأمين التمويل اللازم علناً وحول الاستحقاق الرئاسي باطناً؛ لا سيما أنّ عهد الهراوي كان قد شارف على نهايته. بدا وكأنّ التوافق بين رئيسي المجلس والحكومة بات مستحيلاً مع اقتراب العطلة النيابية في 15 آب 1998. اتهم بري الحريري بـ”محاولة فرض أمر واقع خطير على البلاد قبل الاستحقاق الرئاسي أما الحريري فإتهم بري بـ “التنصل من أيّ مسؤولية حيال تغطية كلفة السلسلة” وبـ”التحريض على الحكومة في موضوع الضرائب والرسوم[9]“. لم ينتهِ الهجوم بل ارتفعت وتيرته بشكل لافت قبل نهاية العهد. حمل بري بعنف على الحريري فلقبّه بـ”سمو الأمير” واعتبر أنّ مشروع السلسلة “ليس كرة ليتمّ تقاذفها[10]“.
أدّى احتدام الخلاف بين الطرفين وارتفاع وتيرة السجال إلى تدخل الرئيس حافظ الاسد شخصياً من أجل وضع حدّ نهائي للنزاع وتأجيل البت بالسلسلة إلى ما بعد الاستحقاق الرئاسي. زار الحريري الأسد فقبل بري تأخير السلسلة إلى أجل غير مسمّى بحثاً عن التمويل. كتب الصحافي جهاد الزين يومها في النهار: “في الادارة السورية للترويكا، الخاسر يقبل خسارته بكلّ طيبة خاطر. مع العلم أنه ليس هناك خاسرا سوى لـ”جولة” ستتجدد لاحقاً كنمط في إدارة البلاد”[11]. وتكريساً لهذا الاتفاق، اجتمع الرؤساء الثلاثة في ما عرف بقمّة اللاذقية واتفقوا على تأجيل إقرار مشروع السلسلة و”كل موضوع آخر يثير الخلاف” إلى العهد الجديد.
“ليس هناك راهناً إمكان لأحسن”، قالها الرئيس حسين الحسيني بعد اقرار سلسلة الرتب والرواتب في 28 تشرين الاول 1998 ومشى. أقرت السلسلة ومعها انتهى نضال القطاع العام على مدى أربع سنوات بنيله سلسلة خذلته بعد أن كان قد صدّق الوعود التي قُطِعت له. وهكذا أيضاً اتفقت الطبقة السياسية على تحميل سلطة “انتقالية” متمثلة بحكومة الرئيس سليم الحص مسؤولية إقرار سلسلة مبتورة لم تنجح سوى بتأجيل الجولة الثانية من المواجهة. اذاً تمّ تجاهل حقوق موظفي القطاع العام، فالاتفاق المعقود بين السلطتين التنفيذية والتشريعية جاء لتكريس انتصارهما على هؤلاء. استطاع بري اقرار السلسلة وفق ما وعد، فيما تمكنت الحكومة من تقليص سقف ارقام السلسلة تحت مستوى التمويل المتوافر لها. هكذا، أقرّت السلسلة “بحلّ وسط”، متضمنة صيغا غامضة لبعض البنود كبند المفعول الرجعي ومتجاوزة بطريقة خطيرة حقوقا أساسية كحقوق الهيئة التعليمية والمتقاعدين. سحبت الحكومة فيما خصّ هذه الفئة الأخيرة المشروع الذي كانت تقدمت به لجنة المال في آب 1998 لتصحيح معاشات هؤلاء. كما انتهى الاخذ والرد اللذان استمرا أربعة أعوام إلى إقرار المفعول الرجعي الذي يعوّل عليه الموظفون بشكل اساسي، مرفقاً بعبارة تخلو من ايّ موعد نهائي لتنفيذه. أمّا في ما خص الهيئة التعليمية، فقد أبقى مجلس النواب على نسبة 100% تعويض نهاية الخدمة لأفراد الهيئة التعليمية في القطاع الخاص في حين أنّه قلّصها بما يتصل بأفراد الهيئة العاملين في القطاع العام من 90% كانت اقرتها اللجنة النيابية للتربية الوطنية والثقافة وشؤون التعليم المهني والتقني إلى 85% انسجاماً مع مبدأ المساواة في نسبة التعويض الأخيرة بين موظفي القطاع العام كلهم. كما أنه ألغى التمييز في الدرجات للسبب نفسه[12]. قرر أساتذة التعليم الثانوي الرسمي العودة إلى الاضراب حتى تحقيق مطالبهم بإعادة النظر في مشروع السلسلة. امتنعوا عن تصحيح الامتحانات مجدداً عُقد بعدها اتفاق “ليلي” مع وزير التربية أدّى إلى تراجعهم عن قرارهم. وعاد بذلك مسلسل الكر والفر بين الهيئات النقابية والسلطة، مسلسل بدأت حلقاته الرسمية مجدداً سنة 2011 ولم تنتهِ فصوله حتى اليوم.
نشر هذا المقال في العدد | 19 |تموز/يوليو/ 2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
حضرات النواب، حدثونا عن إنتاجيتكم
[1]– الرقم الوارد غير دقيق فلا احصاءات رسمية لعدد موظفي القطاع العام
[2]– جريدة النهار. مكتب المعلمين يقاطع التصحيح من اليوم ريثما ينعقد مجلس الوزراء وتظهر النتائج. العدد 19172، 1 تموز 1995
[3]– جريدة النهار. “الحريري قبيل الجلسة للمعلمين والقطاع العام: لا نستطيع أي زيادة لا ايرادات لها”. العدد 19173، 3 تموز 1995
[4]– جريدة النهار. الطلاب وذووهم صابرون والامتحانات في مغلفاتها. وزير التربية والمعلمون: النتائج ترافق الحلّ”. العدد 19181، 12 تموز 1995
[5]– نقولا ناصيف. بري يخيّر الحريري بين اقرار السلسلة لتطبيقها أو سحبها. جريدة النهار، العدد 20180، 21 تشرين الاول 1998
[6]– نقولا ناصيف. بين بري والحريري، سر السلسلة أم الاستحقاق. جريدة النهار، العدد 19990، 6 آذار 1998
[7]– النهار. الهراوي يطوّق “نوبة” انفعال كادت تفجر أزمة حكومية. العدد المذكور اعلاه
[8] – ريتا شرارة. اللجان أقرّت السلسلة والكباش على التمويل. جريدة النهار، العدد 20114، 5 آب 1998
[9]– النهار. انفجر الخلاف على السلسلة…فهل تحسمه قمة في دمشق؟ العدد المذكور أعلاه
[10]– النهار. بري يحمل بعنف على الحريري “سمو الأمير”: يريد صلاحيات استثنائية وحكومة موظفين. العدد 20118، 10 آب 1998
[11] – جهاد الزين. ملاحظات على سجال مملّ وخطر. جريدة النهار، العدد 20116، 7 آب 1998
[12]-. ريتا شرارة. مجلس النواب ينهي رحلة سلسلة الرتب والرواتب بحلّ وسط. العسكريون والقضاة والاساتذة والجامعيون والمتقاعدون يستفيدون…وصيغة غامضة للمفعول الرجعي. جريدة النهار. العدد 20187، 29 تشرين الاول 1998