توزيع مراكز الامتحانات يخاطر بطلّاب الجنوب


2024-06-17    |   

توزيع مراكز الامتحانات يخاطر بطلّاب الجنوب

في منزله المتضرر بشدة من غارة إسرائيلية ضربت الحيّ الذي يسكنه في بلدة كفرا الجنوبية قبل 12 أسبوعًا ولم تنجلِ ملامحها بعد، يستغرب الطالب محمد (الكترو تكنولوجي، سنة ثالثة) خريطة توزيعه وأقرانه من طلاب التعليم المهني على مراكز امتحانات الشهادة الرسمية في الجنوب. جاء هذا التوزيع ليكشف عن فصل جديد من التعاطي الرسمي مع امتحانات الشهادات التي تنسجم إدارتها من قبل وزارة التربية مع التخبط في إدارة العام الدراسي برمته. وإذ وُزِّع كثيرون من طلاب الشهادات الرسمية المهنية على مراكز بعيدة عن أماكن إقامتهم ونزوحهم ما بين 12 إلى 66 كيلومترا، وكأن الوزارة تستعجلهم اليوم العودة التي كانوا يؤخرونها بانتظار انجلاء المعركة، حيث يُفرض عليهم سلوك طرقات يصفونها بالخطرة، نحو قرى تراهم يتكهنون في تقييم خطورة الوضع الأمني والعسكري فيها في ظل العدوان االإسرائيلي المستمر منذ الثامن من تشرين الأول 2023، فينشغل بالهم عن الدرس بالهواجس والأفكار والنقاشات، فيما تفصلهم عن موعد الامتحان أيام. 

وإضافة إلى تحدي توزيعهم على مراكز امتحانات تعرضهم للخطر، نحن نتحدث عن طلاب دشنت إسرائيل بدء عامهم الدراسي بشن عدوان على بلداتهم وقراهم تزامنا مع حرب الإبادة على غزة منذ 8 تشرين الأول 2023. طلاب اضطر معظمهم إلى التنقل نزوحا بين منطقة وأخرى وبين بيت وأخر أكثر من مرة، فيما تمكن قلة من بينهم من متابعة التعليم عبر الإنترنت عن بًعد. 

وعليه، ضجت وسائل التواصل بصرخات الطلّاب مع استلامهم طلبات الترشيح عشية اقتراب الامتحانات الرسميّة للتّعليم المهني والتقني المُقرّرة بين 24 حزيران الجاري و4 تموز المقبل، ليكتشفوا خريطة معقّدة من المراكز المحدّدة لهم لإجراء الامتحانات. ووجدت المفكّرة القانونية، خلال التدقيق بالمعلومات، أن بعض المراكز لا تبعد عن الحدود مع فلسطين المحتلة أكثر من 10 كيلومترات. وقد حُدّدت النبطية وقراها كمركز امتحان رئيسيّ لأبناء قرى الحدود في القطاع الشرقي من مرجعيون إلى الخيام، ومركز تبنين لأولئك في القطاع الأوسط من ميس الجبل وصولًا إلى رميش، مرورًا ببنت جبيل وقراها، فيما يُمتحن أبناء القطاع الغربي في مركز قضائهم في صور، ولأبناء القرى خريطة توزيع أخرى تتشابك وتتعقّد.

لكن الواقع، في ظل العدوان الإسرائيليّ، هو أكثر تعقيدًا. ينتشر أبناء القرى حيث وصل بهم النزوح في شهره التاسع، والتنقّل من القرى إلى المراكز أمر غير مسلّم بأمانه ومعه سلامتهم، مع عدوان إسرائيليّ أثبت استهدافه المدنيّين وإلحاق الأذى بهم، موقعًا في صفوفهم 71 شهيد وشهيدة بينهم 12 طفلًا وطفلة، فيما لامس عدد جرحى العدوان الألف لغاية الساعة، بينهم أطفال في حافلات المدرسة. وإذ يعرف الجنوبيّون “الغدر الإسرائيليّ”، كما يؤكدون، فإن معركة بينهم وبين المعتدي على البقاء في الأرض والصمود تتوالى فصولها، إلى جانب المعركة العسكريّة. فالجنوب لا يزال عامرًا بأهله من سكان ومعهم النازحين من قرى التماس الحدودي المباشر التي شملها وحدها النزوح الجماعيّ، من دون أن يعني ذلك أن الجنوبيّين ليسوا شديدي الحذر والحساسيّة في حياتهم وتنقلّاتهم، فهم يواجهون الترهيب والترويع مع اتساع دائرة النار -وكذلك تصاعد الاستهداف الإسرائيليّ المباشر للمدنيّين- حتى شمل الجنوب كلّه من أقصاه إلى أقصاه، ومعه الكثير من قرى البقاع. والجنوبيون يستشهدون اليوم خلال مماؤستهم حياتهم العاديّة جدًا، في دكّان أو على باب مستشفى، أو خلال زراعة حقولهم أو رعي مواشيهم، أو بطلاء باب محل قديم، أو حتى آمنين في بيوتهم. 

وفي هذه المعركة المستمرّة، تدخل عوامل غير ملموسة، فيطمئن الإنسان في قريته حتى لو توالت عليها الغارات، فيما يتضاعف حذره من قرية أخرى يتكرّر اسمها في الأخبار، حتى لو كان رصيدها من العدوان أقل. وضمن “قواعد الأمان في ظل  العدوان” غير المكتوبة، تلعب ذاكرتهم الجماعيّة وخبرتهم مع الحروب الإسرائيليّة لعبتها في توقّعاتهم، فيتجنّبون مثلًا التنقّل على الطرقات وبين القرى في الساعات المتأخرة من الليل، وحتى الفجر، وهو التنقّل الذي سيفرضه عليهم توزيعهم على مراكز بعيدة عنهم عشرات الكيلومترات، ينبغي أن يصلوا إليها عند السابعة صباحًا، على ما تشترط بطاقات الامتحان المستلمة اليوم.

قلق بين القرى وسؤال الأمان نسبيّ وشخصيّ جدًا

بالفعل، مرّ العدوان على منزل الطالب محمّد فدمّر الأثاث وتضررت الأسقف والحيطان، حينما هزّت غارة إسرائيلية الحيّ السكنيّ في 5 آذار الماضي. تحطّم منزل محمّد وحمل جروحًا خفيفة في يده وقدمه، ولم يجد نفسه، على مدى شهرين، في وضع يسمح له باستئناف الدراسة، ولم يتمكن من صنع صورة “حالمة” قد يتخيلها بعض المنظّرين، كأن يحمل كتابه ويجلس ليدرس فوق الركام. لقد كان محمد في هذه الفترة مجرد فتى يفضّل قريته على النزوح القصريّ وشقائه، ويتعامل مع الحرب بما استطاع، لا بطلًا خارقًا. 

ومع اقتراب موعد الامتحانات، وجدّ الجدّ، فتح الكتاب مرّة أخرى قبل 3 أسابيع فقط، محاولاً تعويض ما فاته بعد أن أزاح تجربة نجاته من الغارة العدوانيّة إلى مكان مظلم في ذاكرته، أيقظها اليوم المستجد الجديد: استلم طلب ترشيحه واكتشف أنه سيكون عليه أن يستيقظ فجرًا، صباح يوم الإمتحان، ليسلك الطريق نحو الشرق من كفرا حتى قرية السلطانية في قضاء بنت جبيل لإجراء الامتحانات. تعاقبت الغارات على كفرا كما تعاقبت على السلطانية منذ بدء العدوان حتى اليوم. أيهما أأمن؟ ما هو مستوى الخطورة هنا أم هناك؟ ومن يضمن أمان الطريق؟ وأين ستكون أصوات “الدبعات” (ما يطلقه الجنوبيون على أصوات الغارات) أعلى؟ في كفرا أو في السلطانية؟ أسئلة تتكاثر في عقل محمد، ليقول ضاحكًا: “الوزير بده يدهورنا”. 

وإن كان طريق محمد يقدّر بحوالي الـ 12 كيلومتراً بين قرى تجمعها المخاطر، فإن طريق لانا عثمان ستكون حوالي 32 كلم من قريتها الحدودية الماري في قضاء حاصبيا، والتي يقع جزء من خراجها تحت الاحتلال -الجزء المتصل عمرانيّا مع الغجر- إلى معهد النبطية الفني حيث يحدد طلب ترشيحها مركز إجراء الامتحانات. 

محمّد يوثّق لرفاقه ومتابعيه إصابته في غارة إسرائيلّية استهدفت منزله في كفرا

ولانا مخيّرة صباح يوم الامتحان بين طريقين، سواء عبر طريق الوزاني والخيام أو طريق الليطاني والخردلي، لكنّها تقول للمفكرة إن الخطر كبير و”كلّ القرى حولنا تستهدف بشكل يوميّ، وما حدا بيعرف في أي وقت قد تُقصف الطريق”، فيما بالنسبة لأمها: “ما حدا من الأهالي رح يضحي بأولاده كرمال ياخدو شهادة”. ويضاف إلى التحدي الأمني، تحدّ اقتصادي “لأن الطريق بعيدة ومكلفة في ظلّ توقّف الأعمال”، فيما التحدي النفسي تخبرنا عنه لانا بكلماتها: “أعمارنا بين 17 و18، منكون قاعدين عم ندرس بينزل صاروخ قبالنا، وبيرجع بعد شوي جدار الصوت.. كيف بعد قادرين نفوت بجوّ الدرس؟”، وتختصر رسالتها بالتالي: “بدنا نبرّد قلوب أهلنا وما نشغلهن بالهن.. صرنا نقول نرسب هالسنة أحلى ما يضلو اهلنا قاعدين ع نار ليطمئنوا عنا”. 

وإذ حُدّدت النبطية لأبناء هذه القرى، فإن تبنين على موعد مع جيرانهم، الذين بدورهم يواجهون سؤال الأمان. الطالب محمد الباقر بركات bt3 IT، يقول إنه سيضطر للاستيقاظ عند الساعة 5:30 في أيام الامتحانات، ليتوجه من يحمر الشقيف نحو كفرتبنيت شمالًا، ثم يلتف نحو الجنوب ليمر على قعقعية الجسر ثم السلطانية وصولًا إلى معهد تبنين الفني ليكون في مركز الامتحانات عند السابعة صباًحا، في طريق قد تستغرق ساعة في السيارة: “تبنين بعد مش مقصوفة بعد.. بس الطريق صعبة و المنطقة من حولها كتير خطرة” يقول. ومحمد الباقر مريض سكريّ: “كلّ يوم عنّا جدار صوت وقصف، والتوتّر والخوف يأثر على صحتي”، ليصبح “خائفًا من أن يخاف”. يؤكد محمد الباقر كما كل الطلاب الذين شاركوا شهاداتهم مع المفكّرة أنه غير جاهز أصلًا للامتحان، ليضع الأداء الرسمي في خانة إنفصال ما يحصل في الجنوب عن بقية البلاد ” مش عايشين هالحرب معنا ومش حاسين فيها”.

أما أبناء القرى الأبعد نسبيًا عن الحدود، فهم بدورهم عاشوا الحرب ويعايشون تمدّدها ويتشاركون المخاوف نفسها حتى لو تم إعفاؤهم من سلوك الطريق الطويلة. فُرزت الطالبة فاطمة طراد (اختصاص رقابة صحية) إلى مركز امتحانات في قريتها معركة “لكن كيف نركّز في الإمتحان ونحن نتوقع الغارة أو جدار الصوت بين لحظة وأخرى”. وقد أثّرت مجزرة جناتا القريبة ليل الخميس الماضي، والتي استشهدت فيها أمّ وابنتها وجُرح العشرات بينهم أطفال، على السكان في القرى المحيطة مثل معركة: “نحن أساساً مش مأمنين نروح، بركي صار شي وطلعت ضربة، وهو أصلاً المعهد مخلخل”، تقول فاطمة، لتختم: “النفسية أبداً مش جاهزة نعمل امتحان حتى لو نحن مش على منطقة حدودية مباشرة”. 

من يستعجل علينا عودتنا؟” 

إلى جانب هؤلاء كلهم، يواجه الطلاب النازحون مفارقة “العودة المستعجلة” لإجراء الامتحانات. التوزيع عينه آنف الذكر للطلاب على المراكز لم يأخذ معظم النازحين بعين الاعتبار، فوجدت الأسر في مختلف أماكن النزوح نفسها مجبرة على العودة إلى المراكز المفتوحة قرب قراها الأصلية في النبطية وتبنين وغيرها، مع مصاعب الطريق وأكلافها، فضلًا عن مخاطرها. وبما أن أمام كلّ طالب، باختلاف المراحل، 3 أيام متعاقبة من الامتحان، فإن الإرهاق يتضاعف، ومعه سائر التحديات الاقتصادية والأمنية. 

وتشارك الطالبة سارة حمادة شهادتها معنا، لتقول للمفكرة إن التوزيع الحالي سيفرض عليها العودة من مكان نزوحها الحالي في رومين قرب دير الزهراني، إلى السلطانية قرب بنت جبيل، لتقطع طريقًا تقدّر بحوالي 46 كلم عبر قرى النبطية، أو 66 كلم عبر قرى صور، وهي طريق تبقى افتراضية لها باعتبار عدم توفر سيارة خاصة أو “فانات” نقل جماعي تأخذها إلى مركز الامتحانات مباشرة. 

وتتحدث سارة عن مخاوفها للمفكرة: “صراحة بات لديّ فوبيا من جدار الصوت.. يصل صوت القصف إلينا في رومين، فكيف سيكون الوضع في السلطانية التي تعرضت للكثير من الغارات حتى اليوم؟”. وسارة قلقة من “اصوات القصف وخرق جدار الصوت خلال الامتحان، والإسرائيلي غدّار وإذا رأى تجمّعا فقد يقصفه.. ما فينا نضمن الموضوع”، لتسأل: “مين مستعجل علينا نرجع نحن النازحين ع أماكن خطرة؟” 

بالمثل، حُدد مركز امتحان الطالبة زهراء سرور، النازحة من عيتا الشعب إلى مدينة صور، في تبنين، البعيدة 30 كلم عنها. وإن كان مسلسل الاستهدافات والمجازر يتنقل اليوم بين قرى قضاء صور وحتى مداخل المدينة، فيما جدار الصوت الترهيبيّ يسعى لترويع الأهالي باستمرار، فإن زهراء تقول “لم ندرس بسبب غياب الانترنت وحالات الهلع والتعب النفسي، لا أشعر أنني سأكمل امتحاني عند سماع جدار صوت أو غارة.. وعلى كل الحالات فإننا سنجري الامتحانات سواء في صور او في تبنين أو في أي مكان في ظل حالة قلق وتشتت أفكار نعيشها يوميًا”.    

وتشارك الطالبة زينب حسن القرن النازحة من عيتا الشعب إلى الحميري في قضاء صور شهادتها، بعد أن جاء مركزها في تبنين، ما سيحتم عليها سلوك طريق تراها خطرًة، فيما تواجه تبنين الحدود وأصوات القصف حتمًا أعلى: “انا اتعودت بس غيري ما اتعود.. انا بخاف بس بسيطر على حالي، لكن اذا طلعت قدّم امتحان فأنا مش دارسة ومش فهمانة لأدرس، لأننا كل شهر أو شهرين مننقل من منزل نزوح إلى آخر”، وتسأل زينب: “أنا ليه بدي قدّم امتحان وأهلي يتحزّرون على الباب إذا برجع عالبيت أم لا”.

وكما زهراء وزينب، فإن الطالب محمد القادري النازح من كفرشوبا الحدودية إلى صيدا خارج دائرة النار، جاء مركز امتحانه في كفرصير في النبطية على بعد 40 كلم: “درسنا نص المنهاج وفي دروس بعد عم ناخدها وما لحقنا”، فضلًا عن أن “مصادر دخلنا متوقفة فمن أين نموّل هذه الرحلات البعيدة؟”، ويسأل سؤال الأمان عينه: “الإسرائيلي قادر على ارتكاب المجازر.. وحتى جدار الصوت كفيل في أن ينسينا ما تعلمناه، أنا إذا سمعت أصوات الحرب.. سأضع القلم وأغادر المركز.. أعصابنا تعبانة”. 

سكان صيدا والجوار: أين الحكمة في إرسالنا جنوبًا؟  

في المقابل تنقل ساري صباغ، طالبة التمريض من صيدا، للمفكرة أنها لا تزال تتفاوض مع أهلها على الذهاب للامتحان المحدد في البابلية: “انا وأخي توأم، وأمي بتقول ما رح تخاطر بولدين وأنا أقول لها المسلّم الله”. بدوره حسن صباغ يسأل: “بدل أن يتوجه أهل الجنوب إلى مركز في صيدا ليقدموا امتحاناتهم، ارتأت الوزارة أن نتوجه من صيدا إلى القرى”. ولدى الأسرة مخاوف تتشاركها مع عدد من الطلاب من سكان صيدا ومغدوشة الذين حُددت مراكزهم إلى الجنوب من المدينة، بين الصرفند والبابلية وغيرها، باعتبار أن قرى الجنوب كلها مهددة بالخطر الإسرائيلي، وتعاقبت عليها الغارات مرات عدة، وإن كانت المخاطر في هذه القرى أقل نسبيًا من تلك التي يعيشها السكان كلما اقتربنا من قرى صور والنبطية، حيث تتوالى الغارات، فضلًا عن قرى الحدود حيث الحرب شاملة. ويطالب هؤلاء الطلاب بالتقدم للإمتحانات في صيدا، وهو مطلب يتشاركه معهم إبراهيم، ابن بلدة مغدوشة، الذي جاء مركز امتحانه في الصرفند. 

وللمفارقة، فإن الطالبة غفران السارجي، من الغازية جنوب صيدا، استلمت طلب الترشيح لتكتشف أن مركز امتحاناتها سيكون في النبطية، وفي هذه المعادلة، تصبح الغازية أأمن لإبنة الأعوام الـ18: “عنا بالغازية وصيدا في جدار صوت، وأوقات غارات على الزهراني وخوف، كيف بدهم يطّلعونا ع مراكز أخطر بيدّعو وجود أمان فيها؟”. ولا تزال الطالبة غفران تتذكر يوم نفّذ الاحتلال الإسرائيلي 4 غارات على الغازية في 19 شباط الماضي، اثنتين منها ضربت المنطقة الصناعية تمامًا خلف مستشفى الراعي: “حيث كنت حينها في المستشفى أتدرب، وكانت الضربة عنيفة جدًا.. وتأثرنا جداً نحن كمتدربين كما الأطباء والمرضى”. وتسأل “ما الحكمة في أن أتوجه إلى النبطية حيث يتصاعد الخطر من أجل امتحاناتي؟ وما هو مفهوم الأمان لدى الوزارة” تسأل غفران. 

ويقول طالب التمريض عزالدين ابو ليلى من صيدا، ومركز امتحانه في معهده في الصرفند، رغم أن الدراسة فيه كانت تتعطل مع كلّ جدار صوت أو تحليق مكثف للطيران: “نحن كطلاب صيدا لا نقبل بعدم الوقوف مع طلاب الجنوب بهكذا وضع”، داعيًا كلّ الطلّاب إلى التضامن حتى أولئك الذين “لم يتأذوا من الحرب”، لأن “طلاب الجنوب هم طلاب لبنان”.

مطلب الإفادات وفاقد تعليمي يتراكم

يبحث من قابلناهم عن حلول، ويقترح البعض مخرج الإفادات كبديل عن الشهادات وامتحاناتها، خصوصًا أن أزمة المراكز مستجدة، وأزمتهم الرئيسية هي في تعطل العام الدراسي في القرى الحدودية وتأثره بشدة في سائر الجنوب، خصوصًا مع عدم اكتسابهم للمعارف عبر التعليم عن بعد، ومع ظروف الحرب والقلق الملازم، وأخبار استشهاد عزيز أو قريب أو جار، والعيش على أصوات هدير الطائرات الحربية وخرق جدار الصوت الترهيبيّ للسكّان و الاستهدافات المتنقلة ضدّهم.

وأنشأ بعض الطلاب صفحات على وسائل التواصل الاجتماعيّ باسم “طلاب الجنوب” و”طلاب الحدود” تطالب بالافادات، وهو الأمر الذي ترفضه الوزارة إلى حد انزلق فيه الأمر بين وزير التربية والطلاب نحو التحدي، فيما مصدر الأزمة هو سوء إدارة العام الدراسيّ في ظلّ العدوان، والجدل حول الامتحانات الرسميّة ليس سوى محصّلة له. وقد كشفت دراسة المركز اللبناني للدراسات أن 28% فقط من طلاب الشهادة الأكاديمية في المدارس يقولون إنهم جاهزون للامتحانات الرسمية، فيما لم تُنجز أي دراسة على طلاب المعاهد المهنية والتقنية بشكل خاص.

وتشكو الطالبة نور الهدى حسين بدران من بُعد مركز الامتحان في كفرصير عن مكان إقامتها في حبوش، مشيرة إلى أنه، إضافة إلى عدم امتلاكها سبل المواصلات وبُعد الطريق الذي يحتاج 45 دقيقة على الأقل، فإنها لم تتمكن من دراسة المواد المطلوبة أصلًا للامتحان: “جدار الصوت كل ما يطلع بينسينا كل ما درسناه، كما أن رعبنا على أهلنا وحزننا على شهدائنا أكل عامنا الدراسي الذي قضيناه بين خبر غارة وهدير طائرة”. بدورها تقول الطالبة ريم، النازحة من عيتا الشعب إلى العباسية: “عملت بدوام كامل كي أساعد أهلي في ظل تعطل أعمالهم بفعل الحرب.. ولم يسمح الوضع أبدًا لي بأن أدرس”. وتؤكد أنها لم تُنجز بعد سوى مادة واحدة “من الأساس الوضع ما سمح لي ادرس منيح  من توتر وشغل”، وتشير إلى أن الطريق إلى مركز امتحانها الذي جاء في النبطية على بعد 30 كلم، مكان نزوح عائلتها، “ليس آمنًا بالنسبة لي وصعب ومكلف”، لتختصر رسالتها: “مش خالصة شي من المنهاج وضغط وأصوات ضرب وتوتر وجدار صوت وتعب وتهجير ورغم هذا نحاول ما استطعنا”. لكن ريم تقول أنّها وزملائها “غير جاهزات وغير قادرين على إجراء الامتحان”، متمنية أن يصل صوتها “وأن تنصفنا الدولة وأن تتفهم وضعنا وأن لا تشملنا مثل باقي مناطق لبنان، لأنها بذلك تظلمنا”.

يرى الباحث في التربية نعمة نعمة أن المطالبة باستبدال الشهادة بالإفادة تعود بشكل رئيسيّ إلى “عدم رضى الطلاب -خصوصًا الجديين بالسعي للتعلّم- عما تعلموه من مكتسبات ومعارف خلال الفترة السابقة، وليس مجرد مطلب كسول، كما ذهب بعض الخطاب الرسميّ والإعلامي مؤخرًا”. ويشرح أن “الطلاب حينما يطرحون خَيَار الإفادات، إنما يقولون إنهم غير جاهزين على المستوى النفسي، والأهم ليس لديهم إحساس أنهم قادرين على تحصيل معارف، وليس لديهم شعور انهم جاهزين للتعبير عن هذه المعارف في امتحان رسمي”. وإن كان عامل القلق النفسيّ ينسحب حتى على قطاع كبير من الشعب يعيش على وقع العدوان ولو كانت مناطقه خارج دائرته، فإن المشترك الكبير على مساحة الوطن هو “الفاقد التعليمي المتراكم منذ عام 2019 وحتى اليوم”. ويقدّر نعمة: “أن فعّالية التعليم قد تضررت بشدة من حجم الفاقد التعليمي الناتج عن اضطرابات وقلق، وهي فعّالية متدنية جدا”، ويوضح: “خلال الست سنوات الماضية، بات لدينا تراجع يقارب الـ4 سنوات تعليم وهذا رقم كبير لا يمكن تعويضه إلا بخطة مدروسة وخطة مدروسة فقط تمتد 5 سنوات مقبلة على الأقل”.

يقول محمد إنه كان يدرس في يوم عاديّ حينما شنّ طيران الاحتلال غارة قربه

رد ووعد من الوزارة 

المفكرة حملت شهادات الطلاب ومخاوفهم إلى المديرة العامة للتعليم المهني والتقني هنادي بري التي قالت إن الطلاب “مُنحوا فرصة إبلاغ الوزارة عن أماكن نزوحهم”، فيما ردّ الطلاب، الذين استصرحتهم المفكرة،  بعدم علمهم بهذا الأمر، وهو ما يبرز عدم وضوح الإجراءات وسبل تعميمها. 

ودعت الوزارة بالفعل التلامذة إلى الإبلاغ عن أماكن نزوحهم كي يلتحقوا بالتعليم بعد شهرين من بدء العدوان الإسرائيليّ، بحسب ما يشرح الباحث نعمة نعمة، لكن هؤلاء، وخصوصا من استصرحتهم المفكرة اضطروا للنزوح مرات عدة، فيما تابع آخرون مع معاهدهم عبر الانترنت -على علّاته- فلم يحتاجوا هذا الإبلاغ. في المحصلة، يؤكد نعمة أن أزمة توزيع المراكز تتصل بواقع عدم امتلاك وزارة التربية قاعدة بيانية بأماكن توَزّع الطلاب النازحين، وقد حاولت اليونيسيف إجراء تتبع مماثل فلم تصل إلا إلى بضع مئات من طلاب الشهادات. وبالرغم من هذا فإنه لدى وزارة التربية داتا كاملة بأرقام الطلاب، يقول الباحث نعمة نعمة، ووسائل التواصل معهم متوفرة لتتبع مكانهم، لكن يبدو أن هذا التتبع لم يكن ضمن الخيارات. 

وأمام المعضلة، وحجم الخطر، تؤكد بري اليوم في حديثها مع المفكرة أن السلطانية، وتبنين، وغيرها من القرى، هي قرى آمنة لإجراء الامتحانات بحسب تقييم الوزارة، قبل أن تعود وتسأل بنفسها سؤال الأمان عينه: “من هو القادر على أن يقول هذه قرية آمنة في الجنوب وهذه لا، اليوم؟” 

إلى هنا، تعِد بري عبر المفكرة بأنها ستعمل على إصدار تعميم قبل يومين من الامتحانات، يحل مشكلة توزيع الطلاب على المراكز البعيدة. ولم تكشف لنا المديرة العامة للتعليم المهني والتقني تفاصيل هذا الحل، لكن تجزم بـ”الحرص على طلاب الجنوب”، وكذلك أن “لا إفادات، بل حل آخر يعالج المشكلة”.

ختاما، إن محنة طلاب الجنوب ستبقى، ومع استمرار أزمة العام الدراسي ومن ثم أزمة امتحاناته الرسمية، تُثقل كاهل أهل الجنوب وهم يعيشون تحت العدوان، محنة لا يبدو أنها ستصبح وراءنا قبل أن يفرغ آخر طالب من آخر امتحان، بالموجود والمتوفر من ظروف، وبالظلم الواقع لا محالة على من يُمتحن بدروس لم يتمكن من تعلمها ليس فقط بسبب ظروف العدوان، ولكن بسبب تخبط الوزارة في إدارة العام الدراسي للطلاب الواقعين تحت العدوان عينه. ويركّز الطلاب صرختهم اليوم على حل عاجل لمعضلة توزيعهم على المراكز. بموازاة ذلك  دعت صفحات تواصل اجتماعي طلابية إلى وقفات احتجاجية في القرى، تراجعت عنها لاحقًا بفعل ما وصفته بأنه خوف من العدوان، فإنه يبقى أن نتابع معهم قضيتهم، ونتابع كذلك الوعد الرسميّ الجديد بطرح حل يناسبهم. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في التعليم ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني