وقرّر الحاكم أن يتحدث عن الذهب بعد طول صمت: لماذا؟ وماذا بعد؟


2022-07-07    |   

وقرّر الحاكم أن يتحدث عن الذهب بعد طول صمت: لماذا؟ وماذا بعد؟
رسم رائد شرف

أعاد النائب ملحم خلف مسألة احتياطي الذهب إلى الواجهة، بسؤاله مصرف لبنان عن قيمة هذا الاحتياطي وتوزّعه المكاني. جواب مصرف لبنان جاء مقتضباً، ويفيد بامتلاكه موجودات ذهبية توازي 9 مليون و222 ألف و437 أونصة، منها 3.707703 مليون أونصة موجودة في الولايات المتحدة و5.514734 مليون أونصة موجودة في خزائن المصرف في بيروت.

وختم البيان الموقّع من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أنّ المصرف “لم يقم بأية عملية، من أي نوع وشكل كان، على هذه الموجودات الذهبية”.

عملياً، لم يسبقْ أن تناول المصرف عدد الأونصات التي يملكها وكيفية توزّعها بين لبنان وأميركا قبلاً. كما لم يُسأل عن هذا الموضوع، منذ اجتماع اللجان النيابية المشتركة في الثاني من كانون الأول 2020، حيث كان النائب الثاني للحاكم سليم شاهين حاضراً في الجلسة. وكشف أن آخر عملية إحصاء للذهب تمّت في العام 1996، علماً أن ذلك لم يوثق في أي تقرير صدر يوماً عن مصرف لبنان. الأهم كان تصريحه حينها عن بدء المصرف لعملية عدّ الذهب.

منذ ذلك الوقت نام الموضوع، ولا يزال. لم يسأل أحد عن مصير هذا العدّ. حتى في إجابته على سؤال خلف، لم يعلن سلامة عن أيّ إحصاء يعتمد. لكن ما كان لافتاً أن الرقم المُعلن يناقض الرقم الذي كان متداولاً خلال السنوات الماضية، والذي أعلنه النائب السابق للحاكم محمد بعاصيري لجريدة نداء الوطن، في 20 تموز 2020، ومفاده أن عدد الأونصات هو 10 مليون و116 ألف و572 أونصة. وهذا الرقم، لم يكن يتيماً، فكل التقارير التي كانت تصدر في تلك الفترة تناولت العدد نفسه، ومنها على سبيل المثال دراسة أعدتها حركةمواطنون ومواطنات في دولة عن موجودات لبنان من الذهب، في تشرين الأول 2019. فأين ذهبت 912 ألف و127 أونصة، أي ما قيمته بحسب سعر اليوم، مليار و650 مليون دولار؟

بعد صدور بيان مصرف لبنان، أصدرت الدائرة القانونية لـ “روّاد العدالة” بياناً طالبت فيه المصرف بتوضيح هذا الفارق، خاصة أن الرقمين حُدّدا بدقة ومع الكسور، وبالتالي بدا جلياً أن بعاصيري لم يعرض رقماً تقريبياً.

المُطالبة بتبرير الفارق بين الرقمين المُعلنين، كرّرها النائب جميل السيد أيضاً في تغريدة أشار فيها إلى أن الذهب ملك الناس ويحقّ لهم أن يعرفوا الجواب.

لم يمضِ النهار حتى كان بعاصيري قد أصدر بياناً أشار فيه إلى أن “الرقم المنسوب اليّ يُخالف ما أعرفه بالنسبة الى العدد الذي يقارب 9,222 مليون أونصة، كما أن الحديث عن عدد الأونصات أتى في سياق معلومات خاصة لكاتب المقال. وبالتالي لو نُقل عن لساني كان أتى بين مزدوجين كالعبارة التي سبقته”. وبالرغم من أن بعاصيري لم يسبق أن نفى هذا الرقم، فقد برر ذلك بإمكان “عدم لحظ الخطأ في أي مقابلة يبقى وارداً”.

تجدر الإشارة إلى أن الميزانية نصف الشهرية التي يصدرها المصرف المركزي تتطرق إلى مسألة الذهب لكن من دون الإشارة إلى عدد الأونصات أو حتى وزنها، مكتفية بتدوين قيمتها، بحسب السعر العالمي للأونصة في التاريخ نفسه. وعلى سبيل المثال، فإن الميزانية المنشورة في 30 حزيران تشير إلى أن قيمة الذهب هي 25 ألف مليار و219 مليون ليرة، مقابل 25 ألف مليار و349 مليون ليرة في الميزانية المنشورة في 15 حزيران.

هذا المبلغ إذا ما قُسم على سعر الأونصة المقدّر بنحو 1800 دولار يعني أن المصرف يعتمد العدد المشار إليه في البيان الجديد. كذلك فإن مجلس الذهب العالمي، لم يشرْ في التقرير الذي نشره مؤخراً إلى عدد الأونصات بل إلى إجمالي وزن الذهب، مشيراً إلى أنه يبلغ 286.6 أطنان، وهو ثاني أكبر احتياطي ذهب بين الدول العربية.

المشكلة أن أرقام مصرف لبنان عن احتياطي الذهب لا تختلف كثيراً عن أرقامه عن احتياطي العملات الأجنبية. في الحالتين تبقى الشفافية مفقودة. وحتى جرد الذهب قد لا يكون كافياً للحصول على أرقام دقيقة لإجمالي الاحتياطي، بالنظر إلى سياسة الغموض المتّبعة.     

مرّت سنتان على التصريح المكتوب لشاهين (تلا في الجلسة كلمة محضّرة مسبقاً) من دون أن يحصل شيء. مصادر المجلس المركزي تؤكد أن العدّ مستمرّ من قبل شركة KPMG. يُبرّر المصدر التأخير بالقول إن فرنسا احتاجت لفترة خمس سنوات لإنجاز عملية إحصاء ذهبها، وبالتالي لا يمكن الحديث عن تأخير.

لكن وزير الاقتصاد الأسبق، والذي شغل منصب نائب حاكم مصرف لبنان لسنوات، ناصر السعيدي، رأي آخر في مسألة العدّ. يقول لـ”المفكرة القانونية” أنها وسيلة أخرى من وسائل المُماطلة المقصودة، والتي تهدف إلى عدم الإعلان عمّا يمتلكه من احتياطي عملات أجنبية أو ذهب. أما بيانه الأخير، فلا يراه أكثر من خطوة على طريق هذه المماطلة. إذ أن البيان لا يلزمه بشيء. يكفي أن يُقال لاحقاً إنه يعود إلى آخر إحصاء للذهب. كما يُوضّح أن عدّ الذهب لا يتمّ عبر وزن كل قطعة أو أونصة بشكل مستقل، بل من خلال كيل عام يتمّ عبر وضع كمية من الذهب على ألواح خشبية، بل يعني بالتالي أن عملية العد لا تحتاج لأكثر من شهرين.     

وفي السياق نفسه، يؤكد الصحافي محمد زبيب لـ”المفكرة القانونية” أنه على فرض صحة طول فترة العدّ في فرنسا فهو تبرير لا يستقيم. ففرنسا لا تملك قانوناً يمنع التصرف بالذهب، وبالتالي عملية حصره قد تحتاج إلى وقت ربطاً بمصيره، فبعضه مرهون لأكثر من جهة وبلد، كما قد تختلف أماكن تخزينه، وبالتالي فإن الوصول إلى كل الاحتياطي قد يتطلب جهداً، لكن في الحالة اللبنانية الذهب كُلّه موجود في مكانين، في بيروت وفي أميركا. بالنتيجة، يُشكّك زبيب بالمعلومات المتداولة عن الذهب، مشيراً إلى أن كل ما جرى ويجري في لبنان من سرقات واختلاسات على مرّ السنين، يؤدي إلى خلاصة أن مسألة الذهب هي لغز يسمح بالشكّ بكل السياقات المتصلة به.

لا يعطي السعيدي أهمية لمسألة الفارق بين الرقمين المتداولين. الأولوية بالنسبة له هي: هل ثمة من لا يزال يطمح إلى تسييل الذهب للاستفادة منه لتغطية خسائر القطاع المصرفي أم لا؟ وهو يُدرك أن المصارف عينها على الذهب، آملة أن يؤدي بيعه إلى تغطية بعض خسائرها. لكنه يؤكد أيضاً أن قيمة الذهب التي ينشرها المصرف المركزي ليست دقيقة. إذا أراد استعمال الذهب أو بيعه، فلن يكون ذلك ممكناً إلا بعد تسييله لأنه لا يراعي مواصفات “London Good Delivery” المعتمدة لقياس نقاء الذهب، إذ أن احتياطي الذهب اللبناني ذات نقاء ضعيف، فهو جُمع ما بين العامين 1947 و1971، ولا يمكن احتساب سعره وفقاً للسعر الحالي للأونصة.

وفي حين يشك القانون رقم 42 للعام 1986، ب “منع التصرف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان أو لحسابه بصورة استثنائية، مهما كانت طبيعة هذا التصرف وماهيته، سواء أكان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة” عامل اطمئنان، فإن ذلك لا يمنع أن تكون حصلت سرقة مادية للذهب كما لا يمنع أن يذهب المجلس النيابي، وهو في أغلبه الحامي الأول للقطاع المصرفي، متى نضجت الظروف، إلى تسييل هذا الذهب، وبالتالي حرمان الأجيال المقبلة من الضمانة الوحيدة المتبقية لها.

يلحظ أخيرا أنّ تكتّل “نوّاب قوى التغيير” قدم اقتراحا لتعديل للقانون 86/42، بهدف “تحصين حماية موجودات الذهب لدى مصرف لبنان”، بحيث يمنع بصورة مطلقة وباتة أيا كان من القيام بأي عملية تتناول ملكية أو إدارة أو استثمار هذه الموجودات الذهبية أو إرهاقها بأي أعباء أو نقلها، إلا بنص تشريعي صريح يصدر عن مجلس النواب”. كما نص الاقتراح على عقوبات على من يخالف هذا القانون تصل إلى خمس سنوات حبس وملياري ليرة غرامة، مع إسقاط جميع الحصانات (من دون أي تفصيل علما أن بعض الحصانات مكرّسة دستوريا ولا يمكن تعديلها بقانون). وقد جاء في الأسباب الموجبة للقانون أنه لم يعد يمكن الاطمئنان إلى سلامة الموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان، خاصة أنه تعالت مؤخراً أصوات مطالبة باستعمال الذهب لتغطية الفجوة الهائلة المتراكمة في القطاع المصرفي. وعليه، اعتبرت الأسباب الموجبة أن القانون الحالي لم يتطرق إلى العمليات المادية أو المالية الأخرى التي يُمكن أن تطال هذه الموجودات غير البيع والتصرف، مثل المبادلة (SWAP) والرهن ومنح حق الخيار (Option) وغيرها، كما أنه لم يمنع نقل الذهب من مكان إلى آخر، أضف إلى أنه لم يتضمن أي عقوبة لمن يخالف أحكامه، ومن الضروري لحظ عقوبة إذ لا عقوبة من دون نص.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، مصارف ، لبنان ، مقالات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني