بتاريخ 29-9-2014، قدم النائب غسان مخيبر اقتراح قانون لتنظيم زواج القاصرين والقاصرات في لبنان. والسبب الموجب لوضع هذا القانون هو ازدياد حالات زواج هؤلاء في سن مبكرة والمشاكل العديدة التي تنتج منها والتي لها انعكاسات اجتماعية جمة، سواء على الفرد أو المجتمع بأسره. ويفرض هذا الازدياد تالياً تدخل المشرّع لتأمين الحماية الاجتماعية للأطفال المقيمين على الأراضي اللبنانية. والفريد في هذا الاقتراح أنه شكل الوثيقة الرسمية الأولى من نوعها على حد علمنا، التي يعلن فيها منظمها صراحة وبالفم الملآن، أن للدولة حقاً وواجباً في التدخل في المجال الأسري، كلما بدا ذلك ضرورياً لحماية مواطنيها. وعليه، نقرأ في الأسباب الموجبة أن “حق الدولة في التشريع على مستوى حماية العائلة اللبنانية محفوظ وثابت وأنه يقع على الدولة اللبنانية واجب رعائي يقضي بحماية رعاياها من كامل الأوجه الاجتماعية”. وهذا الإعلان يقطع عملياً مع الخطاب الرسمي بأن الأمور الأسرية تدخل ضمن سيادة الطوائف في تنظيم الأحوال الشخصية وأنه ليس للمشرّع أي أحقية في مناقشتها حتى. وقد وصفت الوثيقة هذا الواجب بوضوح كلي لا يترك مجالاً للبس بـ”الانتظام العام”. ومن هنا، يقتضي حسب واضعي الاقتراح أن يوفق المشرّع دوماً بين مراعاة قوانين الأحوال الشخصية عملاً بالمادة 9 من الدستور والتزامات الدولة تجاه رعاياها والمقيمين على أراضيها من خلال تحصين دور الدولة الرعائي والحمائي. إلا أنه على الرغم من أهمية هذا الأمر، فإن التدقيق في مضمون الاقتراح سرعان ما يبين أن قواعد الانتظام العام التي تضمّنها تبقى غير كافية لضمان حماية فعلية للأطفال. وقد ركزت ردود فعل المنظمات الحقوقية الرافضة لهذا الاقتراح على هذا النقص، مطالبة بمنع زواج القاصرين بدل تنظيمه، من دون أن تعير أي انتباه الى الدور المعلن للدولة في فرض انتظام عام. ومن باب تقييم هذا المقترح، سنعمد تالياً الى مناقشة فكرة النظام العام التي تشكل الإيجابية الأساسية فيه، قبل أن نجري قراءة نقدية لماهية هذه القواعد ومفاعيلها وبالنتيجة ما قد تتيحه من إجراءات حمائية للأطفال.
فكرة النظام العام في المجال الأسري
فكرة النظام العام في المجال الأسري ليست جديدة. فهي وردت في المادة 9 من الدستور التي أقرت حرية إقامة الشعائر الدينية شرط عدم الإخلال بالنظام العام، كما وردت في المادة ……. والتي أجازت للمشرّع صراحة عند النظر في القوانين المذهبية استبعاد ما يخل بالنظام العام. إلا أنه رغم ذلك، فقد أعرض المشرّع عن ممارسة هذه الصلاحية صراحة، فبقي الخطاب الطاغي في كل حين هو الاحترام الكلي لسيادة الطوائف في تنظيم الشؤون الأسرية للمنتمين اليها. وهكذا، طبقت القوانين المذهبية من دون أن يمارس عليها المشرّع أي رقابة من أي نوع كان، على أساس أنها أعراف ملزمة بذاتها، الى درجة بات معها مفهوم النظام العام في قضايا الأسرة وكأنه خارج الموضوع. ولم يطفُ هذا المفهوم إلا تبعاً لتحليل أعمال قضاة الأحداث في قضايا حماية الأطفال سنداً للمادة 25 من قانون الأحداث التي تولي هؤلاء اتخاذ تدابير حماية في الحالات التي يكون فيها أحد الأطفال موضع تهديد في أخلاقه أو صحته أو تربيته.. الخ[1]. وكان عدد من قضاة الأحداث قد اتخذوا تدابير حمائية أدت في مفاعيلها الى مخالفة أحكام صادرة عن محاكم شرعية، كقرار إبقاء الطفل في منزل والدته خلافاً لقرار المحكمة الشرعية بنقله الى والده لتجاوزه سن الحضانة (7 سنوات آنذاك لدى الطائفة السنية). وإذ علل قاضي الأحداث قراره ذاك بوجود خطر على صحة الطفل النفسية في حال انفصاله عن والدته، انتهت الهيئة العامة لمحكمة التمييز في قرار هام في 7-7-2009 الى المصادقة عليه، على اعتبار أن الصلاحية المعطاة لهذا القاضي في حماية الأطفال شاملة[2]. كما عاد الحديث عن النظام العام، ولو بطريقة ملتبسة وخجولة، في سياق النقاش العام الدائر حول حماية النساء من العنف الأسري[3]. ومن هنا، بدا واضعو المقترح وكأنهم يعطون هذا التوجه زخماً جديداً، زخماً تراكمياً من خلال تبنيه.
