أضرب عمال النظافة بكامل البلاد التونسية عن العمل يومي 18 و19 جوان 2014 على خلفية طلبات نقابية تتعلق بوضعياتهم المهنية. وأتى اضرابهم بعد يوم واحد من الاعلان عن رفع عمال مركز تجميع الفضلات ببرج شاكير لإضرابهم عن العمل الذي استمر من 09 جوان 2014 لغاية يوم 17 جوان 2014. ادت اضرابات العاملين بقطاع النظافة على مختلف أصنافهم والتي اتسمت بتواترها وطول مدتها الى آثار سلبية واضحة، اذ نجم عن الاضرابات تراكم الفضلات داخل المدن وتدهور في الوضع البيئي خصوصا وقد تزامنت الاخيرة منها مع بداية فصل الصيف. وقد طرح هذا الواقع سؤالا حول ضرورة الملاءمة بين الحقوق والحريات خصوصا وان الاضراب يعد حقا نقابيا اصليا يضمنه الدستور التونسي الجديد بمقتضى الفصل 35 منه فيما يعد الحق في البيئة السليمة حقا اساسيا على الدولة ان تضمنه وذلك بان تعمل على توفير الوسائل التي تكفل القضاء على التلوث البيئي كما ينص على ذلك الفصل45 من ذات الدستور .
أدت اضرابات عمال النظافة السابقة الى تحسين ظروف عملهم خصوصا على مستوى التأجير ومكافحة هشاشة العمل. الا أن اضرابات شهر جوان 2014 لم تثمر اتفاقات بين الطرف الحكومي وممثلي العمال بعدما تعطلت لغة الحوار بينهما، الا انها كشفت عن تطور في التعاطي مع حق الاضراب بما يؤهلها لتكون محطة هامة في تحديد تصورات كيفيات ممارسة هذا الحق مستقبلا وشروطه.
ويبين رصد ردود أفعال الأطراف المختلفة من اضرابات عمال النظافة أن الآثار البيئية وعدم شعبية اضرابات عمال النظافة لم تمنع الهياكل النقابية للاتحاد العام التونسي للشغل اكبر المنظمات النقابية التونسية من تبني التحرك الاحتجاجي والدفاع عنه. ويعطي تمسك النقابيين بحق عمال النظافة في الاضراب بعدا يتجاوز مطالب العمال الاصلية القطاعية، ليؤسس لنظرة حقوقية اكثر شمولية عنوانها "الاضراب حق عمالي اصلي". وفي الجهة المقابلة، وجدت الحكومة التونسية التي تعاني من صعوبات في ادارة الوضع الاقتصادي في عدم شعبية اضراب عمال النظافة فرصة سانحة لتطور مقاربة جديدة للاضراب في المرافق العمومية على اعتبار ان تواتر الاضرابات وتعددها يعد من ضمن اسباب الازمة الاقتصادية.
تحول بالتالي اضراب عمال النظافة من مجرد حدث نقابي قطاعي الى حلبة صراع خفية قد يكون لمجرياتها اثر هام على منظومة حق الاضراب. فبعدما نجح العمال في فرض حقهم في الاضراب، اتت ممارستهم لهذا الحق في قطاع يتميز بحساسيته لتفرض الحديث عن تنظيم ممارسة حق الاضراب.
حق الاضراب، رغم الاعتراضات:
نص الفصل الثامن من اول دستور للجمهورية التونسية- دستور غرة جوان 1959- على ان الحق النقابي مضمون. الا أن الحماية الدستورية للحق النقابي لم تمنع الحكومات التونسية المتعاقبة من محاصرة العمل النقابي باستعمال التتبع الجزائي للناشطين النقابيين بتهم تعطيل حرية العمل وفق احكام المجلة الجزائية[1]. دفعت خبرة تجربة الجمهورية الاولى النقابيين للتمسك بإدراج تنصيص على حق الاضراب بدستور الجمهورية الثانية. فيما دفع الافراط في الالتجاء للإضراب بعد الثورة في اطار الانفلات المطلبي جانبا من الطبقة السياسية الى التخوف من الاقرار بالحق في الاضراب من دون قيود تنظم الحد منه استعماله.
انتهى الصراع في مرحلة اولى الى صياغة مشروع للدستور ينص في الفصل 27 منه "على ان الحق في الاضراب مضمون ما لم يعرض حياة الناس او صحتهم للخطر". وبدا جليا من صياغة مشروع الفصل الدستوري ان الاقرار بحق الاضراب كأحد الحقوق الأساسية كان محدودا ويقبل التأويل في اتجاه منع الاضراب عن مختلف العاملين بالقطاعات التي تشغل مرافق عمومية حيوية. الا ان الحوار الوطني وما رشح عنه من توافقات ادى للتوصل لصياغة للنص الدستوري تكرس الحماية الدستورية لحق الاضراب كحق اساسي بما يتناغم مع مقتضيات المادة الثامنة من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[2]. وانهى بالتالي الفصل 35 من الدستور التونسي الجدل حول منع ممارسة الإضراب وليرسي لأول مرة في تاريخ تونس الاضراب كحق اساسي يضمنه الدستور ولا يمكن بالتالي منعه او تجريمه لاحقا.
أدى تطور الحريات العامة بعد الثورة لإنضاج الوعي بأهمية التنصيص على الحق في الاضراب صلب الدستور، فيما دفع تواتر الاضرابات بنتيجة تطور هذا الوعي للسؤال حول الاساليب الكفيلة بالحد من الآثار السلبية لممارسة حق الاضراب على سير المرافق العامة الحيوية. ومنع ضعف الطرف الحكومي سابقا بروز ممارسة تحدد ضوابط حق الاضراب. غير انه مع اضراب عمال النظافة، برز تطور نوعي في التعاطي الحكومي كشف عن تصورات لضوابط حق الاضراب يتعين الوقوف عندها.
ضوابط حق الاضراب:
حاولت الحكومة التونسية ومن قبلها ولاية تونس ان تبحث في المنظومة القانونية القائمة عن آليات تسمح باستمرارية تواصل عمل المرفق العام بموازاة ممارسة اعوانه لحقهم في الاضراب. فتم بمناسبة اضراب عمال النظافة موفى شهر جانفي 2014 وفي مواجهة اضراب عمال مركز تجميع الفضلات استصدار قرار بتسخير العمال. غير ان التسخير لم يحقق اثره المرجو فبانت الحاجة لضوابط تحظى بقبول عمالي تضمن الحد الادنى من العمل للمرافق العمومية عند الاضرابات.
تسخير العمال
التجأ والي العاصمة تونس بمناسبة اضراب عمال النظافة لشهر جانفي 2014، ومن بعده الحكومة التونسية بمناسبة اضراب مركز تجميع النفايات ببرج شاكير بداية شهر جوان 2014 الى الاعلان عن استصدار قرارات اسمية في تسخير عدد من العمال المضربين ليتولوا ضمان تواصل العمل. ويعد التسخير آلية قانونية نص عليها الفصل 389 من مجلة الشغل الذي يبين أن التسخير يتعلق بعملة المؤسسة بما يعني تحجير استعمال غيرهم للتشويش على اضرابهم.كما يحدد اجراءات التسخير فيبين انها تتم بقرارات فردية تبلغ للأعوان المعنيين او بالتعليق بمقر العمل او ببلاغات في الاعلام في صورة ما اذا تم تسخير كل اعوان المؤسسة المضربين. ويؤدي صدور قرار التسخير لنزع الشرعية عن اضراب من تم تسخيرهم كما يجعلهم في صورة رفض الامتثال عرضة لتتبعات جزائية تتراوح عقوبتها السجنية بين الشهر الواحد والعام. ورتب بالتالي المشرع اثرين على رفض الامتثال للتسخير اولهما اداري يتمثل في اعتبار توقفهم عن العمل غير شرعي مع ما يستتبع ذلك من امكانية لمؤاخذتهم تأديبيا وثانيهما جزائي ويتمثل في عقوبات سجنية.
وبينت تجربة التسخير في اضرابات عمال النظافة ان استجابة العمال لقرارات التسخير تظل محدودة وان التسخير يظل اجراء غير شعبي في الوسط العمالي. وان كان التسخير يعد من الاجراءات المعمول بها في مختلف التشريعات بما في ذلك الدول الأوروبية، فان فكرة تركه كحل وملاذ اخير يستدعي التفكير في اصلاحات تشريعية تضمن العمل الادنى بالمرافق الحيوية عند الاضرابات .
ضرورة ضمان الحد الأدنى للعمل
يتبين المتتبع للإضرابات التي اعلنت عقب الثورة أن طيفا من الهياكل النقابية ابرزت حرصا تلقائيا على ضمان استمرار المرافق المضربة. ومن الأمثلة على ذلك، أن نقابة الصحافيين كانت في اضراباتها بما في ذلك الاضراب العام الذي دعت له يوم 17 سبتمبر 2013 تحرص على تنظيم تواصل عمل المرفق الاعلامي فتبين شكل الاضراب وتؤكد انه لا يشمل النشرات الاخبارية .كما ان الهياكل المهنية للقضاة درجت في اضراباتها على ضمان عدم تعطل مرفق القضاء بحمايتها استمرار تعهد القضاة المضربين بالنظر في الامور المتأكدة من قضايا موقوفين وغيرها. وتعد نقابات الصحة سواء الخاصة بالإطار الطبي او تلك الخاصة بالإطار شبه الطبي ذات تقاليد عريقة في ضمان درجة العمل الدنيا، اذ انها درجت على ان تستثني دوما من اضراباتها الاقسام الاستعجالية ومباشرة الحالات المتأكدة. وفي مقابل ذلك تتضح الحاجة في قطاعات اخرى لتوضيح مفهوم استمرار العمل بالمرفق العام لكي لا يتحول الاضراب الى اداة تدمر عوض ان يكون وسيلة نضال ورقي اجتماعي. وقد يشكل الحوار الاجتماعي وتوافق الاطراف الاجتماعية المدخل الضروري لوضع مدونات تبين اساليب ضمان استمرار العمل بالمرافق العامة ومواطن العمل الحساسة عند الإضرابات، بما يضمن حماية حق الاضراب وحماية حقوق المجموعة العامة بموازاته.
للإطلاع على ترجمة النص باللغة الإنكليزية, الرجاء إضغط هنا
[1]ينص الفصل 136 من المجلة الجزائية التونسية " يعاقب بالسجن مدة ثلاثة اعوام وبخطية قدرها سبعة وعشرون دينارا كل من يتسبب او يحاول ان يتسبب بالعنف او الضرب او التهديد او الخزعبلات في توقف فردي او جماعي عن العمل أو تسبب أو حاول ان يتسبب في استمرار توقفه.
[2] العهد الدولي حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المادة 8 الفقرة د) المصادق عليه من طرف الأمم المتحدة في ديسمبر 1966