دخل قانون الحد من التدخين
[1] حيز التنفيذ بالنسبة للمطاعم والملاهي والأماكن ذات الطابع السياحي أو الترفيهي في 3/9/2012، وقد أثار بدء تطبيق هذا القانون على هذه الأماكن موجة من الاعتراضات الحادة، وصلت الى حد المطالبة بتعديله في اتجاه استثناء بعض المؤسسات من أحكامه. وقد تجسدت هذه المطالبات في تقدم اقتراحين بتعديل القانون معجلين مكررين
[2] بسرعة قياسية، أولهما بعد مرور 16 يوماً فقط على بدء تطبيقه! واللافت أن القانون المذكور هو في تكوينه قانون مفاوض، حيث نتج عن مخاض طويل استغرق أكثر من سبع سنوات
[3] تجابهت خلاله بشكل فج أحيانا بعض المصالح المتعارضة. وقد انعكس طابع التفاوض فعلياً في العديد من مواده، ومن أبرزها ارجاء نفاذه لمدات مختلفة. ومن هذا المنطلق، لا بد من قراءة مطالبة فرقاء معينين بتعديل القانون على أنها مطالبة بإعادة التفاوض بما تفترضه من ضوابط أو تطرحه من اشكاليات تختبرها عدد من التشريعات الحديثة
[4].
قانون مفاوض
فقد بدأت صياغة القانون الحالي بالفعل اثر توقيع لبنان على اتفاقية منظمة الصحة العالمية الاطارية بشأن مكافحة التبغ والتصديق عليها سنة 2005، ما أوجب عليه اصدار قانون يتصدى “لوباء” التدخين
[5]. غير أن مهمة اصدار قانون مماثل لم تكن سهلة. فمنذ بدء العمل التشريعي في هذا المجال، سعت مجموعات ضغط اقتصادية، وأبرزها شركات التبغ، ما قدرت اليه الى المحافظة على مصالحها. وقد أدت ضغوطها المتواصلة الى تخصيص ما يزيد عن مئة جلسة لمناقشة اقتراح القانون
[6]، حاولت من خلالها هذه المجموعات اجهاضه أو أقله افراغه من العديد من أغراضه. واللافت أن هذه المجموعات نجحت في تحويل النقاش الى مساومة تجاوزت في جوانب عدة أسس الديمقراطية، لا سيما في ما يخص مبدأ المساواة وحماية الصحة العامة، وأدّت تاليا الى تغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة. وقد كشف الاعلام عن حضور واسع لشركات التبغ في هذه الجلسات بخلاف حال الهيئات المؤيدة للقانون والتي بقيت مغيبة وبأية حال على هامش مناقشات اللجان.
فمن ناحية أولى، علّق المشرّع دخول بعض أحكام القانون حيز التفيذ على مرور مهلة معينة من الزمن، اذ وباستثناء سريان حظر التدخين في كل الأماكن العامة المغلقة وأماكن العمل ووسائل النقل العام فور نشر القانون في الجريدة الرسمية، لم تطبق أحكامه على المطاعم والملاهي والأماكن ذات الطابع السياحي أو الترفيهي الا بعد مرور سنة كما لم تطبق الأحكام المتعلقة بالدعاية والاعلانات الا بعد ستة أشهر. أما الأحكام الخاصة بالوسم والغلاف فليس قبل مرور سنة على صدور المراسيم التطبيقية!!
في حين أن وضع مهل لدخول قانون جديد حيز التنفيذ، لا سيما في ما يخص ادخال قوانين تحدث اصلاحات كبيرة وتعديلات جوهرية وهامة للتشريع، يهدف الى اعطاء المواطن والقانونيين وقتاً كافياً لدراسة نص القانون ونتائجه وللسماح لهم باتخاذ التدابير المناسبة في هذا الصدد
[7]، فان ظاهرة “الامهال” في هذا القانون (وهي ظاهرة جديدة في التشريع اللبناني) تطرح علامات استفهام عديدة حول المصالح التي أبدى المشرّع اللبناني حساسية في حمايتها ومراعاتها.
فقد ضغط أصحاب المؤسسات السياحية (من مطاعم وفنادق وغيرها) منذ بدء المفاوضات على المشرّع لاستثنائهم من القانون بشكل عام (ولم يزالوا !!)، وقد خلصت المفاوضات الى تسوية مفادها امهالهم سنة تمكنهم من اتخاذ التدابير المناسبة
[8] مثل احداث وتطوير مساحات خارجية مخصصة للمدخنين وتأمين الرخص الضرورية لهذا التطوير الخ. وقد تمت هذه التسوية رغم معارضة المجموعات والأشخاص الناشطين في هذا المجال. بينما يمكن تفهم هذه التسوية على ضوء وزن القطاع السياحي في السياسات العامة اللبنانية، يصبح الضغط أكثر فجاجة عندما يأتي من شركات استيراد وتسويق التبغ التي بدت وكأنها لا تجد حرجا في التنكر لاعتبارات الصحة العامة من دون أن تستشعر أي حاجة في اعطاء مبررات مقنعة. فالمهل المعطاة لادخال الأحكام المتعلقة بالوسم والغلاف حيز التنفيذ تُؤخر وضع تدبير مهم لثني الكثيرين عن الإدمان، فيما أن المهل المتعلقة بالدعاية والاعلانات تُؤخر وضع حدّ لأهم وسائل الترويج والعرض. مع العلم أن احدى استراتجيات شركات التبغ المتبعة عالميا، وبوجه خاص في الشرق الأوسط ولبنان
[9]، للتصدي لمنع الدعاية والاعلانات كمنت وتكمن في الضغط، لتأخير دخول قوانين الحد من التدخين حيز التنفيذ
[10].
وبالاضافة الى آلية المهل لتأخير نفاذ القانون، علّق المشرع فعاليّته على اصدار مجلس الوزراء لمراسيمه التطبيقية في مجالات عدة. وفي هذا المجال، صدر حتى تاريخه المرسوم رقم 7437 المتعلق “بتنظيم لافتات الاعلان عن بيع منتجات التبغ”، والمرسوم رقم 8431 المتعلق “بتنظيم وضع اشارات منع التدخين في الأماكن العامة”، منا صدر مؤخرا المرسوم رقم 8991 والمتعلق “بالتحذيرات الصحية الواجب تدوينها على عبوات منتجات التبغ”
[11].
وفي هذا الاطار، يجدر الذكر أن شركات التبغ كانت جد ناشطة خلال المفاوضات في التصدي لإلزامها بوضع “صور تحذيرية” على الغلاف، مصرّة خلالها على احالة المسألة الى مرسوم وزاري
[12]. والواقع أن هذا الأمر يشكل “بيت القصيد بالنسبة لتسويق منتجات التبغ”
[13]، اذ وبحسب دراسة أنجزتها الجامعة الأميركية في بيروت، فان “معظم الشباب اللبناني يرى أن الصورة تؤثر فيه أكثر من التحذير الخطي، وتؤثر إيجاباً على الأولاد والأطفال والأميّين”
[14]. وللأسف أتت التسوية في هذا الاتجاه، اذ ربط المشرّع مسألة الصور التحذيرية بمرسوم “يمكن”
[15] أن يصدره مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزارتي الصحة العامة والمالية بالتوافق. واللافت أن الأمر قد احتاج مرور سنة وشهر على صدور القانونكي تصدر الحكومة مرسوما تنفيذيا بهذا الشأن وأنها اكتفت بالتحذير اللغوي من عدم استخدام أية صورة، علما أن نفاذ هذا المرسوم مرجأ بموجب التسوية نفسها لسنة اضافية.
وأخيراً، فقد استثنى المشرّع من أحكام القانون 20% من غرف الفنادق؛ وفي حين أتى هذا الاستثناء نتيجة لمساومة مع مصالح أصحاب الفنادق الذين كانوا يطالبون باستثنائهم من أحكام القانون بشكل عام
[16]، فإنه يشكل من الناحية النظرية تجاوزا لاحدى ركائز الديمقراطية أي لمبدأ المساواة. فباستثنائه هذا، جعل القانون أجراء الفنادق بوضعية دونية بالنسبة الى سائر اجراء القطاع الخاص الذين يحق لهم الاستمتاع ببيئة سليمة للعمل خالية من مضار التدخين. وهذه التسوية تظهر جليا كيف غلّب المشرّع المصالح الخاصة على المصلحة العامة، لا سيما في ظل عدم الاتفاق على ضوابط للتفاوض.
انقلاب أصحاب النفوذ على التسوية بهدف تحسين شروطهم
غير أنه وبعد دخول القانون حيز التنفيذ بالنسبة للأماكن ذات الطابع السياحي أو الترفيهي، انقلب اصحاب المصالح الخاصة على التسوية وأعادوا فتح باب المفاوضات متذرعين بكساد الاقتصاد اللبناني خلال الموسم السياحي وموسم الاعياد
[17]. وفيما أنهم ثابروا أصلا على المطالبة باستثثنائهم قبل اقرار القانون وبعده، فإنهم عمدوا من خلال النسخة المستحدثة لمطالبهم، الى تطوير دفوعهم وتنويعها من كساد الاقتصاد وصولا الى نسبويّة القيم وحرصهم على المحافظة على تراث لبنان الثقافي وتراث العالم العربي بشكل عام
[18]. وسرعان ما لقوا لدى بعض المشرّعين حلفاء لهم ذهبوا الى حد اقتراح تعديلين للقانون يضربان عرض الحائط بمبدأ المساواة وحماية الصحة العامة، هذا فضلا عن أن الاقتراحين يتعارضان كليا مع التزام الدولة اللبنانية التي صادقت على الاتفاقية الاطارية من دون أي تحفظ.
فالاقتراح الأول
[19] الذي قدمه النائبان نديم الجميل وسامر سعادة يستثني من أحكام القانون جميع الاماكن المخصصة لتدخين النرجيلة والسيجار وبشكل عام جميع المؤسسات السياحية، بغض النظر عن تصنيفها لدى وزارة السياحة (!!)، شرط أن يكون 60% من مدخولها على الأقل يرتكز على النراجيل أو السيجار فقط. أما الاقتراح الثاني والذي تقدم به النائب أنطوان زهرا
[20]، فهو يذهب أبعد من الاقتراح الاول بحيث يستثني كافة المؤسسات السياحية شرط استحصالها على ترخيص بذلك، هذا فضلا عن أنه يوسع الاستثناء المعطى للفنادق في أول نسخة من التسوية بحيث سمح لها أيضا بتخصيص مساحة للتدخين لا تتجاوز 5% من مساحة الفندق المبنية.
وبغض النظر عن مهزلة الاقتراح الأول بالنسبة لاشتراطه أن يكون 60% من مدخول المؤسسة السياحية على الأقل يرتكز على النراجيل أو السيجار، لا سيما من الناحية العملية
[21]، يُوجه للاقتراحين الانتقاد عينه الذي وُجه اعلاه الى القانون بشأن استثنائه 20% من غرف الفنادق (أي تعارضهما مع حماية الصحة العامة ومع مبدأ المساواة). لكن اللافت هو أن أصحاب الاقتراح الأول استندوا الى “نسبية القيم” للتنديد بالقوانين “المستوحاة من وراء البحار”
[22]، متذرعين بأهمية الدفاع عن التراث اللبناني والعربي بخصوص استهلاك النرجيلة من دون اعطاء أي تفسير مماثل بما يخص السيجار. وان صراع القيم هذا، ليس غريبا عن كلاسيكيات حروب شركات التبغ. فهي لا تجد حرجا في التسلح بأي من القيم الانسانية لتسويق سلعها. وفي هذا الاطار، تجدر الاشارة الى أنها كانت قد تذرعت ماضيا في عدد من الدول بمبدأ حرية التعبير للتصدي لحظر الدعاية والاعلانات، معتبرة انه ليس من شأن حماية الصحة العامة أن تسمو على حرية التعبير؛ وهذا ما تصدت له محكمة التمييز الفرنسية مؤكدة ان حرية التعبير تُحدها حماية الصحة العامة
[23].
وبالرغم من رفض الكتل النيابية تبني اي من الاقتراحين المذكورين اعلاه
[24]، لا يزال أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي متصلبون في مطالبهم بتعديل القانون على نحو استثناء المؤسسات السياحية وهم يعملوا على تقديم مشروع قانون لمجلس النواب بهذا الاتجاه
[25].
لا ريب ان كل القيم والمبادئ ليست على المستوى نفسه، لا بل أن بعضها لا يقبل التفاوض والمساومة، وأن ظاهرة “القانون المفاوض” تضبطها قواعد لعبة التفاوض بحد ذاتها. فحتى وفي وضع مثالي للتفاوض (وضع لا يعرف الفرقاء فيه مسبقا ما ستؤول اليه مصالحهم)، أخرج
Rawls المبادئ والحقوق الأساسية من اطار التفاوض لتكون بالمقابل ضوابط له
[26]. فماذا عن الحالات الواقعية التي غالبا ما يميل فيها التفاوض الى المساومة دفاعا عن مصالح معروفة سلفا أكثر مما يميل الى التحاور على أساس ضوابط وقيم متفق عليها مسبقا؟
فهناك قيم ومبادئ تخرج بطبيعتها عن كل تفاوض أو مساومة، بحيث تحظى بإجماع وطني أو حتى كوني، ومنها ما يشكل ركائز لأي ديمقراطية كما هي حال مبدأ المساواة والحق بالصحة، وهي ركائز يفترض أن تشكل ضوابط للحوار لا موضوعا للمساومة.
وهكذا، وفي ظل عدم تصرف البعض ومنهم مشرعون كأنما لا ضوابط للتفاوض، تبقى حرب شركات التبغ وكل من له مصلحة بتعطيل القانون، وعلى رأسهم الفنادق والمطاعم والمؤسسات السياحية بشكل عام، قائمة على نحو يهدد بتحول القانون المفاوض الى قانون في التفاوض (المستمر).