“
بتاريخ 1/11/2018 ، طلب المدعي العام التمييزي القاضي سمير حمود من النيابة العامة الإستئنافية في الشمال تمييز الحكم الذي صدر بتبرئة زوج الراحلة رولا يعقوب من جرم التسبب بوفاتها. وكانت محكمة الجنايات في الشمال قد أصدرت حكمها في هذه القضية بتاريخ 30/10/2018 بأكثرية مستشارين، هما القاضيين خالد عكاري وزياد الدواليبي، بعد تدوين رئيسها داني شبلي مخالفة. وقد جاء هذا الحكم بعد نحو خمس سنوات من الإنتظار المضني، مثلت فيها رولا يعقوب عرابة قافلة من النساء اللواتي سقطن من بعدها، الواحدة تلو الأخرى نتيجة العنف الأسري.
من يقرأ حكم الأكثرية، يدرك فورا أنه انبنى على شهادات ابنتي رولا اللتين كانتا في سن 11 و12 بتاريخ وفاتها، والتي استخدمت لنقض أدلة الإدانة مهما كانت قوية ولتدعيم أدلة البراءة مهما كانت وهنة، وهذا ما برهنته “المفكرة” في مقالة على حدة. وقد أمكن المحكمة أن تفعل ذلك بعدما استنبطت قرينة مفادها أنه “لا يستقيم منطقيا أن تسكتا (أي الطفلتان) عن جريمة ارتكبت بحقّها (أي أمهما) لو كانت هذه الجريمة واقعة فعلا ويصعب الشك في صحة شهادة “طفلتين لا زالتا في سن الطفولة البريئة والفطرية”.
الأطفال ميالون لحماية والدهم
كيف عسانا نقيم القرينة بمصداقية الأطفال في قضايا العنف التي يتواجه فيها أحد والديهم مع الآخر؟ هل حقا لا يستقيم منطقيا أن تسكت الطفلتان عن جريمة ارتكبت بحق أمهما أم على العكس من ذلك، ثمة عوامل كثيرة تحمل الطفلتين على تبرئة والدهما، وهي عوامل غيبتها الأكثرية عن حكمها تماما؟ المفكرة حملت هذه الأسئلة إلى الأخصائية هلا كرباج. فكان الحديث الآتي:
المفكرة: أي مصداقية يعلقها العلم لشهادات الأطفال في قضايا العنف المرتكب من والدهم ضد أمهم؟
كرباج: “لا يجب تجاهل شهادة الأطفال حتى ولو كانت أعمارهم تتراوح بين 12 و 11 سنة. لكن يجب الأخذ بعين الإعتبار الوضع النفسي الذي تعرضوا له وقالت: إجمالاً قرار القاضي لا يجب أن يرتكز على شهادة الأطفال وحسب، لأن الأطفال ممكن أن يكونوا معرضين لضغط معنوي ونفسي. كذلك فإن الدراسات والتجارب أظهرت أن الأطفال في المحكمة دائما يحاولون حماية أهاليهم حتى ولو كانوا قد تعرضوا للعنف من قبلهم، لأنه بالنسبة لهم من الصعب جداً تقبل أن شخصاً من المفروض أنه يحبهم ويحميهم هو مجرم وغير جيد إلخ. حالات قليلة جداً في المحاكم نجد فيها الأطفال يشتكون على أهاليهم، لأنه بالنسبة للولد يجب أن يحمي نفسه وال unite psychique ،هو بالنسبة له، يجب أن يقوم بكل شيء ليصدق أن والده جيد وأن والدته جيدة.
المفكرة: ما هي التدابير التي كان من المفروض على القاضي أن يتخذها حتى يستجيب للمعايير الأخلاقية والعلمية؟
كرباج: “يجب على القاضي أن يستمع إلى الأطفال. ولكن لا يجب أن يسند قراره على شهادة الأطفال ويجب أن يطلب لهم psychologue ففكرة أنه يتم استدعاؤهم للشهادة ضد والدهم، هي كفيلة بأن تسبب لهم صدمة نفسية. وفكرة أنه يتم استدعاؤهم للحديث حول هذا الموضوع أمام قاضٍ، هذه لوحدها تحتاج الى تحضير نفسي”. من الضروري حضور أخصائية نفسية أو مرشدة اجتماعية لديها خبرة بهذه الحالات لأن من شأن هذا الوضع أن يسبب صدمة للطفل المعني”.
المفكرة: ما هو التأثير النفسي للحكم على الأطفال فيما لو كانت شهادتهم كاذبة؟
كرباج: أن”التأثيرات النفسية ربما لن تظهر حالياً عليهم بل على العكس فإنه على المدى القصير فإن الأطفال ربما يكونون مرتاحين أن والدهم لن يذهب إلى الحبس. وبالتالي فإن الربحية على المدى القصير هي أكبر من الخسارة. فهم قاموا بإنقاذ والدهم الذي من المفروض أنه يعطيهم كل الاهتمام، لكن الضرر سيظهر لاحقاً بعد عدة سنوات عندما يكبرون ويصبحون في مرحلة من الاستيعاب والوعي وينتبهون أن هذا الأمر تقرر على أساس شهادتهم. والتأثيرات النفسية اللاحقة تتباين بحسب شخصيتهم ومدى الليونة أو الهشاشة الداخلية لديهم. ولكن من المؤكد أن ما حصل سيولّد أزمة لديهم، لأنهم سيقعون بهذا الشعور بالذنب. وهنا مدى ثقل القرار عليهم”.
انطباعات أولية: هكذا استقبلت بلدة رولا خبر براءة زوجها
على جانب آخر، توجهت “المفكرة” إلى منزل والدتها “ليلى”، التي خسرت وحيدتها كما خسرت رؤية أحفادها الذين ذهبوا ليعيشوا بعيدا عنها في منزل آخر لذوي والدهم. ليلى عبرت عن خيبة كبيرة. “طلع الحكم براءة. طلع بنظر القاضي بريء. شو فيني قول؟” كلمات تلفظت بها “ليلى يعقوب” وسط دموعها، معتبرة أن ابنتها قتلت مرتين بنتيجة هذا الحكم الذي لم ينصفها وفق رأيها. وحتى معرفة خبر قبول التمييز لم تثلج صدرها لأنها على يقين أن هناك تدخلات تحصل في ملف ابنتها. وأصرت ليلى على التأكيد أنها ماضية في الدعوى، معبرة عن قناعتها أن ابنتها قُتلت: “أنا لن أسامح. فأولاده سيعيشون من دون والدهم طالما أنهم عاشوا من دون والدتهم. ولكن “العترة” على ابنتي وحيدتي التي احترق قلبي أنا عليها. اتكالي على الله والعذراء فهي أم وتعرف قيمة الأم”.
وتذكر ليلى أنها حرمت تدريجياً من حفيداتها: “بعد وفاة ابنتي جاؤوا وناموا لديّ مرة واحدة، ثم أنا ذهبت إلى المدرسة ورجوت المدير أن يسمح لي أن أراهم”. ذكريات ليلى عن هذه الزيارة، قبلات وعناق حار ورغبة من غلاديس بأن تقوم جدتها بالتراجع عن الدعوى. وعن ذلك قالت:”طلبت مني حفيدتي أن أوقف الدعوى وقالت: “نحن خسرنا أمنا لا نريد أن نخسر بينا”. ومن بعد ذلك ما عادت تراهم وهذا ما تؤكده سلوى حداد قائلةً: “أولاد رولا ممنوعون من رؤية جدتهم رغم أن المطران أعطاها ورقة أنه يحق لها رؤية الأولاد 48 ساعة في الأسبوع”.
وفي جولة سريعة على البلدة، استهجن العديدون صدور القرار بالبراءة. وخلال تواجدنا هنالك في حلبا، كان من اللافت كيف راح جيران رولا وأقاربها الذين حضروا يوم دفنها، يستذكرون كيف كان جثمانها مليئاً بالكدمات ويدها ملوية. بالنسبة إليهم، هذه الكدمات هي الشاهد الذي لا يكذب.
“