وما يعزز من أهمية ذلك هو إفصاح واضع الاقتراح عن هذا الموقف علناً، ما يفتح مجالاً لتحويل مسألة زواج القاصرين الى مناسبة لإطلاق نقاش عام واضح حول دور الدولة في المجال الأسري برمّته.
نظام عام من عيار خفيف
السؤال الذي نطرحه هنا: عن أي نظام عام نتحدث؟ وهل يشكل إخضاع زواج القاصرين لموافقة مسبقة من قاضي الأحداث بحد ذاته ضمانة كافية لحماية الأطفال إزاء مخاطر إخضاعهم لزواج مبكر على اعتبار أن بمقدوره التأكد في كل حالة من مدى جهوزية القاصر للزواج أم أنه كان يقتضي إحاطة هذه الصلاحية المعطاة لقاضي الأحداث بما يضمن حسن أدائها لتحقيق الغاية المرجوة من اقتراح القانون؟
ونلحظ هنا مجموعة من الأمور التي من شأنها أن تضعف كثيراً من مفهوم النظام العام. ونصنفها ضمن أربعة:
أولاً، ترك الاقتراح هامشاً واسعاً لقاضي الأحداث في إعطاء الإذن أو حجبه، ضمن ما تجيزه قوانين الطوائف. وعليه، خلا الاقتراح من أي قاعدة ملزمة للقبول بالزواج أو لرفضه كأن ينص على سن أدنى للزواج، أو أن يشترط في كل الحالات موافقة الطفل القاصر. وإذ نص المقترح على وجوب إجراء تحقيق اجتماعي، فإنه خلا بالمقابل من أي إشارة الى وجوب إجراء فحص طبي للتأكد من قابلية القاصر للزواج نفسياً وجسدياً.
ثانياً، أن الاقتراح بدا خجولاً في تحديد مفاعيل عقد زواج من دون الحصول على إذن مسبق من قاضي الأحداث أو على الرغم من رفضه إعطاء الإذن، ما قد يؤدي الى تجريد هذا الاقتراح في حال إقراره من أية فعالية. فالعقوبة التي تترتب على رجل الدين أو ولي الأمر أو الوصي في حال انعقاد زواج من دون إذن مسبق هي غرامة مالية تعادل عشرة أضعاف الحد الأدنى الرسمي للأجور أي مبلغ 4500 دولار أميركي. وعدا أن هذه العقوبة غير رداعة، فإنها لا تتناسب إطلاقاً مع الأهمية الفائقة للمصلحة التي تهدف الى ردع التعرض لها. لا بل يرجح في هذه الحالة أن تؤدي هذه الغرامة الى رفع الثمن الذي على الزوج أن يسدده من دون أن يؤدي الى ردعه. ويسجل هنا أن الزوج الراشد يبقى بموجب الاقتراح معفياً من أي عقوبة، رغم أنه شريك في المخالفة. وهذا الأمر إنما يذكّر بأحكام الدعارة حيث يكون الزبون المستفيد من الخدمات الجنسية لقاء بدل معفياً من أي عقوبة. والى ذلك، خلا اقتراح القانون من أي حكم ناظم لمفاعيل الزواج المدنية في حال تجاوز شرط الإذن المسبق. فهل يكون الزواج في هذه الحالة باطلاً بطلاناً مطلقاً لمخالفته حكم النظام العام؟ وماذا يكون في هذه الحالة مصير الأطفال الذين قد ينشأون عنه؟ ويخشى في ظل صمت القانون أن تعود قوانين الطوائف لتفرض حلولها بشأن هذه المفاعيل من دون أي ضابط، مع ما يفترضه ذلك من التفاف حول الانتظام العام المراد تكريسه وتحايل عليه.
ثالثاً، أن الاقتراح غيب عملياً الطفل المعني بالزواج وجرّده من أي شخصية قانونية ذاتية. فباستثناء إلزام قاضي الأحداث بالاستماع اليه، فإنه ليس له أن يتدخل في إجراءات الإذن من خلال محام خاص أو الطعن في قرار إعطاء الإذن بزواجه أو تزويجه. فالذي يطلب الإذن هو ولي الأمر أو الوصي وهو وحده الذي يملك حق استئنافه في حال حجبه. كما غيب الاقتراح الجهات التي تتولى عموماً حماية الطفل. فيبقى الاقتراح خلواً من أي إشارة الى المجلس الأعلى للطفولة أو الى الجمعيات المعنية بحماية النساء أو الأطفال. وقد كان من الممكن طبعاً أن تعطى هذه الهيئات دوراً معيناً ولو على سبيل المشورة أو مراقبة إجراءات طلب الإذن ومنحه أو حتى الطعن في الأذونات الصادرة عن قضاة الأحداث. وما يزيد هذا الأمر قابلية للنقد هو أن الاقتراح فرض على المحكمة الابتدائية الناظرة في استئناف قرارات رفض إعطاء الإذن بالزواج، استشارة المراجع الدينية التي تكون قد أذنت به. كما نلحظ غياباً كلياً لأي تدابير حماية خاصة في حال رفض الزواج أو في حال القبول به كالطلاق اللاحق مثلاً.
رابعاً، أن الاقتراح ترك هامشاً واسعاً لولي الأمر أو الوصي الشرعي بنقض الرفض الصادر عن قاضي الأحداث في مقابل تحصين قرار إعطاء الإذن إزاء أي طعن. وبالفعل، منح الاقتراح الولي أو الوصي، ليس فقط حق استئناف القرار بحجب الإذن كما سبق بيانه، بل أيضاً ضمناً حق التقدم بطلبات جديدة في أي حين أمام القاضي نفسه أو أمام قضاة أحداث آخرين، ما يبقي الضغط والسعي لتزويج القاصر قائمين ويزيد طبعاً من احتمالات الحصول على الإذن بذلك. كما يكون له حق تقديم طلبات جديدة حتى في حال صدور قرار استئنافي برفض الإذن بعد انقضاء سنة من صدوره. ومن هذه الزاوية، بدا الاقتراح مناقضاً تماماً لهدف واضعه: ففيما يفهم من أسبابه الموجبة أن تزويج القاصر أمر مكروه لما فيه من تهديد للطفل، فإذا به يتحول الى أمر مستحبّ بحيث يُعطى ولي أمره الفرصة تلو الأخرى لتحقيقه.
وبالعودة الى السؤال المطروح أعلاه، يتبدى أن الانتظام العام المقترح يقتصر على توسيع صلاحية قاضي الأحداث من دون أي ضوابط أخرى، بل حتى من دون تزويده بآليات أو إحاطته بتوازنات من شأنها تسهيل عمله. فكأنما يكفي ما حققه من قبل من نجاح في مجال حماية الأطفال لإلباسه لباس الرقيب أو المشرف على المحاكم المذهبية في مجال زواج القاصرين، في نظام يكاد يمتهن برمّته مجاملة هذه السلطات. وانطلاقاً من هذه الاعتبارات، يخشى أن يشكل تفويض قاضي الأحداث بهذه المسؤولية كرة نار يضعها المشرّع بيده أكثر مما هي كوة يفتحها هذا المشرّع لتطوير المنظومة القانونية في مجال التنظيم الأسري.
نشر هذا المقال في العدد | 22 |تشرين الأول/أكتوبر/ 2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه: