موت عاملات المنازل في لبنان ليس “انتحاراً” فقط: هل تتحقق العدالة لفوستينا تاي بعد موتها؟


2020-04-24    |   

موت عاملات المنازل في لبنان ليس “انتحاراً” فقط: هل تتحقق العدالة لفوستينا تاي بعد موتها؟

فوستينا تاي، 23 عاماً، عاملة غانيّة أتت إلى لبنان في أيار 2019، وُجدت جثة فجر 13 آذار الماضي في مرآب للسيارات تحت المنزل الذي تعمل فيه في الضاحية الجنوبية لبيروت. وفيما ذهبت التحقيقات الأولية إلى نتيجة أنّ تاي انتحرت، وهو ما أكّد عليه تقرير الطبيب الشرعي، إلّا أنّ عشرات الرسائل التي بعثتها فوستينا قبل موتها إلى مجموعة "هذا لبنان This is Lebanon"، تستنجد فيها لمساعدتها على الخروج من المعاناة التي تعيشها في بيت كفيلها، آخرها قبل 18 ساعة من موتها، شرّعت الأبواب لإمكانية التوسّع في التحقيقات بخاصة بعد تفاعل قضيّتها محلّياً وعالمياً إثر نشر الصحافي تيمور أزهري تحقيقاً استقصائياً حول وفاتها في موقع "الجزيرة" الإنكليزي، ودعوة العارضة العالمية نعومي كامبل النساء الإفريقيات إلى مقاطعة لبنان.

فوستينا التي وصلت إلى لبنان في أيار 2019 عن طريق وكيل الاستقدام ع. ك. وبدأت العمل في منزل ح. ض. في الضاحية الجنوبية لبيروت، بعثت في آخر رسالة أرسلتها لـ "هذا لبنان" تسنتجد فيها قائلة: "يا الّله ساعدني". ثم أتى خبر موتها بعد 18 ساعة. قبلها، بعثت عشرات الرسائل المكتوبة والصوتية تصف فيها سوء المعاملة التي كانت تتلقّاها من أفراد في العائلة التي تعيش معها، وقد نشرتها "هذا لبنان" في رواية مفصّلة على موقعها الإلكتروني. في إحدى الرسائل الصوتية تردد فوستينا عبارات "أنا خائفة جداً… إنهم لا يملكون العاطفة الإنسانية ولا الرحمة…" وتعيد وتكرر "أنا خائفة جداً". وتشرح في تلك الرسالة بأنها محرومة من الخصوصية ما يزيد شعورها بالخوف قائلة: "أنام في المطبخ وأشعر بخوف دائم، الباب دائماً مفتوح". وتلفت في رسائل أخرى إلى أنها طلبت من كفيلها ح. ض. العودة إلى بلدها لكنه قام بضربها، وأخذها مرتين إلى مكتب الاستقدام حيث قام مالك المكتب ع. ك. بضربها هو الآخر ووعداها مرّتين بأنّهما سيعملان على تسفيرها إذا عملت بدون مقابل لبضعة أشهر كي تتمكّن العائلة من جمع المبلغ اللازم لدفع تكاليف سفرها وفي المرتين كذبا عليها. وتلفت "هذا لبنان" إلى أنه "حين طلبت تاي ترك العمل طالبوها بدفع مبلغ 2000 دولار أميركي".

وفوجئ الناشطون الذين تواصلت معهم فوستينا بموتها. وقد شددت مجموعة "هذا لبنان" في تقريرها على "أن مغادرة العاملة لبيت صاحب العمل ليس أمراً سهلاً وخصوصاً أنّ هناك كاميرات مراقبة في كل شارع في الضاحية". وبحسب التقرير نقل قريبها جوشوا عن لسانها إنّه "كان يتم حجز راتبها لأكثر من شهرين، وحرمانها من أوقات الراحة والعطل الأسبوعية، وتتلقى معاملة سيئة كالضرب المتكرّر، وحتى تم الاعتداء عليها جنسياً".

وزارة العمل تطلب التوسّع بالتحقيقات

وعلى غرار الكثير من حالات موت العاملات المنزليات في لبنان، خلص التقرير الأمني وتقرير الطبيب الشرعي الذي عاين الجثة إلى وصف موت فوستينا بأنها انتحار من دون التحقيق في خلفيته ولا إذا كان ثمّة جريمة قتل وراء موت العاملة أو جريمة دفع إلى الإنتحار. والمفارقة التي تنقلها "هذا لبنان" في تقريرها هي أنّ الطبيب الشرعي الذي كشف على جثة العاملة انتهى إلى أنّه لا توجد علامات على اعتداء أو عنف جسدي وأنّ الإصابة المرئية الوحيدة كانت رضّة في فروة الرأس "سببه السقوط من مكان مرتفع". ويشير التقرير الذي أرسله الطبيب الشرعي إلى الشرطة إلى أنّ فوستينا قفزت من شرفة شقة الكفيل في الطابق الرابع في محاولة لقتل نفسها.

وبعد تفاعل قضية موت فوستينا، أصدرت وزارة العمل في لبنان بياناً في 1 نيسان تفيد فيه بأنّ دائرة التفتيش في الوزارة تابعت قضية انتحار العاملة في بيروت، وبأنّ "القضية أصبحت بعهدة القضاء المختص لاتخاذ الإجراءات المناسبة". في هذا السياق، يؤكد مصدر في وزارة العمل لـ "المفكرة القانونية" بأنّ دائرة التفتيش استمعت إلى كفيل العاملة الغانيّة كما إلى مالك مكتب الاستقدام ومن ثم أرسلت إلى النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان طلباً للتوسّع بالتحقيق في القضية. ويشير المصدر إلى أنّ وزارة العمل وضعت الكفيل على اللائحة السوداء بينما تنتظر التحقيق القضائي لاتخاذ القرار المناسب لناحية مكتب الاستقدام الذي قالت الراحلة بأن مالكه قام بضربها أكثر من مرّة.

من جهته، ينفي مالك مكتب الاستقدام ع. ك. في حديث مع "المفكرة" أن يكون قد قام بضرب الشابة، ويدّعي بأنّه: "حين أتت إلى المكتب مع كفيلها قمت بالاتصال بمكتب التوظيف في غانا لأجلها، وتكلّمت معه بلُغَتها". وبعد انتهاء الاتصال، يقول ع. ك. بأنه سأل الوكيل الغاني عن شكوى تاي فقال له: "أنها فقط تريد العودة إلى غانا، ولم تذكر له أي شكوى بأنها تتعرض لسوء معاملة". ويشير مالك المكتب إلى أن التحقيقات جارية في هذا الخصوص، "تم الاستماع إليّ في فرع المعلومات كما في وزارة العمل". ويرى الرجل "أن مكتب الاستقدام مسؤول تجاه العاملة والكفيل لأول ستة أشهر من مباشرة العمل، أي في حال رغبت العاملة تغيير العمل يقوم بمساعدتها، أما في حالة تاي فهي كانت قد تخطت هذه المدة، لكنني مع ذلك استقبلتها لسماع شكواها". يضيف، "ليس لي سلطة لتتريكها العمل، هذا شأن كفيلها".

أما الكفيل ح. ض. فيقول إنّه يستغرب أن ترسل فوستينا كلّ هذه الرسائل، نافياً هو الآخر أن يكون قد تعرّض لها بالضرب، ويقول: "كنا نحسن معاملتها وكانت تأكل معنا على نفس الطاولة". يضيف، "لم أحجز على راتبها بل كنت أجمع لها المال جانباً لأعطيه إياها لاحقاً" ويصف ادعاءاتها كافة بـ "الافتراء". ولدى سؤاله عن سبب عدم تسفيرها لها حين طلبت ذلك يقول: "قلت لها أن تسافر بعد شهر رمضان، فأنا دفعت مالاً لاستقدامها".

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا الارتباط الاستثماري بين وظيفة العاملة والكفيل شائع في لبنان بحيث تتكرر دائماً حالة عدم السماح للعاملة ترك العمل بذريعة الأموال التي دفعها الكفيل لاستقدامها ونقلها أحياناً من كفيل إلى آخر لقاء القيمة نفسها التي دفعها الكفيل الأول. وكانت "المفكرة" قد أثارت هذا الموضوع في مقالة سابقة تحت عنوان "إثيوبية.. بمليونين و250 ألف ليرة": كيف بلغنا مرحلة "بيع" العاملات في لبنان؟

ويؤكد الكفيل لـ"المفكرة" بأنّه تمّ الاستماع إليه في فرع المعلومات وتحرّي الضاحية إضافة إلى وزارة العمل، من دون أن يقدّم أيّة من المعلومات الإضافية.

 

هل تتحقق العدالة لفوستينا بعد موتها: أبعد من فرضية الانتحار الإرادي

أسوأ ما في قصة فوستينا بعد موتها طبعاً هو عدم نقل جثمانها إلى غانا بسبب تسكير المطار نظراً لانتشار فيروس كورونا ما استدعى دفنها في لبنان. لذلك فإنّ عائلتها التي لم تتمكّن من توديعها، تتواصل مع حركة مناهضة العنصرية في لبنان لإمكانية إعداد ملف قضائي في قضية ابنتها، بحسب  المحامية نرمين السباعي التي تتابع هذا الملف.

تقول السباعي لـ"المفكرة": "ننتظر إكتمال كافة الأوراق للمباشرة في الادّعاء". وتعتبر بأن "هناك علامات استفهام حول ملابسات القضية، خاصة وأن تاي أبدت رغبة في الحياة من خلال الرسائل التي أرسلتها طالبة المساعدة". وتشدد السباعي على أهمية التوسّع بالتحقيقات لأسباب عدة أبرزها "ختام التحقيقات على أنه حادثة انتحار هو نمط تعتمده السلطات الأمنية في التحقيقات بدون التوسّع لمعرفة دوافع هذا الانتحار وإن كان حقاً انتحاراً وليس جريمة قتل". ومن جهة أخرى، "فإنّ الطبيب الشرعي الذي أعدّ التقرير مشكوك في مصداقيته، بسبب توجيه تهم سابقة إليه بتزوير تقرير شرعي".

وفيما توضح السّباعي أنّها لا تجزم بالضرورة بوقوع جريمة قتل إنّما "علينا أن نأخذ بعين الاعتبار كافة الفرضيات، وفي حالة تاي فهناك الكثير من المؤشرات التي تدل على حدوث جرائم عدة، كـالعمل القسري، وتعرّضها للعنف، وفي حال كانت حادثة انتحار فهي مؤشرات على أنّ هناك من تسبّب بدفعها على الانتحار، وهي أمور يعاقب عليها القانون اللبناني". فالمادة 553 من قانون العقوبات تعاقب بالحبس 10 سنوات لمن حمل إنسان بأي وسيلة على الانتحار أو ساعده.[1] كما يشمل الفصل المتعلّق بالإتجار بالبشر في المادة 586 من قانون العقوبات، الإنتحار مع حالات الأذى الذي يتعرّض له ضحية الإتجار بالبشر. إذ تشير المادة إلى "… الحبس من عشر سنوات إلى إثنتي عشرة سنة… حين ينطوي الجرم على أذى خطير للضحية أو لشخص آخر أو على وفاة الضحية أو شخص آخر بما في ذلك الوفاة الناتجة عن الانتحار". وتعد هاتان المادتان ركيزة أساسية لإعداد الدعوى القضائية التي تسنتد عليهم السباعي في الملف.

ومن هذه الزاوية، قد يشكل نظام الكفالة بما يتيحه من استغلال وإفلات من عقاب دافعا للإنتحار في الكثير من الحالات. إلا أنه رغم ذلك، لم تشهد المحاكم حتى اليوم أي محاكمة على هذا الأساس. يذكر فقط أن المحامية موهانا اسحق من منظمة كفى كانت ادعت في 2013 على صاحبة عمل بجرم "الحمل على الانتحار" المنصوص عنه في المادة 553 من قانون العقوبات اللبناني بحق عاملة أثيوبية كانت تعمل لديها. وقد بينت اسحق في شكواها آنذاك أن العاملة كانت تتعرض للضرب والاعتداء عليها وتحرم من الطعام والخروج من المنزل، وقد بدا لها أن الانتحار هي الوسيلة الوحيدة للتخلص من الاستغلال والاستبداد الذي يوفره نظام "الكفالة".

منظمات حقوقية تطالب بالتوسّع بالتحقيق

وقّعت منظمات حقوقية عدة على بيان مشترك للمطالبة بإجراء تحقيق "شامل وشفّاف في وفاة تاي، كما للمطالبة بالعدالة لآلاف العاملات المهاجرات الأخريات اللواتي تعرضّن لجميع أنواع العنف والإساءة والموت". البيان اعتبر أن تاي انضمت إلى "لائحة طويلة من العاملات المنزليّات المهاجرات اللواتي يفقدن حياتهن من جرّاء نظام الكفالة".  

وشكك البيان في تقرير الطبيب الشرعي الذي اعتبر أن تاي توفيت بسبب إصابة في الرأس نجمت عن "السقوط من مكان مرتفع"، وأنه "لم تظهر علامات اعتداء" على جسدها. وهذا ما يعزّز الشكوك حول الطبيب بسبب اتهامه بتزوير تقرير في حادثة سابقة.

"قصة تاي ليست قصة استثنائية أو يتيمة"، بحسب البيان. والحال أنّها "إحدى المآسي العديدة التي ينتجها نظام الكفالة". ويضيف، "هذا النظام يعزز العلاقات الاستغلالية خلف الأبواب المغلقة، ويهيئ أرضية خصبة لهذه الظروف ويسهلها". ويستند البيان إلى إحصاءات الأمن العام اللبناني التي تشير إلى أنّه "تتوفى عاملتان مهاجرتان أسبوعياً في لبنان". إضافة إلى ذلك يتوقف البيان عند تعامل السلطات مع حوادث وفاة العاملات المنزليات بتصنيفها "على أنها حالات انتحار أو محاولات فاشلة للهروب من منازل أصحاب العمل، مما يعفي الجُناة من أية عواقب حقيقية".

وانتهى البيان إلى مطالب عدّة في هذا الشأن، أبرزها: فتح تحقيق جدي في وفاة تاي، وتوفير محاكمة عادلة لضمان العدالة لها ولعائلتها ومساءلة الجناة. وتوسّعت المطالب لتشمل كافة العاملات المنزليات لتتطرق إلى المطالبة بالتحقيق الكامل في جميع حالات الوفاة والإعتداء على جميع العاملات المهاجرات من قبل قوى الأمن الداخلي والأمن العام ووزارة العمل، وإحالة القضايا إلى القضاء المختص والنيابات العامة. إضافة إلى التشدد في الإجراءات من قبل الأمن العام ووزارة العمل خاصة دائرة تفتيش العمل ولا سيما باتجاه إغلاق مكاتب الاستقدام المتورطة ومنع أصحاب العمل المسيئين من توظيف عمال جدد وبشكل دائم. كذا ووضع حد لممارسة تصنيف وفاة العاملات المهاجرات على أنها انتحار دون تحقيق مناسب، وفي حال ثبت أنّ سبب الوفاة هو فعلاً انتحار، فيتوجّب على السلطات التحقيق في جميع العوامل الظروف والدوافع التي أدّت إلى ذلك مثل إساءة المعاملة والعنف وظروف العمل والظروف المعيشية التي تسببت به أو حضّت عليه، ومعاقبة الجناة وفقًا لذلك. ولفت البيان إلى ضرورة عدم اختصار الاجراءات باللوائح السوداء، بل ضمان العدالة للضحايا.  واختتم البيان بالمطالبة بإنهاء نظام الكفالة الذي يتسبب بشكل مباشر بالإساءة والاستغلال والوفاة لعاملات المنازل المهاجرات.

خطف الموت فوستينا تاي قبل شهر من اليوم ولكن كلماتها الأخيرة في إحدى رسائلها إلى "هنا لبنان": "أرجوكم ساعدوني. أريد العودة إلى بلدي.."، يجب أن تبقى عالقة في الأذهان ودافعاً لتحقيق العدالة لها بعد موتها.

 

 

  • لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:

Will There Be Posthumous Justice for Faustina Tay?


[1]  المادة 553 – من حمل إنساناً بأي وسيلة كانت على الانتحار أو ساعده، بطريقة من الطرق المذكورة في المادة  219- الفقرات الأولى والثانية والرابعة- على قتل نفسه، عوقب بالاعتقال عشر سنوات على الأكثر إذا تم الانتحار، وبالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين في حالة الشروع في الانتحار نجم عنه إيذاء أو عجز دائم.
وإذا كان الشخص المحمول أو المساعد على الانتحار حدثاً دون الخامسة عشرة من عمره أو معتوهاً طبقت عقوبات التحريض على القتل أو التدخل فيه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني