السلطة القضائية في الدستور الجديد: حين يختلط مطلب الاستقلالية بمطلب الامتياز


2013-10-22    |   

السلطة القضائية في الدستور الجديد: حين يختلط مطلب الاستقلالية بمطلب الامتياز

فيما تتجه لجنة الخمسين الى التأكيد على الضمانات الدستورية لاستقلالية القضاة في مصر، ظهر مؤخرا توجه لافت من نادي قضاة مصر مفاده مزج المطالبات باستقلالية القضاء بمطالبات يصعب فهمها الا من خلال منظور السعي الى امتيازات. ومن أخطر هذه المطالبات جعل ميزانية القضاء بندا واحدا من دون أي تفاصيل على غرار القوات المسلحة، فضلا عن جعل اقتراحات القضاة في الشؤون القضائية ملزمة للبرلمان فلا يخالفها الا بغالبية الثلثين. في هذا المقال، يحذر الكاتب من مغبة الخلط بين مطلب الاستقلالية ومطلب الامتياز (المحرر).   

تخطت لجنة الخمسين المكلفة باعداد الدستور الجدل العقيم الذي سيطر على عملها منذ بدايته، وتمحور حول قضية: إعداد دستور جديد أم تعديل دستور 2012 المعطل؟ فقد أعلن رئيس اللجنة غلق هذا الموضوع نهائيا، لأن اللجنة ستعد دستورا جديدا بعد تحققها من عدم وجود عوائق دستورية تحول دون ذلك. لكن هذه العقبة لن تكون الوحيدة على طريق لجنة الخمسين نحو الدستور الجديد، فهناك سلسلة من المسائل الشائكة التى سنتناولها تباعا، لعل أقلها حدة مطالب قضاة مصر، لأنهم يطالبون أساسا بضمان استقلالهم التام الذي لم يتحقق كاملا فى أى عصر منذ ثورة يولية 1952. لكن التجربة المريرة التى خاضها القضاء المصرى في ظل حكم الرئيس السابق محمد مرسى وجماعته، والتي شهدت حراكات قضائية كبرى احتجاجا على عدد من الأعمال الماسة لاستقلال القضاة وسيادة القانون، جعلت مطالبهم تتجاوز أحيانا ما هو ضروري ولازم لهذا الاستقلال إلى الاصرار على النص فى الدستور على بنود قانونية لا محل لها في النصوص الدستورية. فما المقصود باستقلال السلطة القضائية، وما هو القدر من النصوص الدستورية اللازمة لضمان هذا الاستقلال كاملا غير منقوص؟ وما هي بالمقابل الطلبات التي صدرت مؤخرا عن الهيئات القضائية والتي ترشح عن تجاوز للضرورات في هذا المجال؟ 

مدلول استقلال القضاء؟
لم ينعقد إجماع الباحثين على تعريف مصطلح "الاستقلال" عندما يتعلق الأمر بالسلطة القضائية أو القضاة، كما أن هذا التعريف ليس بالأمر اليسير، بسبب تعدد المفاهيم المرتبطة بهذا المصطلح. فالاستقلال له مفهوم موضوعي يتعلق بالسلطة، ويعنى قدرتها على اتخاذ القرارات بحرية كاملة دون تدخل من سلطة أخرى تصدر لها تعليمات أو تمارس عليها ضغوطا من أى نوع. هذا المفهوم الموضوعي للاستقلال يعني في مجال السلطة القضائية تنظيما، بعضه دستوري وأكثره قانوني، لا يكرس أى تدخل من أى سلطة أخرى فى شؤون السلطة القضائية، وهذا هو التجسيد الحقيقي لمبدأ الفصل بين السلطات.

لكن الاستقلال له مفهوم شخصي يتعلق بالأشخاص الذين يكونون السلطة، وهو الاستقلال الذاتى للقضاة، أى التجرد من الأحكام المسبقة. هذا الاستقلال الذاتى للقاضى لا تحققه النصوص القانونية أو الدستورية، لكنه يرتبط بتعليم القاضي وتكوينه وتدريبه المستمر، وقبل ذلك بحسن اختياره وفق معايير موضوعية تحقق تكافؤ الفرص وتعتمد الجدارة، فلن يدرك معنى الاستقلال ولن يقدسه إلا من تبوأ موقعه عن جدارة واستحقاق.
 ويمكن كذلك النظر إلى استقلال السلطة القضائية من منظور أوسع، يمزج بين الجوانب الموضوعية والشخصية. ومن هذا المنظور، يشمل الاستقلال الارتقاء بمستوى القضاة وتنمية قدرتهم على سرعة الانجاز، وتبسيط الاجراءات لتكون في متناول المتقاضين، بالإضافة إلى ضمان المحاسبة والمساءلة حتى لا يكون أحد فوق القانون مهما علا قدره.

المتطلبات الدستورية لضمان استقلال السلطة القضائية:
الاستقلال بمعناه الشخصي أو الواسع لا تضمنه نصوص الدستور، لأن النصوص الدستورية لا يمكن أن تضمن أكثر من استقلال السلطة القضائية. فمن المسلم به أن الدستور يحدد سلطات الدولة ويرسم الحدود الفاصلة بينها، ثم يكون لكل سلطة قانونها الذي ينظمها ويفصل حقوق أعضائها وواجباتهم. لذلك لا شأن للدستور باستقلال القضاة وبالأحكام التى تضمن هذا الاستقلال وتكون متعلقة بصميم اختصاصاتهم وعلاقتهم بممثلي سلطات الدولة الأخرى، فلكل ذلك مجاله نصوص قانون السلطة القضائية.

وعلى ذلك يكون الحد الأدنى من النصوص الدستورية اللازمة لضمان استقلال السلطة القضائية متمثلا فى الآتي:
   
1-السلطة القضائية مستقلة، تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها وفقا لما ينص عليه القانون.والتدخل في القضايا المعروضة على المحاكم جريمة لا تسقط الدعاوى الناشئة عنها بالتقادم.
  
2-يكون لكل جهة أو هيئة قضائية موازنة مستقلة، ويجب أخذ رأيها فى مشروعات القوانين المنظمة لها.
 
3-القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم لغير القانون، وهم غير قابلين للعزل.

4-لا يجوز محاكمة شخص إلا أمام قاضيه الطبيعى، وإنشاء المحاكم الاستثنائية محظور. والمحاكمات العسكرية لغير العسكريين محظورة فى غير الجرائم التى تمثل اعتداء مباشرا على القوات المسلحة.

5-حق الدفاع مكفول فى جميع مراحل الاجراءات الجنائية. وتنتدب سلطة التحقيق أو المحكمة محاميا على نفقة الدولة للدفاع عن كل متهم بجناية، أو جنحة يكون الحبس فيها وجوبيا، تثبت عدم قدرته على توكيل من يدافع عنه.
  
6-المحكمة الدستورية العليا جهة قضائية مستقلة، يحدد القانون اختصاصاتها وتشكيلها والإجراءات التى تتبع أمامها.

7-مجلس الدولة جهة قضائية مستقلة، يحدد القانون اختصاصاته.

8-النيابة الإدارية وقضايا الدولة هيئتان قضائيتان مستقلتان، يحدد القانون اختصاصاتهما، ويكون لأعضائهما الضمانات والحقوق والواجبات المقررة لأعضاء السلطة القضائية.

9-يحظر ندب أعضاء الهيئات القضائية كليا أو جزئيا لغير جهات عملهم الأصلية.
هذه هى متطلبات استقلال السلطة القضائية فى النصوص الدستورية. أما ما عدا ذلك فإنه يدخل فى نطاق القانون. كذلك فإن بعض مطالب القضاة يرونها ضمانات ونراها تمثل امتيازات غير مبررة لأنها لا صلة لها مطلقا بقضية ضمان استقلال القضاة أو السلطة القضائية.
 
التنظيم القانوني للسلطة القضائية:
لكل سلطة من سلطات الدولة قوانين تنظم شؤونها، وتحدد حقوق وواجبات أعضائها، وشروط التعيين في وظائفها العليا أو الالتحاق بها. ولا تشذ السلطة القضائية عن هذه القاعدة، فقوانين السلطة القضائية تنظم شؤون القضاء والقضاة، وهي من دون شك بحاجة إلى تعديلات جوهرية، يجب أن يعكف القضاة عليها بما يكرس استقلال السلطة القضائية ويضمن حيدة القضاة والارتقاء المستمر بمستواهم المهنى وفعاليتهم فيما يتعلق بإصدار الأحكام. وقد أعدت مشروعات لقوانين السلطة القضائية من وزارة العدل ومن نادى القضاة ومن مجلس القضاء الأعلى. والواجب الآن هو التنسيق بين هذه الجهات لإعداد المشروع المشترك لقانون السلطة القضائية، الذي يمكن أن يحظى برضاء أغلبية القضاة وهيئاتهم التمثيلية. كما يجب تعديل قوانين الهيئات القضائية الأخرى لتلائم روح ومتطلبات العصر الذي نعيشه وتحقق العدالة الناجزة التى نطمح إليها جميعا.

وإسهاما منا فى الجهد الذي نرجوه لسرعة إصدار قانون جديد للسلطة القضائية، يحقق آمال القضاة والشعب المصري، فاستقلال السلطة القضائية لا يصب فى مصلحة القضاء والقضاة فحسب لكنه ضمانة أساسية للمتقاضين، نقدم بعض التوصيات التى نراها ضرورية لتفعيل استقلال القضاء:

1-يجب أن يكون اختيار رئيس المحكمة الدستورية العليا بمعرفة جمعيتها العمومية، ثم يصدر قرار تعيينه من رئيس الجمهورية، شأن المحكمة الدستورية العليا فى ذلك شأن غيرها من الهيئات القضائية. ويلزم النص فى قانون المحكمة على أن يكون اختيار رئيسها من بين قضاتها.

2-انتخاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى أو نصفهم على الأقل، لضمان رضاء غالبية القضاة عن المجلس الذي يدير شؤونهم.

3-نقل تبعية التفتيش القضائى إلى مجلس القضاء الأعلى لضمان استقلاليته عن السلطة التنفيذية.

4-اختصاص مجلس القضاء الأعلى بشؤون القضاة، وإلغاء دور وزير العدل فيما يتعلق بمسائل ندب القضاة لجهات عملهم وإعارتهم للعمل بالخارج وتأديبهم، وفى كل ما يتعلق بشؤون القضاء والقضاة.

5-النص على اختصاص مجلس القضاء الأعلى باختيار النائب العام وتحديد مدة شغله لمنصبه، فليس مجال هذا النص فى الدستور، كما ورد فى دستور 2012 المعطل، وكما تقترحه لجنة الخمسين ونادى القضاة فى الدستور الجديد، فدور رئيس الجمهورية يجب أن يقتصر على إصدار قرار تعيين النائب العام.

6-النص على حظر تعيين أعضاء السلطة القضائية فى المناصب العامة أثناء شغلهم لوظائفهم أو قبل انقضاء مدة ثلاث سنوات على انتهاء خدمتهم بالتقاعد أو الاستقالة.

7-ضمان حق أعضاء الهيئات القضائية فى التعبير عن آرائهم وحقهم فى التجمع فى الحدود التى لا تتعارض مع هيبة القضاء.

8-النص على تجمعات القضاة فى القوانين المنظمة لشؤونهم وضمان تمويل ثابت لها تسهم فيه الدولة بما لا يخل باستقلال القضاء.

9-تطوير طرق تأهيل القضاة للعمل فى وظائف القضاء والنيابة العامة، مع العناية بالتنمية المستدامة لقدراتهم وإكسابهم مهارات وخبرات جديدة في المجالات الحديثة.

10-ضمان الشفافية فى الالتحاق بالوظائف القضائية، وأن يكون معيار ذلك هو الجدارة دون محاباة أو تمييز، ولن يتحقق ذلك إلا إذا نص القانون على شروط موضوعية للالتحاق بوظائف القضاء كافة.
 
مطالبات قضائية فى الدستور الجديد محل نقاش:
قدم نادي قضاة مصر تصوره لنصوص السلطة القضائية فى الدستور الجديد لرئيس لجنة الخمسين المختصة بوضع مشروع الدستور المصرى. وانتقل رئيس اللجنة إلى القضاة واجتمع بهم لمناقشة مطالبهم التى يرغبون فى "دسترتها". وقامت لجنة نظام الحكم فى مناقشة مواد السلطة القضائية فى اجتماع مغلق، بدون حضور ممثلين عن القضاء، لمحاولة الخروج بآراء موحدة حول نصوص الباب الخاص بالسلطة القضائية. وصرح مقرر اللجنة بأنه من المتوقع أن يكون هناك لقاء ثان مع ممثلى السلطة القضائية قبل تصويت اللجنة على المواد الخاصة بها. وتتخلص أهم مطالب القضاة محل النقاش فيما يأتي:

أ-إدراج موازنة القضاء كرقم واحد في الموازنة العامة:
أعطى مشروع الدستور المقترح لكل جهة أو هيئة قضائية الحق فى موازنة مستقلة، وهو ما نؤيده رغم ما ينطوي عليه من إخلال بمبدأ وحدة الميزانية العامة للدولة. لكن ممثلو السلطة القضائية ذهبوا أبعد من ذلك بحيث طالبوا بإدراج ميزانية القضاء كرقم واحد فى ميزانية الدولة، الذي يؤول عمليا الى ادراجها من دون أي تفاصيل وذلك على غرار القوات المسلحة. لكن لجنة نظام الحكم اتجهت إلى الغاء هذا البند، لأن القضاء لا يتماثل مع القوات المسلحة فى هذا الخصوص. فاعتبارات الأمن القومى تقتضي إدراج موازنة القوات المسلحة كرقم واحد فى الموازنة العامة للدولة دون تفاصيل، وليست هذه الاعتبارات متوافرة على الإطلاق بالنسبة للسلطة القضائية حتى يتقرر لها هذا الاستثناء، فميزانية القضاء ليست سرية، ولا ينبغي اعتبارها كذلك.

ب-ضرورة الالتزام برأي السلطة القضائية في قوانينها:  
طالب ممثلو النادي بضرورة أخذ رأي كل هيئة أو جهة قضائية قبل إصدار القانون الخاص بها، وهذا مطلب عادل، فالقضاة أدرى بشؤونهم. لكنهم هنا أيضا ذهبوا أبعد من ذلك فطالبوا بأن يكون الرأي ملزما للبرلمان، لا تجوز مخالفته أو لا تكون مخالفته إلا بأغلبية خاصة هى أغلبية ثلثى أعضاء البرلمان. وهذا الأمر يؤدى إلى أن قوانين السلطة القضائية سوف يستقل بوضعها القضاة وأعضاء الهيئات القضائية، بما يجعل القضاة سلطة تعلو فوق سلطة البرلمان فيما يتعلق بقوانينهم الخاصة، وهو أمر يصعب قبوله فى دولة حديثة يجب أن تتوازن فيها السلطات، فلا تنفرد سلطة بالفصل فى مصالحها وقوانينها دون رقابة من السلطات الأخرى. والقول بغير ذلك يبرر للسلطات الأخرى المطالبة بالاستقلال بشؤونها دون رقابة من السلطة القضائية.

ج-النص على سن تقاعد القضاة في الدستور:
انعكست أزمة القضاء مع النظام السياسى السابق على هذا المطلب، فقد أراد النظام السابق تخفيض سن الاحالة إلى التقاعد بالنسبة للقضاة ليكون ستين عاما، وهو ما كان يضمن له الإطاحة بأكثر من ثلاثة آلاف قاضيا. لذلك رأى القضاة أن النص على سن تقاعدهم، وهو الآن سبعين عاما، في الدستور يؤمنهم ويضمن لهم نزع سلطة البرلمان في مسألة تغيير سن تقاعد القضاة. لكن الحقيقة أن سن تقاعد الموظف العام مكانه القانون وليس الدستور، صحيح أن القضاء سلطة وليس وظيفة، لكن القضاة من الموظفين العموميين، ولم يرد في أي دستور مصري النص على سن أدنى وأقصى لأي موظف عام. وإذا كان الدستور يحدد سنا معينة بحدها الأدنى بالنسبة لرئيس الجمهورية، فهو لا يحدد سن التقاعد لأي مهنة أو وظيفة، لأن هذا التحديد مكانه القانون وليس الدستور. لذلك إن لم يكن لنا اعتراض على سن تقاعد القضاة، طالما كانوا قادرين على العطاء والإبداع، إلا أننا نتحفظ على إدراج هذا السن فى الدستور، وإلا فلماذا لا ينص الدستور على سن التقاعد لأعضاء هيئة التدريس بالجامعات وغيرهم؟
 
خلاصة القول إننا نريد استقلال القضاء، ونؤيد كل ما يدعم هذا الاستقلال وينقله من إطار المبادئ النظرية إلى مجال التطبيق العملى، فيكون الاستقلال حقيقيا وليس مجرد شعارات يتجمل بها النظام الحاكم أمام الرأي العام الداخلي والخارجي. لكن الامتيازات التى لا علاقة لها باستقلال القضاء من قريب أو بعيد، فلا يمكن أن يوافق عليها أحد ونرجو ألا ينزلق إليها واضعو الدستور. ونحن نثق في أن قضاة مصر لا يبحثون ولا يقبلون امتيازات، لكنهم يريدون ضمانات للاستقلال. القضاة وقفوا ضد دستور دولة الاخوان، وهم بكل تأكيد لا يريدون دستورا يؤسس لدولة القضاة. المصريون جميعا يأملون فى دستور توافقى يحقق التوازن بين السلطات، ويضمن حقوقا متساوية لكافة المواطنين.  
إننا نحذر من محاولة كل سلطة أو هيئة أو جماعة أو فئة من المواطنين لا تريد من الدستور غير الحصول على أكبر قدر من المزايا أو زيادة الاختصاصات تحت ستار حماية المصلحة العامة، ثم نكتشف بعد ذلك أنها كانت كلمات حق لا يراد بها الحق دائما.
 
 

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مقالات ، دستور وانتخابات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني