العمّال والموظفون يُحمَّلون كلفة الانهيار: سلّة الاستهلاك في مواجهة الحدّ الأدنى


2024-05-01    |   

العمّال والموظفون يُحمَّلون كلفة الانهيار: سلّة الاستهلاك في مواجهة الحدّ الأدنى

يعبر يامن (58 عامًا) شارع الحي الذي يسكنه في إحدى بلدات المتن الشمالي عند السادسة من صباح كل يوم في طريقه إلى عمله، ويقفل عائدًا عند الرابعة من بعد ظهر اليوم عينه. نادرًا ما يمرّ يوم من دون أن يسأله أحد سكان الشارع أو أحد معارفه “شو بك يامن؟ انشالله مش مريض؟”. يجيب يامن على السؤال الذي بدأ يضايقه من كثرة ترداده “الحمدالله أنا بخير، ما بني شي”. ما يُقلق سكان الحي هو التغيّر الذي طرأ على شكل يامن الخارجي وتراجع تفاعله مع محيطه، وكذلك علامات “القلّة” التي ظهرت على نمط حياته بوضوح خلال الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد منذ نهاية 2019 وتتفاقم مع مرور الوقت. كان يامن يملك سيارة قديمة “بس بتمشي”، وكان يعمل في دكان ورثها عن أبيه المتوفي “يعني عايش”، تقول جارته. مع رفع الدعم عن البنزين، وعدم قدرته على إصلاح أعطالها، باع يامن سيارته. ومع الارتفاع الجنوني للأسعار اضطر إلى إقفال الدكان لأنّه لم يتمكن من مجاراة ما يسميه “نطنطة” الدولار. أما شركة الأمن (Security) التي يعمل معها، فقد انتظرت لغاية بداية العام 2024 لكي تدفع له كامل راتبه بالدولار “الفريش”. وراتبه لم يتخطّ لغاية الساعة 350 دولارًا من دون بدل نقل، حتى أنّ الشركة لم تسجّله في الضمان الاجتماعي رغم مرور أربع سنوات على عمله معهم، وهو يدعو الله كل يوم أن “يرد عنه المرض”، كما يقول لـ “المفكرة القانونية”: “أكيد رح موت إذا مرضت، ما معي إتعالج”.

يرد يامن نحول جسده إلى تناوله وجبة واحدة في اليوم “أوقات بجوع كتير بالليل وبعمل سندويش، الحمد لله مستورة”. يعيش مع شقيقيْه في منزل عائلته “ولا مرة فكرت أعمل عيلة، إذا أنا لوحدي مش قادر عيش، من 2020 ما اشتريت حتى صباط، كيف بدّي إتزوّج وجيب أولاد؟ وين بسكنّهم ومن وين بعلّمهم وبطبّبهم وبطعمّيهم؟”

أسأل يامن إذا كان سيذهب للعمل اليوم الأربعاء الذي يصادف عيد العمال، يبتسم ابتسامة صفراء مستخفًا بالسؤال: “إذا هيك ظروف شغلي، معقول كون رح عطّل؟ الحمدالله لي عم طلّع قرشين حتى ما موت من الجوع”. طبعًا لم تعتبر شركة الأمن نفسها معنيّة برفع الدولة الحد الأدنى للأجور إلى 18 مليون ليرة لبنانية. قالت للعاملين فيها، عندما أثاروا الموضوع: “نحن عم ندفع لكم أكثر من 18 مليون لـ بتساوي 200 دولار”. وتسلّحت بعدم فرض زيادة غلاء معيشة مع قرار زيادة الحد الأدنى.

حال يامن أفضل من حال سلوى التي تعمل منذ 12 عامًا في محل شهير للحلويات في منطقة كسروان. كان راتب سلوى يلامس 800 دولار قبل الأزمة: “كانوا يعطوني مليون و200 ألف ليرة قبل 2019 وأنا مضمونة كمان، وكان ماشي حالي”. اليوم، تُمنّن الشركة سلوى أنّها ضاعفت راتبها أكثر من 10 مرات “عم يقبّضوني 17 مليون ليرة، وهن بياخدوني ع الشغل وبيردّوني”. ما زال ضمانها الصحي ساريًا ولكنه بلا جدوى. اضطرّت مؤخرًا إلى إجراء عملية جراحية كلفتها 5000 دولار “والضمان ما دفع أكتر من شي 500 دولار”. اضطرّت سلوى إلى دفع كل ما ادّخرته في حياتها “ما كنت قادرة صحيًا إتجنّب العملية”. وللمناسبة، ستعمل سلوى أيضًا في يوم عيد العمال كالعادة “بالعطل الناس بتشتري حلو وبتضهر، أما نحن منفتح”، ولكن من دون أي عيدية من الشركة التي تعمل بها. تقول إنّها ترى بأمّ عينها كيف تراكم الشركة أرباحها “الشغل زاد ومعه الأرباح، لكن هيدا ما بينعكس ع وضع الموظفين”. وتقول إنّها لا تملك خيارات أخرى “بعد سنتين بطلع ع التقاعد، وين بدّي روح اشتغل؟ مين بيشغّلني؟، أنا همّي اليوم ينصبّ على القلق من فكرة لمّن إطلع على التقاعد حتى 17 مليون ما بعود آخد، كل الوقت مشغول راسي كيف ممكن عيش؟ ومن وين باكل وبشرب؟”.

تترواح رواتب عشرة عمال وموظفات تحدثت إليهم “المفكرة” عشية عيد العمال ما بين 17 مليون (كما سلوى) و800 دولار كما محسن (32 عامًا) الذي يعمل في شركة سياحة وسفر. يعتبر محسن نفسه محظوظًا بين أصدقائه “في منهم عم يقبضوا 250 دولارًا وشي خمسة ملايين لبناني”. ولكن هؤلاء جميعهم يبحثون عن عمل آخر، بما فيهم هو. “شو ما كان بدّي اشتغل”، يقول محسن “وإّلا ما رح إقدر إتزوّج ولا إعمل عيلة من هيدا المعاش”. ولذا يعمل في نهاية الأسبوع، عطلته، في مطعم في العاصمة من الرابعة من بعد الظهر ولغاية منتصف الليل “بيعطوني 25 دولار ع كلّ يوم شغل وبطّلع شوية إكراميات من الزبونات، هودي عم ضبّهم ع جنب”.

عندما تتحدّثين إلى عمّال وموظفين لا يثمر تعبهم بجني ما يسمح لهم بالعيش الكريم والحق في طبابة ترد عنهم شبح العلل والأمراض، تلمسين باليد كم أنّ الأداء الرسمي للسلطات اللبنانية منفصل عن الناس وحقوقها وهمومها “السلطة بوادي ونحن بوادي سحيق، نحن أيتام” تقول سلمى. وتتكرّر عبارة “نحن مخنوقين”، على لسان هؤلاء، ويمكنك أن تشعر بهذه “الخنقة” في نبرة الصوت المتعبة ومعها الوجوه التي تلبّسها الوجع والقلق المستمريّن حيث فقدوا الأمن الحياتي والمعيشي ومعه الصحي. 

هذا في القطاع الخاص، أمّا في القطاع العام فقد أشار الخبير الاقتصادي ورئيس مركز الدراسات والبحوث كمال حمدان في ندوة عقدها المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في الرابع من آذار 2024 إلى أنّ “99% من العاملين في القطاع العام يعيشون ضمن هامش خطوط الفقر، ما بين الخط الأدنى والأعلى للفقر، لأنّ الأسر  تحتاج للعيش بمستوى الكفاف، أي عدم الموت فقط، نحو 450 دولارًا والخط الأعلى 950 دولارًا”. وما بين موظفي وأجراء القطاع الخاص والقطاع العام، ينسحب حال العاملين بأجر اليوم على المتقاعدين سواء الذين حصلوا أو هم على أبواب قبض تعويض نهاية الخدمة الذي فقد قيمته الشرائية ومعه أمانهم التقاعدي، أو أولئك الذين يتقاضون رواتب تقاعدية صارت بلا قيمة فعلية، مع فارق مهمّ يكمن في أنّ الموظف الحالي يمكنه تغيير عمله، إذا تسنّى له ذلك، أما المتقاعد فلا حول له ولا قوّة. 

يقول المستشار القانوني والنقابي في المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين عصام زيدان لـ “المفكرة القانونية” إنّه قال لوزير العمل في حكومة تصريف الأعمال مصطفى بيرم، وبعد رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 100% عن آخر زيادة أوصلته إلى تسعة ملايين ليرة من دون زيادة غلاء معيشة بعد رفضها من قبل الهيئات الإقتصادية، إنّ “تحديد الحد الأدنى للأجور على الورق مش مهم ، المهم آليات تطبيقه ووزارة العمل تفتقر للعديد الذي تحتاجه من المفتشين”. يومها أجابه الوزير بيرم “خلّينا نرفع الحد الأدنى للأجور ومنكمّل شغلنا بعدها”.

ويرى زيدان أنّ هذا الحد الأدنى (18 مليون ليرة) “لا يُسمن ولا يغني عن جوع، ومع ذلك هناك مؤسسات ضاربته عرض الحائط”، مشيرًا إلى أنّ “مؤسسات كثيرة وبعض أصحاب العمل وخصوصًا في الأطراف، لا يلتزمون بالحد الأدنى الجديد رغم أنّه مجرّد فُتات”. ويعتمد على بعض تمارين استكشاف أوضاع الموظفين والعمال في لبنان، ليقول “حتى الالتزام ببدل النقل لا يُطّبق في الكثير من أماكن العمل وخصوصًا في الأرياف”. مع العلم أنّ حكومة تصريف الأعمال رفعت بدل النقل إلى 450 ألف ليرة عن كلّ يوم عمل قبل رفع الحد الأدنى للأجور “بس مين عم يفتّش ويدقّق؟ وإذا في مفتّش يروح، بيقبض وبيرجع”. 

العاملون بأجر يتحمّلون كلفة الانهيار

ينطلق الصحافي الاقتصادي محمد زبيب، رئيس تحرير موقع “صفر” للصحافة الاقتصادية، من أنّ الأرقام المتداولة عن الأجور لا تعتمد منهجية علمية واضحة، ولا تستند إلى عيّنة تمثيلية حقيقية. فلا توجد في لبنان قاعدة إحصائية موثوقة ومحدّثة باستمرار لتتبع تطوّر الأجور وكلفة المعيشة، ولا سيما في الحصار المضروب على إدارة الإحصاء المركزي وتجفيف مصادر تمويلها لمنعها من القيام بواجباتها. ويشرح زبيب أنّ اعتماد متوسّط معدّل التضخّم لاحتساب الخسارة التي لحقت بالأجور الحقيقية ينطوي على “وهم إحصائي”، فمعدّل تضخّم أسعار الغذاء على سبيل المثال هو أعلى بكثير من متوسّط معدّل التضخّم للسلة الاستهلاكية مجتمعة، وطالما أنّ الأسر الفقيرة تستنزف معظم دخلها على الغذاء فهذا يعني أنّ معدّل التضخّم الذي يصيب أجورها أعلى من معدلات التضخّم التي تصيب الأسر الأخرى ذات الدخل الأعلى.

ويعتبر زبيب أنّ الأجور الحقيقية الحالية لا تتناسب بأي شكل من الأشكال مع الكلفة المعيشية للموظفين والعمال، إلّا أنّ ذلك لا يعود إلى الانهيار الكبير في عام 2019 فقط، بل يقدّم مطالعة تغوص باقتصاد لبنان منذ بداية السبعينيات لغاية اليوم، ليؤكّد، بالأرقام، أنّ السلطة وحاشيتها عملت كلّ ما بوسعها لتحميل كلفة الانهيار، بالدرجة الأولى، للعاملين بأجر عن سابق تصميم وترصّد.

ويضع زبيب كلّ الكلام عن تتبّع الأجور موضع الشك والتجهيل بما فيها تلك الأرقام الناتجة عن دائرة الإحصاء المركزي التي لا تمتلك “نموذجًا أو تصميمًا لتتبّع الأجور”. ويعتبر أنّ هذا الأمر ليس ناتجًا عن تقاعس أو خلل ما وإنّما مقصود، مستشهدًا بمحاولة مدير دائرة الإحصاء المركزي السابق روبير كاسبريان، في التسعينيات، عندما أصدر ما يسمى “الحسابات القومية، أي الحسابات الاقتصادية للبنان، بما فيها الناتج المحلي، الميزان الجاري، المدفوعات والعجز.. وهي عناصر تُكوّن مجتمعة نظرة شاملة لاقتصاد البلاد”.

ويومها، ارتكب كاسبريان، ومن “منظار الأوليغارشية الحاكمة، خطأ كبيرًا جدًا”، وفق زبيب “كونه ضمّن الحسابات القومية للاقتصاد في لبنان تقديرات حصة الأجور من الناتج المحلي”. ولكن سارع من بيدهم القرار في حينها “على ما يبدو”، إلى توجيه أمر لإدارة الإحصاء المركزي بشطب كلّ ما يتعلّق بالأجور من حساباتها. ويردّ زبيب السبب إلى أنّ طريقة الاحتساب هذه “بيّنت أنّ حصة الأجور من الناتج المحلي تهاوتْ وانحدرتْ انحدارًا سحيقًا من نحو 55% كانت مقدّرة في 1973 قبل حرب 1975 إلى 35% من الناتج المحلي في النصف الأوّل من التسعينيات (1993-1995) وخلال الشوطة الأولى من إعادة الإعمار التي قدّمت على أنّها ستعوّم الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ليكتشف اللبنانييّون أنّ العاملين بالأجر هم من أصيبوا بمقتل”.  نحن نتحدث هنا عن 60% من القوى العاملة اللبنانية العاملين بأجر سواء مستخدمين بأجر أو مياومين، بينما تبلغ حصة هؤلاء في الدول الرأسمالية 65% إلى 80%. 

واستكمالًا لتقصّي انحدار حصة الأجور من الناتج المحلي، يعود زبيب إلى معركة تصحيح الأجور في القطاع الخاص التي خاضها وزير العمل الأسبق شربل نحاس. يومها طلب (نحاس) من خبراء البنك الدولي، في إطار برنامج “مايلز” الذي كان يقدّم من خلاله مساعدة تقنية فنية للإدارات في لبنان، تقدير قيمة حصة الأجور من الناتج المحلي في البلاد. وعليه، توصّل هؤلاء إلى نتيجة تفيد أنّ حصة الأجور “لا تتجاوز 25%، أي أنّها انخفضت من 35% في بداية التسعينيات إلى 25% في 2011”. وعليه يقول زبيب: “إذا أخذنا هذا التهاوي ونطّينا دغري على ما بعد 2019 في ضوء التضخّم وانهيار الأجور الحقيقية، بيطلع إنّه إذا كانت حصّة الأجور 25% في العام 2011 فهي اليوم قد لا تتخطى نحو 20 أو 15%”، مستنتجًا بأنّ انحدار حصّة الأجور يقابله ارتفاع في حصّة الأرباح، وهذا يعني أنّ حصة الأرباح لا تقلّ عن 70%، إذا ما استثنينا بعض أنواع الضرائب التي يتمّ احتسابها في الناتج المحلي الإجمالي خارج الأجور والأرباح. ومع ملاحظته انخفاض الناتج المحلي من 55 مليار دولار في 2018 إلى نحو 25 مليار دولار اليوم، يعني أنّ أصحاب الرساميل والملكيات زادت كنسبة وحصّة من الناتج المحلي في مقابل انحدار حصّة الأجور، وبالتالي قد تكون كمية الأرباح انخفضت، ولكن نسبتها من الناتج المحلي ارتفعت بالتأكيد، ومن دَفَع الثمن هم العاملون بأجر الذين حُمّلوا كلفة الانهيار”.

في الاقتصاد: “أسياد وعبيد”

في ندوة نظمها الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان بعنوان “الأجور والحماية الاجتماعية” نهاية الأسبوع الماضي، عشية عيد العمّال، ذهب الباحث الاقتصادي في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين، خلال محاولته رسم صورة واقعية عن حال العمال والموظفين وحقوقهم، إلى تقسيم اللبنانيين إلى طبقتين: “الأسياد والعبيد”.

وفي محاولة شرح كيفية توصّله إلى هذين التوصيفيّن، قال شمس الدين “كنا في لبنان نتحدث عن وجود 5% من اللبنانيين مصنّفين ضمن طبقة الأثرياء، في مقابل 70% ضمن طبقة متوسطة، و25% من الفقراء”. بعد الأزمة التي تفجّرت في الربع الأخير من العام 2019 ولغاية اليوم “انقلبت الصورة”، وفق شمس الدين، “صار عنّا 1% يعني شي 50 ألف شخص بسميها طبقة الأسياد”، معرّفًا عن هؤلاء بأنّهم “من قبضوا 60 مليار دولار من فوائد سندات الخزينة، كونهم استثمروا بها مليارات الدولارات، وتمكنوا من استخراج 20 مليار دولار من المصارف، بينما لم يحصل بقية اللبنانيين على دولار واحد”. وهؤلاء، أي من أسماهم “الأسياد” وفق شمس الدين، “يعملون في قطاع النفط الذي تسيطر عليه 4 شركات من 12 شركة تمسك القطاع ويجّنون 200 مليون دولار في العام يتقاسمونها بين بعضهم البعض”. وهم أيضًا، “الذين استفادوا من تسديد 28 مليار دولار، حصلوا عليها كقروض سكنية، ع 1500، بينما نفذوا مشاريع بالمليارات”. و”الأسياد” أيضًا، من “استفادوا من عمليات صيرفة وقبضوا أرباحًا بقيمة خمسة مليارات دولار، بينما كان الموظف لا يستفيد من أكثر من 20 إلى مئة دولار، وهؤلاء أيضًا هم الذين يستبيحون 5 ملايين و500 ألف متر مربع من الأملاك البحرية، ومن يسيطرون على الإنترنت والاتّصالات غير الشرعية”. أما نحن المواطنون العاديون، ومن عمال وموظفين، وفق شمس الدين، “أي 99% من الشعب نحن طبقة العبيد في خدمة هؤلاء”.

السلطة تخضع مرّة أخرى للهيئات الاقتصادية

من تجربته كعضو في لجنة المؤشر في وزارة العمل، يشير شمس الدين إلى أنّهم توصّلوا إلى صيغة “متفقين عليها” بتحديد الحد الأدنى بـ 18 مليون “وأنا سألتهم: ليش 18 مليون مش عشرين أو 19 مليون؟ ما هو المعيار؟ حيث أنّ المادة 44 من قانون العمل تقول يجب أن يكون الحد الأدنى من الأجر كافيًا لسد حاجيات الأجير الضرورية، وحاجات عائلته، على أن يؤخذ بعين الاعتبار نوع العمل”، يضيف.

وعليه يؤكد شمس الدين أنّ تصحيح الأجور يجب أن يتمّ بناء على أمرّين: “نسب التضخم المسجلة، أو أكلاف المعيشة”. بالنسبة لنسب التضخم، وبناء على أرقام دائرة الإحصاء المركزي، فإنّها بلغت 2.9% في 2019، و84.9% في 2020 و154.8% في 2021 و172.2% في 2022 و221.3% في 2023، وعليه، “إذا بدنا نصحّح الأجور، وفقًا لهذه النسب لازم يكون الحد الأدنى يكون بحدود 50 مليون دولار” كما قال. 

وبالنسبة لأكلاف المعيشة، تقول الحسابات أن الأسرة اللبنانية المؤلفة من 4 أفراد تحتاج إلى 52 مليون ليرة شهريًا، أي 580 دولارًا لتؤمّن احتياجاتها الأساسية”. وهو رقم أقرب إلى الحدّ الأدنى للأجور الذي كان 450 دولارًا على سعر 1500 دولار وهو ما يساوي 675 ألف الذي كان الحد الأدنى في 2019. ومع ذلك، فإنّ القيمة الشرائية لـ 450 دولارًا في 2019 هي حكمًا أكبر من القدرة الشرائية لـ 580 دولارًا اليوم بسبب الأزمات العالمية ومعها المحلية المتتالية، ومعها ارتفاع الأسعار.

ووفق شمس الدين، فإن مبلغ 580 دولارًا للسلة الاستهلاكية موزعًا على 150 دولارًا بدل إيجار سكن كحد أدنى، و50 دولارًا لفاتورة كهرباء الدولة على مصروف 200 كيلووات في الشهر لاستعمال غسالة وبرّاد وغاز واستهلاك إنارة، فتبلغ فاتورة كهرباء العائلة 4 ملايين و50 ألف ليرة، أي 50 دولارًا، من دون اشتراك مولد كهربائي. عنده اشتراك بمياه الدولة صار 13 مليون و270 ألف ليرة، كان 4 ملايين و182 ألف ليرة. يضاف إليها مليونا ليرة شهريًا (23 دولارًا) كلفة مياه دولة إشتراكها السنوي أضحى 13 مليون و300 ألف في السنة، “إذا كانت عم تجي” ويضطر المواطن لشراء مياه للخدمة أحيانًا وطبعًا مياه للشرب ويحتاج كحد أدنى لـ 950 ألف ليرة بالشهر. طبعًا الحديث هنا يتناول غالونات مياه الشرب التي تباع في الدكاكين بـ 100 ألف ليرة، وليس عن مياه الشركات المرخّصة التي يبلغ سعر الغالون سعة 18 ليترًا بـ 250 ألف ليرة.

ويضيف شمس الدين كلفة الاتصالات التي حددت شهريًا بـ 10 دولارات، ومعدل دولارين يوميًا لكل فرد للغذاء أي 240 دولار للعائلة شهريًا، إضافة إلى 40 دولار ثمن صفيحتيْ بنزين شهريًا، و25 دولارًا لكل العائلة شهريًا بدل لباس وحلاقة و10 دولارات طبابة. ولم تُحتسب كلفة التعليم حيث اعتبر أنّ الأسرة ترسل أبناءها إلى القطاع الرسمي، ولا تشمل السلة الاستهلاكية أي أعطال في الأدوات المنزلية أو سيارة العائلة. ولكن هذه المعطيات سواء كانت تتواءم مع السلة الاستهلاكية الفعلية للمواطنين في لبنان أم لا “قالوا لنا ما فينا ندفع”، كما نقل شمس الدين مما جرى في اجتماع رفع الحد الأدنى إلى 18 مليون ليرة. 

ويرى شمس الدين أنّ رفض رفع الحد الأدنى بما يتناسب مع السلة الغذائية ليس ناتجًا عن تراجع الأرباح “لأنّه التجار عم يحصّلوا أرباح كبيرة، بس ما بدهم يرفعوا رواتب العمال، بل قبلوا بحد أدنى لا يكفي أساسًا من 25% إلى 30 إلى 40% من قيمة رواتب ما قبل الأزمة”.  

وتدعيمًا لكلامه، يعطي شمس الدين مثالًا عن سعر كيلوغرام الفول الأخضر الذي يسلمه هو كمزارع للتاجر بـ 20 ألف ليرة ليجده في السوق بـ 60 ألف ليرة أو أكثر، وعن ضمة الزعتر الأخضر التي يبيعها “واصلة ع المحل” بـ 10 آلاف ليرة وتباع بـ 50 ألف ليرة للمواطن “وقيس على السلع المستوردة التي تجدها عند تاجر الجملة بأقل بثلاث مرات عن سعرها في المحلات”. ويشير شمس الدين إلى عودة الأطباء الذين هاجروا بكثافة هددت القطاع الصحي في لبنان، “بس اليوم لمن تدولرت الكشفية والخدمة الطبية، رجعوا ع البلد لأنّهم بيطلعوا بلبنان أكثر من برا وبلا ما يدفعوا ضرايب، رجعوا ليحققوا أرباحهم السابقة”.   

لجنة المؤشر هي نفسها التي شبهها الخبير الاقتصادي والمدير التنفيذي لمؤسسة البحوث والاستشارات الدكتور كمال حمدان في حديث صحافي بـ “المخفر” الذي يلجأ إليه المتنازعون لدى وقوع إشكال في الحي، منتقدًا عدم امتلاكها “إطارًا مؤسساتيًا وقواعد معلومات وموارد بشرية، وليس لها القدرة على المتابعة. لذلك هي أقرب إلى لجنة تتمّ استشارتها، لكن الأهم مَن يعين أعضاءها وتعبّر عن مصالح مَن؟”، ليؤكد أنّ “كل هذه المعايير غير واضحة”، والدليل اختفاء نشاطها لسنوات لتظهر عند الحديث عن رفع الحد الأدنى للأجور، لذلك “هي أقرب إلى لجنة لنقل إيحاءات عليّة القوم المتحكمين بسوق العمل وأفكارهم”، وفق حمدان.  

تشكيك في دقة أرقام السلة الاستهلاكية

يلجأ المستشار القانوني والحقوقي في المرصد اللبناني للعمال والموظفين عصام زيدان إلى المادة 44 من قانون العمل والتي تنص على أنّه “يجب أن يكون الحدّ الأدنى من الأجر كافياً ليسد حاجات الأجير الضرورية وحاجات عائلته”، ليقول إنّ سلة الاستهلاك المقدّرة اليوم بـ 52 مليون أي نحو 580 دولارًا “هي سلة مبادئ ثابتة وبديهية قد تنطبق فقط على سكان الأرياف، أما في المدينة فلا تقل قيمتها عن 72 مليون ليرة لبنانية أي نحو 800 دولار”. وحتى سلة المدن، كما يسميها زيدان، “تؤمن الضرورات فقط من تعليم في المدرسة الرسمية واستئجار شقة متواضعة والغذاء بالحد الأدنى مع الماء وفاتورة كهرباء الدولة”، ليؤكد أنّ الأرقام المطروحة هي اكتوارية أي تخمينية وأن واقع ملاءمة الناس رواتبهم ومداخيلهم مع التكلفة الحقيقية للمعيشة مختلف تمامًا عن الافتراض.  

ويفصّل زيدان في التغطية الطبية للأجراء والموظفين المضمونين وواقع تغطيتهم الطبية وحقهم المقدس بالصحة، ليبيّن البعد الشاسع بين التقدير والواقع حيث أنّ حصة الطبابة اقتصرت في السلة الاستهلاكية على 10 دولارات أو مليون ليرة شهريًا، بينما الواقع مختلف تمامًا. ويشير أحد المضمونين في حديث لـ “المفكرة” إلى أنّ ثمن والدته يبلغ 200 دولار في الشهر، من بينها دواء لتخثر الدم، وللضغط وغيره، وأنّ شقيقه المغترب هو من يرسل له المال لتأمينها “وإلّا كانت أمي ماتت”. 

وهنا يقول زيدان إنّ الضمان بعزّه كان يقدم رسميًا 90% تغطية استشفائية و80% تغطية أدوية وطبابة، بينما في الواقع لم تتخطّ التغطية الفعلية قبل الأزمة عتبة الـ 75% استشفاء و65% أدوية وطبابة. وفي مقارنة سريعة لتقديمات الضمان اليوم مع ما كانت عليه قبل الأزمة، يشير زيدان إلى أنّ بدل كشفية الطبيب الاختصاصي كانت محدّدة بـ 40 ألف ليرة أي 26 دولارًا على سعر 1500، وأنّ الضمان رفعها اليوم، بعد بدء استيفائه الإشتراكات على سعر 89 ألف و500 ليرة، إلى 350 ألف ليرة أي 4 دولارات، فمن يدفع الفارق؟ طبعًا المريض. أما بدل فحصية الطبيب الأخصائي خارج المستشفى فحددها الضمان بمليون ليرة أي 11 دولارًا، بينما كانت قبل الأزمة 60 ألف ليرة أي 40 دولارًا، ويسأل زيدان عن فحصية الطبيب الأخصائي التي لا تقلّ عن 50 دولارًا اليوم، وطبعًا يدفعها المريض ليسترد 11 دولارًا منها، ليصف كل ما يحصل بـ”الضحك ع الناس، من زيادة الحد الأدنى إلى تعرفة مساهمة الضمان”.  

بالنسبة لتعرفة الليلة في المستشفى والتي يعلن الضمان أنّها توازي 50% من كلفتها، يؤكد زيدان أنّ هذه المساهمة لا تنطبق إلّا على المستشفيات التي هي أشبه بمستوصفات في الأرياف، كون بدل قضاء ليلة عادية في غرفة في مستشفى جيد تتراوح ما بين 200 إلى 300 دولار في الليلة، ونحن هنا لا نتحدث عن عناية مركزة أو وضع صحّي معقّد.

ويتحدث زيدان عمّا يسميه “فك الارتباط” بين الحد الأدنى للأجور والتقديمات العائلية حيث أصبح معاش زوجة المضمون التي لا تعمل 600 ألف ليرة أي أقل من 7 دولارات، بينما كانت قبل الأزمة 60 ألف ليرة ما يوازي 40 دولارًا، وعليه للحفاظ على قيمته يجب أن يكون 3 ملايين و500 ألف ليرة للزوجة وليس 600 ألف ليرة كما يدفع اليوم. وكذلك النسبة المخصصة في الضمان للأولاد والتي كانت 33 ألف ليرة لكل ولد أي 22 دولارًا وأصبحت اليوم 330 ألف ليرة أي أقل من 4 دولارات، بينما يجب أن تكون مليون و958 ألف ليرة للولد الواحد “لكلّ أجير مضمون للحفاظ على قيمتها وجدواها”.

محطة جديدة لإلغاء الضمان الاجتماعي

يتزامن تردّي حال العمال والأجراء والموظفين وتقديمات الضمان الإجتماعي مع استمرار محاولات السلطة منذ الطائف ولغاية اليوم وضع يدها على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي أبصر النور في 1963 في ذروة المرحلة الشهابية وبناء مؤسسات الدولة، وبعد نضال كبير للحركة العمالية، إذ أن قانون العمل الصادر في 1946 والذي أُقرّ بضغط من الحركة العمالية نفسها، لم يأتِ بتقديمات اجتماعية للعاملين بأجر، برغم ايجابيّاته في تنظيم علاقات العمل. ويومها اعتبر إنشاء الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي من الخطوات الأولى لتكريس دولة الرعاية الإجتماعية في محيط عربي يدير الظهر لأنواع الحماية الاجتماعية كافة. والأهم أنه جاء ليؤسس لتحرير المستفيدين من الضمان من خدمات الجمعيات والمؤسسات ذات الطابع الديني ومن الزبائنية والتبعية للزعيم.

وفي توثيق للطروحات الأولى في استهداف الضمان، يتذكّر زيدان ما حصل في اجتماع حضره في قريطم مع الاتّحاد العمالي العام عند رئيس مجلس الوزراء في أول حكومة ترأسها الرئيس الراحل رفيق الحريري بوجود وزير المالية الأسبق فؤاد السنيورة. يومها قال السنيورة للحضور :”ليش بده يكون في ضمان إجتماعي ببلد فقير متل لبنان؟ ويومها أجابه رئيس الإتحاد العمالي الراحل أنطوان بشارة “لأنه بلد فقير هو بحاجة للضمان الإجتماعي، وهو حق من حقوق الإنسان وحق لكل فرد من أفراد المجتمع وهو من يحمي الفقراء”. وكان على المرضى في لبنان، من موظفين وأجراء ومعطّلين عن العمل، قبل إنشاء الضمان، أن يبرزوا ورقة فقر حال بطلب من وزارة الصحة لكي يستفيدوا من تغطيتها الصحية. 

ويأتي تقديم بعض النواب بتاريخ 26 نيسان 2024 اقتراح قانون يرمي إلى تأمين تغطية صحية واستشفائية فعلية للأجراء من خلال إتاحة خيار التأمين الخاص لفترة مؤقتة ومحددة، ليؤكد السعي الدائم للسلطة وحاشيتها من الهيئات الإقتصادية إلى إلغاء الضمان الإجتماعي ومعه إحدى أبرز ركائز دولة الرعاية الاجتماعية. ويعتبر اقتراح القانون الذي تقدم به النواب فؤاد مخزومي ونعمة افرام وميشال الضاهر وزياد حواط ومحمد سليمان وجورج بوشكيان وفريد الخازن وفريد البستاني، وجلّهم من أصحاب الرساميل والأعمال والمصالح، استكمالا للمحاولة الأولى للإمساك بالضمان وإلغائه عبر طرح حكومة الرئيس الحريري الأولى التي ناقشت خصخصة التقديمات الصحية عام 1993 (ومن محاولاتها طرح السنيورة في قريطم) بذريعة أن الضمان الاجتماعي غير مناسب للبلدان ذات الاقتصادات الصغيرة كما لبنان. يومها وقفت الحركة العمالية، قبل تفتيتها وإضعافها في وجه المشروع وحالتْ دون المضي به، وبدأت مسيرة الإمساك بالضمان والسيطرة على مجلس الإدارة للقبض على سياساته وقراراته وإغراقه حيث لا تدفع الدولة عن أكثر من 17 ألف أجير من أجرائها يستفيدون من الضمان، وتدين له بأكثر من 9 مليارات ليرة لبنانية على سعر 1500 للدولار. فماذا بقي من الحركة النقابية اليوم لتحمي الضمان والمضمونين كآخر ورقة توت من الحماية الإجتماعية التي يؤمنها الصندوق لنحو مليون ونصف مواطن هم المضمونين مع عائلاتهم؟ 

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، تحقيقات ، الحق في الصحة ، لبنان ، مقالات ، حقوق العمال والنقابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني