“
صدقّ البرلمان اللبناني في جلسته التشريعية المنعقدة في 24 أيلول 2019 على البروتوكول الثاني لإتفاقية لاهاي 1954لحماية الممتلكات الثقافية في حال النزاع المسلح الذي اطلقته منظمة اليونسكو سنة 1999. تعتبر هذه الخطوة ضرورية جداَ اليوم بعدما شهدت المنطقة على أكبر عملية تدمير للمتلكات الثقافية منذ آلاف السنين. فعبر تكسير التماثيل وتفجير المعابد والأضرحة أكد تنظيم داعش هشاشة التراث والآثار، وضرورة وضع الآليات للمحافظة عليها.
تعتبر إتفاقية لاهاي ببرتوكوليها الاول 1954 والثاني 1999 الأداة الدولية الوحيدة التي تهدف على وجه التحديد إلى حماية واحترام التراث الثقافي والحفاظ على الممتلكات الثقافية ، المنقولة وغير المنقولة. وتعتبر الممتلكات المنقولة القطع الأثرية والتاريخية والمخطوطات والكتب.. اما الغير المنقولة فهي المعالم ذات الأهمية الكبرى للتراث الثقافي مثل الآثار المعمارية أو الفنية أو التاريخية او الدينية. وتهدف الاتفاقية أولاً الى الحفاظ على الممتلكات كافةً وذلك عبر فرض إستراتيجيات عملية على الدول المصدقة.
وكان لبنان قد وقع عام 1960 على البروتوكول الأول، وهو يصدق الآن على الثاني. وكان وزير الثقافة د. محمود حمود قد وعد في الأشهر الماضية (خلال محاضرات أقامها في لبنان أو شارك فيها في سويسرا) بأنه سيفّعل ملف التصديق على الاتفاقية الذي كان يقبع في أدراج اللجان النبيابية منذ سنوات عديدة. وبالفعل، شق مشروع القانون طريقه إلى الهيئة العامة، لتبدأ اليوم المسيرة الأصعب ألا وهي تطبيق بنود إتفاقية لاهاي بروتوكولاتها عبر التحضيرات والتدريبات لتحقيق اهداف الحماية.
وهذا أمر كان في لبنان محصورا جداً بأوقات القتال. فالاتفاقية تنص على وضع لائحة المواقع الأثرية الأساسية ورفعها إلى اليونسكو، والعمل على أن تتوافق القوات المسلحة على حمايتها والابتعاد عنها. وتنص الاتفاقية على وضع شعارها – الدرع الأزرق- على هذه المواقع بهدف إطلاع كل الجهات المتقاتلة بأن هذا الموقع هو ممتلك ثقافي وبالتالي يجب عدم استهدافه او استخدامه عسكرياً. وضع لبنان قيد التنفيذ الجزء الأخير من الاتفاقية خلال الاجتياح الاسرائيلي سنة 1978. فحينها، أسرعت الفرق العاملة في المديرية العامة للآثار، ووضعت شعار الدرع الازرق على بعض المواقع الأثرية في الجنوب مثل معبد أشمون في صيدا، والمواقع الرومانية في صور لتأمين حمايتها من الهجمات العسكرية الإسرائيلية. ولاتزال هذه الإشارات تقف صامدة على المواقع تذكيراً واضحاً بأن لبنان مدرك تماماً ببنود اتفاقية 1954 وبروتوكلها.
ولكن ماذا عن البروتوكول الثاني؟ على ماذا بالتحديد صدّق البرلمان اللبناني؟ أتى البروتوكول الثاني لتعزيز الحماية المتلكات الثقافية وذلك من خلال تحديد طرق الحماية ووضع الآليات القانونية لمعاقبة الأشخاص، أو العسكريين الذين يقومون بتدمير أو تخريب الممتلكات الثقافية.
فيعزز البروتوكول الثاني (1999) العديد من أحكام الاتفاقية وبروتوكولها الأول المتعلق بحماية التراث الثقافي واحترامه والسلوك الذي يجب إتباعه أثناء الأعمال العدائية. ولكنه توسع في لائحة المواقع محدداً كل منها في فئة معينة: فهناك مثلاً “الحماية المعززة” للممتلكات الثقافية ذات الأهمية الكبرى للإنسانية إضافة إلى الفئات السابقة من “الحماية العامة” و”الحماية الخاصة”. وأتت الحماية المعززة مدعمة بتدابير قانونية وإدارية محلية تحددها الاتفاقية. إذ يمنع استخدام هذه المواقع المصنفة لأغراض عسكرية أو لحماية المواقع العسكرية. كما أنه يحدد بشكل مباشر العقوبات المفروضة في حالة ارتكاب انتهاكات خطيرة ضد الممتلكات الثقافية، والظروف التي يتم بموجبها تطبيق المسؤولية الجنائية الفردية.
كما ويحدد آليات العمل أثناء السلام. فوضع القوائم يصبح أمراً مفروضاً، وكذلك التخطيط لتدابير الطوارئ للحماية ضد الحريق أو الانهيار الهيكلي أو الحرب. بما ذلك التحضير لإزالة الممتلكات الثقافية المنقولة أو توفير الحماية الكافية في الموقع لتلك الممتلكات وتعيين الجهات المختصة المسؤولة عن حمايتها. فيتم بذلك تدريب فرق عمل في المديرية العامة للآثار تعمل مع القوات المسلحة، بالتعاون مع السلطات المدنية، على عمليات إخلاء المتاحف والمخازن، ونقلها إلى الاماكن الآمنة بشكل دوري.
ويكون الكادر البشري المدرب على هذه الحالات محدداً ويملك بطاقات تعريف شخصية تحمل إشارة الدرع الازرق، وتحدد هوية ووظيفة كل شخص. حتى إذا ما تمت الكارثة، تكون الجهات جاهزة لمواجهتها. كما ويتم وضع أهم الممتلكات الثقافية غير المنقولة في “السجل الدولي للممتلكات الثقافية تحت الحماية الخاصة” ويجب إستخدام شعار Blue Shield المميز لتسهيل تحديد الممتلكات الثقافية.
اما أثناء النزاع المسلح، فينبغي على الدول الأطراف في الاتفاقية والبروتوكولين احترام الممتلكات الثقافية عن طريق الامتناع عن توجيه أي عمل عدائي موجه ضدها وحظر ومنع جميع عمليات السرقة أو النهب أو التصدير غير المشروع أو نقل الممتلكات الثقافية، والامتناع عن توجيه أي عمل انتقامي ضد الممتلكات الثقافية.
وإذا ما لم يتم العمل بهذه البنود خلال الحروب، يمكن اتخاذ الخطوات اللازمة لمحاكمة وفرض عقوبات جزائية أو تأديبية على الأشخاص الذين يرتكبون أو يأمرون بارتكاب خرق للاتفاقية. وهذا ما يميز البروتوكول الثاني، إذ يمكن مقاضاة عناصر من الجيش، أو أي من القوات المسلحة التي دمرت الممتلكات الثقافية. وهذا ما حصل بالفعل مع مقاتل من قوات داعش عمل على تفجير الأضرحة الصوفية في جمهورية مالي وهو اليوم يقف أمام المحكمة الدولية في لاهاي بجرم “تدمير التراث”.
هذا الجرم لم يكن معروفاً سابقاً، ولكن الاتفاقيات الدولية التي تعمل منظمة اليونسكو على وضعها ومن ثم حثّ الدول على تنفيذها هي الأداة التي تسمح بتغير النمط الفكري حول هذه الأمور. لذا، يمكن محاكمة الأشخاص الذين فجروا أو نهبوا في المحكمة الدولية في لاهاي أو حتى في المحاكم الخاصة في بلادهم. فالمحافظة على الآثار في فترات الحروب باتت شرطاً من شروط القانون الدولي الانساني.
“