تجاوز التاريخ كنموذج لتطوير القاهرة


2022-02-13    |   

تجاوز التاريخ كنموذج لتطوير القاهرة
القاهرة

في أبريل 2020، أعلنت الحكومة عن 10 مناطق مخطّط تطويرها. يجري فيها تطوير ميدان التحرير ومسلّة رمسيس الثاني، ونقل الكباش الأربعة إلى الميدان وتطوير كورنيش النيل، ومشروقع محور الحضارات، وتطوير وتطهير بحيرة عين الصيرة، ونقل المدابغ وإنشاء مدينة الروبيكي للجلود، ونقل المومياوات إلى متحف الحضارات، وإقامة حي الأسمرات والقضاء على المناطق العشوائية. وحددت أهداف المشروع في عام 2021 بـ 5 مناطق وصفت بأنّها ذات أولوية تراثية، وهي: المنطقة المحيطة بمسجد الحاكم على مساحة 14 فداناً، ومنطقة جنوب باب زويلة بمساحة 8.5 فدان، ومنطقة حارة الروم وباب زويلة بمساحة 8 أفدنة، والمنطقة المحيطة بمسجد الحسين بمساحة 11 فداناً، ومنطقة درب اللبانة بمساحة 10.5 فدان.

يصاحب هذا التطوير، وفقاً لعدد من الباحثين والمهتمّين بالتراث، هدم أبنية وشطب أخرى من لوائح الآثار في القاهرة وخارجها. يقدمون نماذج متنوعة لأنواع المقدرات التي يجري تجاوزها، سواء كانت محمية بنص قانوني أو مسجلة على لائحة جهاز التنسيق الحضاري وخلافه. وتكشف تعليقات المسؤولين الحكوميين وعلى رأسهم وزير الآثار خالد عناني نفسه عن الرؤية الرسمية للتاريخ المصري: “هل من المفترض أن أترك بعض الحجارة لأنّها مسجّلة آثار؟” فـ “هناك مبان لا ترتقي ولا تستحق تسجيلها آثار”. 

التناقض بين مشهدي الاهتمام والإهمال يمحي طبقات مدينة القاهرة أي التراكمات التاريخية والتراثية للعصور المختلفة التي مرّت عليها. وبالتالي يبدو أنّ العاصمة لن تعود بعد تدشين عاصمة أخرى تتجاوز القديمة وتنطلق من أولويّات نموذج تطوير ليست المدينة مهمّة فيها لذاتها بل هي مجرّد وسيلة لتنفيذ هذه الأولويّات تستخدم محو طبقاتها بدلاً من الدمج بين ماضي القاهرة وحاضرها بما يضمن بقاءها مستقبلاً. 

في هذه المقالة، نتناول نموذج المحو الذي تعتمده الدولة في التعامل مع المدينة واختيارات التطوير الرسمي، بالإضافة إلى تفكيك هذا النموذج عن طريق نقاش مع متخصّصين، وعرض وجهات نظر تختلف حول الاختيار الواعي لهذا النموذج من عدمه، ومن يتحمّل مسؤوليته ولماذا، وتتفق على تبعات المحو، وما تحمله الخسارة التاريخية للقاهرة من خسارة اقتصادية أيضاً، وهو ما نحاول طرحه والتعليق عليه.

يبقى أن نشير إلى أنّ طبقات المدينة التاريخية المعنية بها المقالة ليست قاصرة على آثارها أو مبانيها القديمة فقط، ولكن تضم كلّ مكوّن له فعالية وظيفية فيها من أبنية وفراغات وبشر. 

استمرار تدهور المدينة مع محو طبقاتها التاريخية

يعرّف المعماري أحمد برهام نموذج التطوير المعتمد على المحو بأنّه “النموذج السريع الحالي، يهتمّ بمدينة تضم أبنية معينّة كالمتاجر الضخمة “المولات” والفنادق، على نسق عمارة الخليج أو ما يمكن تسميته بـ “دبْيَنة” المدينة، نسبة إلى دبي، وهذا يحتاج إلى جعل المدينة “صفحة بيضاء عبر تجريدها من طبقاتها لإعادة بنائها وتصميمها على النحو المطلوب وفقاً لهذا النموذج”. أما المقاربة الصحيحة فتقوم على الحفاظ على مدينة متعدّدة الطبقات أو ما يسمّى بالمدينة التاريخية، وترميم المباني التاريخية وإعادة دمجها مع الاستخدامات الحديثة بما يحقّق التنوّع في الاستثمارات. 

ويضرب برهام مثالاً من واقع خبرته العملية، بصفته أحد أعضاء مجموعةمد التي عملت على مشروع مثلث ماسبيرو في 2013 و2014 بالتعاون مع الحكومة آنذاك وأهالي المنطقة. ويشير برهام إلى أنّهم حاولوا العمل والتسويق لمثلث ماسبيرو باعتباره حيّاً تاريخياً، وبالتالي يمكن تطوير نسيجه وتغذيته على المستوى التاريخي، مع إمكانية إنشاء فندق يقدّم خدمات فندقية مميّزة وإيجاد استخدامات وسيطة تضمّ مبان سياحية ومساكن لأهالي المنطقة، بما يحقّق مصالح مشتركة لسكان المنطقة القدامى من جانب وللحكومة والمستثمرين الجدد من جانب آخر، من دون إقصاء طرف معيّن. ونموذج الدمج هذا يتماشى مع تاريخية الأحياء بينما النموذج المعمول به الآن لتطوير المدينة لا يعتمد الدمج، بل المحو.

يميل برهام إلى تحليل الممارسات الرسمية عبر هذا النموذج، ما يتيح له تفسير ما تقوم به الدولة، انطلاقاً من الخيارات والقرارات المرتبطة بنموذج المحو نفسه وإن لم تتّسق الممارسات مع بعضها البعض أو مع مبدأ الحفاظ على التاريخ.

غياب خطّة شاملة لتطوير القاهرة وتعدد الجهات المعنية

تعتبر عالمة المصريات، والعميدة المؤسسة لكلية الآثار والتراث الحضاري بالأكاديمية العربية للعلوم البحرية الدكتورة مونيكا حنّا من جانبها أنّ غياب الخطّة هو المسؤول عمّا وصلت له القاهرة، وهي السبب وراء إزالة طبقات تاريخية من المدينة. 

تبدأ د. مونيكا حنّا حديثها لـ “المفكرة” بالقول “عندما يكون لدى أحد خطة ينشرها، ولكن حتى الآن لم نقرأ شيئاً، فـلا يوجد خطة معلّنة ولم يتم تبليغ كلّ الأطراف المعنيين من متخصصين وأصحاب مصلحة أي سكان المناطق الخاضعة للتطوير والمتخصّصين وأساتذة الجامعة، كيف يحصل ذلك”. يدعم تقرير لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو والصادر في يونيو 2021، مقاربة الدكتورة مونيكا، إذ إنّ قرابة نصف العوامل المؤثرة على المباني المشار إلى تعرّضها للخطر في تقارير المنظمة بالأعوام السابقة تتعلّق بغياب خطة شاملة للتنمية واﻹدارة[1].

بالنسبة للدكتورة مونيكا، لا بدّ في المقام الأوّل من وجود سياسة تنبثق منها الخطة وتنطبق على كلّ مصر وليس على القاهرة فقط، وأن يخصّص لكلّ منطقة خطّة تتماشى مع السياسة العامّة الأكبر الحاكمة للتطوير، وذلك بناء على مقاربة متفّق عليها بين جميع الأطراف، وليست مفروضة من أعلى. كما يحتاج التطوير إلى توحيد الجهود تحت مظلّة واحدة، سواء توحيد إدارة الملفّ برمّته، بحيث تجسّده هيئة عليا واحدة، لا تجمع بين الآثار والسياحة، نتيجة تضارب المصالح بينهما، حسبها، وتوحيد للمفهوم التاريخي، من دون تفرقة بينه وبين الآثار. 

يتّفق برهام مع فكرة حنّا الأساسية عن عدم وجود خطة، وإن كان يعتقد أنّ الطبيعة والظروف الخاصّة بكلّ منطقة تجعل من فكرة وضع خطّة كبيرة وعامّة لتطوير القاهرة التاريخية “شيء ضخم جداً”. وذكّر بوجود هيئة حكومية تتبع لوزارة الثقافة اختصّت بتطوير القاهرة التاريخية أنشئت عام 1998 تحت اسم “جهاز تطوير القاهرة التاريخية” وذلك بناء على قرار من مجلس الوزراء بمنحة بلغت مليون دولار من الصندوق الإنمائي التابع للأمم المتحدة. وخصّصت المنحة لإجراء دراسة ميدانية لمناطق المدينة التاريخية.

ومن خلال بحث حول الجهاز ومهامه، وجدنا أنّه عمل على تنفيذ أنشطة لتطوير بعض الآثار ومنها مشروع تطوير الجزء الغربي من بيت الرزاز الواقع في منطقة الدرب الأحمر والذي جرى العمل عليه من عام 2003 إلى 2007. كما أجرى بعض البحوث والدراسات المشاركة في دوريات ومؤتمرات ذات صلة ومنها دراسة حالة شارع المعز لدين الله الفاطمي بعنوان “الاستثمار كركيزة لعمليات الحفاظ بالمناطق التراثية” عام 2002. 

خلال مؤتمر المعماريين التاسع عام 1999، أي بعد عام من إنشاء الجهاز، أوضح الدكتور عبد الباقي إبراهيم في ورقة منشورة باسم “إدارة الارتقاء بالقاهرة التاريخية” ضمن أسباب الحاجة إلى إنشاء جهاز جديد لهذه المهمة، أنّ هناك عدداً من اللجان والأجهزة وإدارات التطوير التابعة لعدد من الوزارات المختلفة تتنافس فيما بينها وتتضارب قراراتها بشأن تطوير المدينة ولا تنسّق بشكل فعّال. وهذا الأمر لديه سلبيات إدارية وفنية وقانونية ويؤثر على عمليات الارتقاء التاريخي بالقاهرة، في ظلّ التدهور المستمر للمدينة. 

وكان “جهاز تطوير القاهرة التاريخية” أحد تلك الجهات. وبحسب نتائج بحثنا نتبيّن أنّه لم يتمتع بشمولية في عمله تتّسق مع اسمه، بل تركّز عمله على الآثار الإسلامية بالأساس كجزء من عملية تطوير عمراني أكبر يذهب المتخصصون وتقر الحكومات السابقة أنّ المدينة عانت فقدانه لسنوات طويلة، ممّا أدى إلى تدهور بعض طبقات من القاهرة وفقدانها.

ولا يتوقّف الأمر هنا، بل إنّ الجهاز لم يعد له دور واقعي في عملية التطوير الحالية للمدينة.

وقد دعت ورقة الدكتور عبد الباقي إلى تولّي جهاز جديد هذه المهمة كاملة، من دون توزيع الأدوار بين الوزارات المختلفة، وهو المطلب الحالي نفسه للمتخصّصين في التراث، لأنّ الأسباب التي أشارت إليها الورقة لا تزال موجودة ومع ذلك لم تُفعّل فكرة توحيد الجهة المسؤولة عن تطوير المدينة.

وخلال السنوات الأخيرة (بين 2016-2018)، عاد الحديث عن جهة موحّدة، مع تصريحات مدير عام مشروع تطوير القاهرة التاريخية بوزارة الآثار محمد عبدالعزيز، الذي أشار إلى محاولة الوزارة إنشاء هيئة موحّدة تسمّى هيئة مواقع التراث العالمي في مصر. ثم توقفت التصريحات مع بداية تنفيذ عمليات ومشاريع “تطوير القاهرة” الحكومية المعمول بها منذ 2019. وهو العام نفسه الذي شهد دمج وزارتي السياحة والآثار، بشكل لا يخدم التراث، لأنّه بحسب د. مونيكا حنّا “المعني بالتاريخ شغلته يحافظ على المكان ويتيحه، أما المعني بالسياحة فيريد استخدام الموقع بطرق تضرّ به وبالتالي فبينهما تضارب مصالح، وصدام”. وهذا سبب إضافي لضرورة وجود جهة واحدة مسؤولة عن تطوير المدينة.

لكن حالياً ومع تولّي الهيئة الهندسية أعمال التطوير بمشاريع القاهرة التاريخية، تغيّرت الرؤية للقاهرة، حيث تحوّلت من كونها عاصمة مركزية للبلاد، إلى مدينة مركزية في الجذب السياحي والاقتصادي. وطبعاً لا يركّز النموذج المعتمد لهذا التحوّل، على التاريخ باعتباره مصدر الجذب الأهم فيها، ولا يسمح له أن يكون مصدر ثروتها الأساسي فهو نموذج يقوم على إزاحة طبقات من هذا التاريخ لبناء مشاريع استثمارية يصبح استهلاك منتجاتها وخدماتها هو مصدر الربح الأهم.  

هدم منازل سكانية بالجيزة ضمن أحد مشروعات تطوير القاهرة الكبرى. يونيو 2021.

الأثر الاقتصادي لإزالة الطبقات التاريخية 

يتسبّب نموذج المحو في خسارة طبقات تاريخية، بحجّة إعاقتها للتنمية والتطوير الهادف لدفع الاقتصاد والتوسّع في تحصيل أرباح مادية أكبر. لكن المفارقة أنّ ثمّة خسارة اقتصادية إضافة إلى الخسارة التاريخية، كون المحو يقلّل من موارد المدينة التي تعتبر مصدراً للدخل، وهو ما يتفق عليه أحمد برهام ود. مونيكا حنّا. فتقول الأخيرة إنّ “الدولة يهمّها أولاً الاقتصاد، ولكن حين تضيّع الطبقات التاريخية فأنت تضيّع اقتصادك، بالتقليل من قيمة المدينة، لأنّ أيّ مدينة في الدنيا يعتبر تراثها هو رأس مالها”. فحينما نزيح طبقات تاريخية بهدم منزل عمره 100 سنة مثلاً، وبناء برج سكني مكانه، فهذا يقلّل من قيمة المدينة.

يفسّر برهام اختيار الدولة لنموذج المحو، بما فيه من إعادة تعمير للمدينة على النسق الخليجي لا التراثي المناسب لتاريخ القاهرة قائلاً: “نموذج الدمج والاستفادة من طبقات المدينة التاريخية وتوظيفها ودمجها مع الاستخدامات الحديثة، يتطلّب إنفاقاً أوّلياً، قبل استقبال الأرباح. فيحتاج نموذج التطوير في هذه الحالة إلى فترة من الزمن كي يؤتي ثماره. على الجانب الآخر، يحقق نموذج المحو أرباحاً سريعة، ما يجعله جذاباً للدولة، ولو على حساب هدم وتغيير هوية المدينة الأصلية، لأنّ الدولة تريد العوائد فوراً، فسهل جداً أن نزيل ونهدم ونحرّك الناس، ونستفيد من المدينة كمورد أو مساحة للتربّح”. لا ترى د. مونيكا غضاضة في فكرة تربّح الدولة من المدينة “من المهم أن يكون لديها مصادر دخل، ولكن أن تكون مصادر دخل تفيدها، وليس مصدراً ‘يقتل الفرخة عشان يجيب منها كلّ البيض'”[2].

على الجانب الآخر، فإنّ المشكلة الأكبر في نموذج حذف الطبقات التاريخية للمدينة المصرية، هو تجريد القاهرة من ميزتها التنافسية، بإزاحته العناصر المكوّنة لفرادة المدينة. أما بناء مشاريع استثمارية تعتمد على الأبنية والأنشطة الاستهلاكية وحدها، كما هو حال العمارة الخليجية، فهو يعيد خلق ما تقدمه دول أخرى بالفعل. ولكن في المقابل، فإنّ لدى نموذج دمج الطبقات التاريخية وتوظيفها في عملية تطوير تراعي خصوصيّتها، قدرة على الاستدامة، لأنّه مرتبط بإثراء أصول المكان نفسه، وليس بمشاريع مؤقتة.

العيب أيضاً في تنفيذ المشاريع

من وجهة نظر د. مونيكا، فإنّ تدهور القاهرة وخسارة تاريخها لا يتعلّقان برفض الدولة الاستثمار فيها ولا باستبعاد التراث كلّياً من الأولويّات وهو ما يدلّ عليه موكب المومياوات، ومشاريع أخرى مثل إنشاء متحف الحضارة. إلّا أنّ هناك جوانب يعاني منها ملف التاريخ مثل إدارة المواقع الأثرية وترميم المواقع المهملة، “هذا حقاً ما نحتاج إليه مثل قبّة الشيخ حسن التي وقعت لأنّه لم يتمّ ترميمها”. تُرجع د. مونيكا القصور إلى وزارة الآثار. وتقول إنّ “هناك فرق بين الوزارة والدولة[3]” فالأخيرة تجيد الإنفاق على التراث، في رأيها، إلّا أنها تعتبر “العيب في الوزارة وكوادر الوزارة. نحنا ليس لدينا خطّة لأنّ لا أحد يعرف ما الذي يفترض القيام به”. وترى أنّه من واجب الوزارة طرح ما تحتاج إليه لحماية التراث على مجلس الوزراء. 

وتستشهد بنموذجين متضاربين لتوضيح أنّ المشكلة ليست في الميزانية أو الإنفاق، بل في التنفيذ. فموكب المومياوات تمّ تنفيذه بجودة عالية نتيجة تولّي شركة خاصّة إدارته وتنفيذه. على الجانب الآخر، أما مسجد زغلول في منطقة رشيد فقد تمّ ترميمه بتمويل من خزينة الدولة، ولكن قامت وزارة الآثار بالتخلّص من الجزء الأثري منه وإنتاج نسخة حديثة، بدلاً من أن تقوم بترميمه لإعادة رونقه التراثي القديم وبالتالي تمّ تشويه تاريخه وقيمته كأثر.

وتعيد المشكلة في وزارة الآثار وتراجع مستوى الكادر البشري إلى وضعها المالي فـ “الوزارة بعد 2011 كان فيها 4 مليارات جنيه، في 2017، كانت مدينة لوزارة المالية بـ 4 مليارات”. لا بدّ من توفير مصادر إنفاق متنوّعة، لا تنحصر في إيرادات التذاكر، ضمن خطة للاستثمار في الأصول المسؤولة عنها الوزارة، ليكون لديها دخلها الخاص. وتتساءل “لماذا عليّ بين الحين والآخر أن أذهب إلى وزارة المالية لمطالبتها بمبالغ مالية، وزارة الآثار وزارة بلا ميزانية، ويفترض أنّها المسؤولة عن الإنفاق على نفسها من إيراداتها، أيام فاروق حسني (وزير آثار أسبق في عصر حسني مبارك) كانت تحقق الإيرادات، وصلت بها الحال إلى أن تطلب من وزارة المالية تمويل مشاريعها من الموازنة”. ترى د. مونيكا أنّ لدى وزارة الآثار مسؤولية اقتراح مشاريع تطوّر وتستخدم التراث ليكون هو في حد ذاته مصدر دخل، “أي أن يقال إنّه بدل هدم مبنى ما لبناء جسر، الوزارة حافظت عليه وطوّرته في مشروع معيّن وأصبح مصدر دخل يقدّر بكذا لخزينة الدولة، ولا أن يقال لا يا فندم المبنى هذا غير مهم، سنخرجه من التصنيف الأثري ونهدمه”.

مسؤولية إزاحة التاريخ

لو أنّ تأريخ القاهرة وتحويلها إلى مدينة تاريخية، مركزي بالنسبة للدولة، فلماذا لا يتم تغيير الكادر الإداري لوزارة الآثار؟ أو السعي لتطويره وإعادة تأهيله؟ فهل لا يعلم المسؤولون بحجم المشكلة؟


تجيب د. حنا “سامعين وشايفين، والأجهزة تكتب تقاريرها بهذا الخصوص، معركة الحفاظ على التراث ليست جديدة”، وإن كانت تقرّ بتدهور الوضع. وتتذكّر أزمة قصر البارون في عهد مبارك، والتظاهر لحمايته آنذاك: “مثلاً ما أنقذ قصر البارون كان سوزان مبارك”[4]. تعتبر هذه الواقعة في حد ذاتها دليلاً على قدرة الإرادة السياسية في مستويات أعلى من الوزارة أن تتدخّل لصالح حماية التراث، فموقف زوجة الرئيس الأسبق كان كفيلاً بإنقاذ قصر البارون، بالرّغم من أنّها ليست مسؤولة تنفيذية، لكن نفوذها السياسي مكّنها من القيام بهذا الدور. وقياساً على ذلك، يمكن فهم كيف للسلطة السياسية أن تؤثّر في سياسة التعامل مع التراث، شريطة وجود إرادة لفعل ذلك.

تضيف د. مونيكا إلى أسباب تدهور وخسارة تاريخ المدينة غياب الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ على التاريخ لدى المواطنين. وتوضح أنّ “كلّ المعنيين، بداية من مدير الحي وما فوق هناك أناس كثر لا يهتمّون” فلو خُيّر هؤلاء بين هدم مبنى أثري وبناء برج بدلاً منه فسوف يختارون الأخير، وقلّة هي من ستكون على دراية بأهمية المبنى الأثري. تحكي عن خبرة شخصية لها “عاصرت في بلدي المنيا، هدم الأسقف كنيسة بناها جدي عام 1922 وهدم مقبرته، وافق السكان كلّهم هناك باستثناء عائلتي، هذا مثال صغير على عدم الاهتمام بالتراث”. 

تُرجع الأمر بدايةً إلى تلقّي تعليم غير مساعد “كتاب الدراسات الاجتماعية نفسه هو كتاب مُنفّر. في زيارات المتاحف ومواقع التراث والآثار، يُعامل الأجنبي أفضل من المصري”. كلّ هذه العوامل مع الظروف الحالية والتحوّلات في المدينة بعد سنوات من الإهمال، المشاكل كلّها “فرقعت مرة واحدة، لكن هذه تركة مأساوية بالإضافة إلى الناس الموجودين في الجهاز الحكومي، ولكنّي أرى الحلّ في وضع سياسة وخطط للأماكن بشراكة الجميع، بمن فيهم الناس الذين يعيشون في التراث ويسترزقون منه” وفقاً لتعبيرها.

وتشير إلى أهمية وجود صندوق حكومي يحافظ على التراث ويستثمر فيه ويلجأ إليه أصحاب المباني التاريخية، للحصول على تمويل من الدولة، يدعمهم للإبقاء على مبانيهم. تستعير النموذج الإيطالي كمثال، إذ تدفع الحكومة هناك 90% من نفقات ترميم المبنى التراثي، لوعيها بأهمية الحفاظ على تراثها، وقيمته الاقتصادية كمصدر دخل للدولة “فإيطاليا بقت إيطاليا كما هي الآن لهذا السبب”. لكن على النحو الحالي في مصر، ما الذي سيبقى من المدينة إن استمرّ الوضع هكذا، كيف يمكننا رؤية مستقبل المدينة التاريخية؟

في تقدير د. مونيكا فإنّه “لا يمكن تخيّل الحال الذي ستؤول إليه المدينة، ولكن طبعاً سيكون وضعاً غير سهل، ما يمكنني قوله إنّ حتى المباني التاريخية لن تبقى وستتلاشى وهذا أكثر ما يثير القلق”. وتصف معدّل التغيير الذي تشهده المدينة بـ “السريع”، أمّا الحلول والتصوّرات المفترض العمل عليها لتدارك الوضع، فإضافة إلى أنّها ما زالت غير مفعّلة، فإنّها حتى لو نفّذت فستكون خطط بعيدة المدى، إذ ترتبط في أغلبها بالوعي والتعليم وثقافة التعامل مع التاريخ. نحن أمام مدينة تختفي بالتدريج وربما لن يعود التعرّف على هويتها وتراثها بعد 20 أو 50 سنة مهمّة سهلة،  خصوصا إذا استمرت عملية تغيير المدينة على طريقة إزاحة طبقاتها التاريخية وعلى نفس السرعة.


[1] راجع الصفحات 9-15  من التقرير  WHC/21/44.COM/7B.Add الخاص بحالة الأبنية المسجلة على لائحة التراث العالمي، والمقدم إلى لجنة التراث العالمي لمناقشته خلال اجتماعها في يوليو 2021.

[2] تعبير مصري المقصود به: ضرورة عدم الاستغناء عن مصدر الثروة الأصلي لجني أرباح سريعة وآنية من دون الالتفاف للخسارة المستقبلية بضياع المورد الأساسي.

[3] المقصود بالدولة في كلام د. مونيكا هو رأس الدولة/ الإرادة السياسية.

[4] بإذعان من سوزان مبارك، فاوض وزير الإسكان آنذاك محمد إبراهيم سليمان ورثة القصر لأخذ قطعة أرض في ضاحية مصر الجديدة، حيث يوجد القصر، مقابل التنازل عنه لصالح الدولة المصرية.

قصر البارون خرج من السجن بعد 50 عاما، جريدة الاتحاد، مارس، 2005.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مصر ، بيئة ومدينة ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، سياسات عامة ، تحقيقات ، البرلمان ، سلطات إدارية ، مؤسسات إعلامية ، قرارات إدارية ، الحق في السكن ، أملاك عامة ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني