البطاقة التمويلية… بطاقة حمراء لبديهيات الحقوق


2021-09-14    |   

البطاقة التمويلية… بطاقة حمراء لبديهيات الحقوق
رسم رائد شرف

 يدور النقاش اليوم حول مشروع البطاقة المالية، فتتبناه كل القوى السياسيّة وكأنّه حلٌّ للأزمة. فحتى النقاش حول إصلاحات كانت موضوع جدل في السابق أصبح غائباً (إصلاحات من قبيل التدقيق المالي ورفع السرية المصرفية وقوانين مكافحة الفساد وما إلى ذلك…). فتصوّر القوى السياسية اليوم بات لا يتعدّى تأمين بطاقة تمويليّة تخفّف شرّ رفع الدّعم عن المحروقات والغذاء والدواء. من ناحية أخرى، يغيب عن الجدل العام أي حديث عن الحق في الصحة وضمنا النفسية والسكن والعمل وبقية الحقوق البديهية لأي مواطن. وكأنّ الحديث عنها أصبح من باب “ثقالة الدم”.

وإذ أقرّت حكومة حسّان دياب مرة جديدة في 6 آب، بأنّ الدعم على السلع “غير عادل وغير مُنصف كونه لا يميّز بين الطبقة الغنيّة وبين الفقراء وهم أكثر حاجة، ويعود بالفائدة بشكل رئيسي على التجار، ويفتح المجال أمام تهريب السلع المدعومة وتخزينها واحتكارها”(كما جاء حرفياً في مقدمة ورقة وضعتها حول معايير الإستفادة من البطاقة)، فهي اعتبرتْ ضمنيّاً أن مشروع البطاقة التمويلية وحده كافٍ لمعالجة تداعيات رفع الدعم، متجاهلةً بقية الحقوق الإجتماعية. ليبقى مشروع البطاقة وحده مستأثراً بالجدل العام.

وبالرغم من تقديمه كحلّ مثالي توافقت عليه كل القوى، فقد تأخرت دراسته من شباط العام الماضي إلى كانون الأول، وتأخّر إقراره في البرلمان إلى حزيران العام الحالي، وتأخّر تنفيذه ثلاثة أشهر إضافيّة. وفي 9 أيلول، أعلن وزيرا الشؤون الاجتماعية والاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال رمزي مشرفية وراوول نعمة في مؤتمر صحافي عن مهلة لتقديم طلبات تسجيل للاستفادة من البطاقة تمتدّ من 15 أيلول إلى 15 تشرين الأول، وذلك قبل التأكّد من قرار تمويلها ووفقاً لأي عملة ستصرف (بالليرة أو الدولار)، أو ربما يشير الأمر إلى توافق على ترك هذه القرارات للحكومة الجديدة التي تشكلت في 10 أيلول، وفي انتظار نيلها الثقة. وكان الرئيس نجيب ميقاتي طرح في مقدمة أجندة الحكومة العتيدة، التفاوض مع صندوق النقد الدولي لتأمين قروض تمويليّة.

عليه تطرح اليوم مجموعة أسئلة حول تأخر البطاقة وما يعوّل فعلياً عليها، وكذلك حول الدراسات التي بنيت على أساسها ومن يستفيد منها ومن يمولها ومن يديرها؟ وهل هي تتوجه للناخب أم للمستهلك؟ وما إلى ذلك…  ونحاول في سياق الإجابة على هذه الأسئلة أن نطرح مجموعة مسائل طمسها النقاش الدائر حول البطاقة.

 

البطاقة حلّ ترقيعي لفشل الحلول الترقيعية

كما كانت الهندسات الماليّة في 2017 حلاً ترقيعياً لأزمة شح الدولار، كذلك كان تعميم مصرف لبنان المتعلق بالدعم على المحروقات والقمح والأدوية في 1 تشرين الأوّل 2019، ثم دعم وزارة الاقتصاد عبر سلّة غذائيّة في حزيران 2020. وقد ميّزت القرارات الثلاثة نوعا محددا من التجار ومن المستهلكين. فاستفاد تجار المال ومستوردو المحروقات والأغذية واستفاد معهم أصحاب الودائع الكبيرة (من خلال الإبقاء على سعر فائدة مرتفع) ومن يستهلكون البنزين بكثرة (أي الطبقات المتوسطة والغنيّة) من هذه القرارات. كما سووٍيَ ما بين مستهلكي الأغذية الفاخرة وبقية المستهلكين. وإذ أقرت قوى السلطة والحكومات المتعاقبة بعدم صوابيّة هذه القرارات، فإنّ الضرر قد وقع على الطبقات المسحوقة مرتين: مرّة بعدم استفادتهم من قرارات الدعم الثلاثة، ومرّة بهدر موارد الخزانة والاقتصاد من العملات الصعبة. أي بمعنى آخر، أتت الحلول الترقيعيّة الثلاثة على حساب أموال اللبنانيين العامة والخاصة، ولكن وقعها كان أكبر على الطبقات الفقيرة تحديداً.

أما الحديث الدائر اليوم حول البطاقة التموينية أو التمويليّة فقد باشرته الحكومة المعينة في شباط 2020. وكانت النقاشات حولها سابقة على تطبيق الدعم من خلال السلّة الغذائية لكن تأخّر التخطيط لها وكذلك تنفيذها. ثم تجدّد الحديث في أيلول الماضي بعد تصريح لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة قال فيه أنّه “بمجرّد وصولنا إلى الاحتياطي الإلزامي، أيّ عتبة أموال المودعين في الاحتياطي، سنضطر لوقف الدعم”. كان الحديث عن البطاقة كحل ترقيعي جديد بديل عن الدعم. (كان المبلغ المصرح عنه حينذاك من الأموال المتبقية 19.5 مليار دولار، وقد استنزفنا أكثر من 4 مليارات منذ نحو سنة وحتى اليوم).

في كانون الأول 2020، أعدّ البنك الدولي مذكّرة حول ترشيد الدّعم بناء على طلب الحكومة اللبنانية. اعتبرتْ المذكرة أن السؤال الحقيقي فيما يتعلق بدعم مصرف لبنان بالعملات الأجنبية لواردات السلع الضرورية والأساسية هو متى وكيف يتم إزالته، وليس ما إذا كان سيتمّ. توضح هذه المذكرة أنه “كلما تم استبدال الدعم بشكل أسرع بنظام تعويضات أوفر وأكثر فاعلية، كان ذلك أفضل للاقتصاد ولرفاهية الناس. وذلك لأن الدعم الحالي للعملات الأجنبية مشوه ومكلف (يكلف حوالي 287 مليون دولار أمريكي في الشهر) ورجعي (أي يفيد المستهلكين الأكثر ثراءً)”. وتحدثت المذكرة عن إلغاء الدعم وإمكانية استبداله ببرنامج أكثر فعالية وكفاءة لصالح الفقراء من شأنه أن يحسن ميزان المدفوعات في لبنان، ويطيل بشكل هادف الوقت المستنفد لاحتياطيات مصرف لبنان المتبقية. اقترحت بالتالي برنامج تحويل نقدي واسع النطاق كأحد هذه الخيارات، و”الذي يجب أن يكون مطبقًا قبل إلغاء الدعم”. ولكنها أضافت أنّ ذلك لا يعدو كونه “تصحيحا قصير الأجل”. لأن علاج الأزمة يحتاج إلى “حزمة إصلاح شاملة تتوافق مع إطار اقتصادي كلي موثوق به يمنع البلاد من نفاد احتياطياتها والدخول في حالة من الفوضى”.

 

دراسة مشروع البطاقة وإقرارها في البرلمان بعد عام ونصف

على إثر تلك المذكرة، بدأت الحكومة بدراسة مشروع البطاقة. ولم يبدأ ذلك إلّا بعدما أصبح رفع الدعم عن المحروقات والغذاء والدواء أمراً واقعاً، دون أي ارتقاب لخطورة ما قد ينتج عنه. وأصبحتْ مسألتا وضع خطة إقتصاديّة شاملة وموضوع “الإصلاحات” خارج اهتمامات الحكومة وقوى السلطة بعدما استهلك في النقاشات الشعبوية (بخاصة ما يتعلق باسترداد الأموال المنهوبة، وبالتدقيق الجنائي والكابيتال كونترول)… واقتصرت تحضيرات إدارة الأزمة على دراسات مبتورة لإدارة مشروع البطاقة التمويلية. وفي تلك الفترة بدأت جميع القوى السياسية تتملّص من سياسة الدعم، وتراوحت مواقفها بين من يطالب برفع فوري ومن طالب برفع تدريجي للدعم. حتّى أن وزير الاقتصاد راوول نعمة استدرك التطورات، وانتقد خطته السابقة وأقرّ أن الأغنياء هم أكثر من استفادوا من سياسة الدعم، وقال أن 6% من الدعم المخصّص للوقود الذي يُستعمل في النقل يذهب إلى الفقراء، مقابل 55% يستفيد منه الأغنياء. وقدّم مشروع البطاقة على أنه بديل لسياسة الدعم الفاشلة.

في 21 كانون الأول، أرسل مدير عام مجلس الوزراء محمود مكيّة إلى مجلس النوّاب نسخة عن تصوّر أوّلي للحكومة لما أسماه “ترشيد الدعم” رفضها رئيس مجلس النواب بحجة عدم وضوحها وتعدد الخيارات المطروحة فيها. وفي بداية شباط العام الحالي، عقدتْ لجنة الاقتصاد​ والتجارة و​الصناعة​ والتخطيط اجتماعات ناقشتْ خلالها المسائل المتعلقة بالبطاقة التموينية، وبدأت لجنة وزاريّة بموازاتها تناقش الأمر نفسه. وفي أيار الماضي، بدأت مظاهر وقف الدعم من خلال رسائل وجّهها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى الوزراء المعنيين. جرى الحديث حول أن الموافقات ستمنح بشكل انتقائي. ونقل مقال في “الأخبار” أن المدير العام لرئاسة الجمهورية أنطوان شقير، قال لرئيس الحكومة حسان دياب أنّ رئاسة الجمهورية تعتقد أنّه يُمكن إصدار موافقة استثنائية على مشروع ترشيد الدعم شرط نيله موافقة من كلّ الكتل السياسية. وفي 26 أيار، وقّع رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، المرسوم القاضي بإحالة مشروع قانون معجّل إلى ​مجلس النواب​، يرمي إلى إقرار ​البطاقة التمويلية​ وفتح اعتماد إضافي استثنائي لتمويلها. وخلال مقابلة مع برنامج 20\30 على “ال بي سي اي” في 24 أيار، تحدث وزير المالية غازي وزني عن تمويل البطاقة قال أنهم وضعوا في المشروع عبارة “فتح إعتماد”، والإعتماد هو بالدولار، 137 دولار لكل أسرة.  وقال أنّ إجمالي كلفة التمويل هي مليار و235 مليون دولار خلال عام ل750 ألف أسرة.

في نهاية حزيران، صادق مجلس النواب على تخصيص بطاقة تمويلية للأسر الأكثر فقراً في خطوة تتزامن مع رفع الدعم. ولكنّ الأرقام تقلصت، فقدّرت الحكومة كلفة البطاقة التمويلية بـ556 مليون دولار، على أن يتم تمويل 300 مليون منها عبر قروض من البنك الدولي فيما يتكفل المصرف المركزي بالمبلغ المتبقي. واستثنيت العائلات التي تستفيد من برامج مساعدات أخرى (تقدّر بنحو 250 ألف عائلة) فأصبح عدد العائلات المستهدفة نحو نصف مليون عائلة. وتراوح المبلغ في البطاقة بين 93,3 دولارا و126 دولارا، أي تراجعت حصة الفرد من 18 إلى 15 دولاراً. وقال رئيس مجلس النواب نبيه بري خلال الجلسة أن “كيفية توزيع الأعباء وتمويل البطاقة وآلياتها وكيفية التسديد ستبقى على عاتق الحكومة”. وكان صندوق النقد الدولي صرّح في 4 آب، أنّ “لبنان سيحصل على ما قيمتُه 860 مليون دولار من احتياطيات حقوق السحب الخاصة”. على أن يذهب المبلغ إلى تعزيز الاحتياطيات ودعم العديد من احتياجات الشعب الطارئة.

 

إدارة البطاقة موضوع اعتباطي وانتخابي؟

إقرار مشروع البطاقة تشريعياً في حزيران، لا يعني إقراره على المستوى الإداري والتنفيذي. في الواقع، انتظرْنا شهريْن إضافييْن، حتى أنهتْ لجنة برئاسة رئيس الحكومة السابقة حسّان دياب في 6 آب، مهامها في وضع المعايير وآلية تطبيق البطاقة التمويلية. وكان النقاش في اللجنة يدور حول معايير تحديد المستفيدين، وكيفية الدفع (بالليرة أو بالدولار، نقدا أو عن طريق الدفع بالبطاقة). وجرى نقاشٌ واسع في الإعلام حول صوابيّة هذه المعايير وعدالتها. فمثلاً ماذا لو كانت الأسرة لديها مجموع ودائع مصرفية تتجاوز 10 آلاف دولار -هي بالتالي مستثناة من البطاقة-، ولكن فلنفترض أنّ عليها الكثير من الديون للسكن أو لمصلحة تجارية ما وما شابه، فكيف يكون المعيار عادلاً؟ وماذا لو كانت “الأسرة التي يفوق دخلها السنوي الإجمالي  10 آلاف دولار” -وهي مستثناة بدورها- يعمل أفرادها عملاً موسمياً ولا ضمان لديهم أو لديهم نفقات صحيّة مرتفعة، وماذا لو أنهم لا يملكون عقارات أو سيارات؟

بالمختصر، فإنّ المعايير التي تم وضعها استخدمت مؤشرات حسابية مالية شبه اعتباطيّة، وبغياب أي إحصاءات أو معلومات واضحة عن الواقع المعيشي للمقيمين بكل أبعاده. من ناحية أخرى لفتت بعض التقارير الاعلامية إلى أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يرفض دفع قيمة البطاقة بالدولار، وهو ما يعرقل الاستفادة من البطاقة أو يقلل من قيمتها. ويبدو هذا الأمر متروكا للنزاعات السياسيّة وارتباطته. بالتالي ومنذ البداية يتم تسييس البطاقة التمويلية، وتصبح المخاوف بشأن استهدافها للناخبين، لا للمستهلكين، أكثر واقعيّةً. وفي 11 آب 2021، طلبت المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء من الوزارات والإدارات والجهات المهنية تسمية ممثلين لهم في اللجنة التقنية، والتي ستتولى الإشراف والرقابة على تنفيذ البرنامج، وتلقي الشكاوى وإدارتها ومعالجتها مع الجهات المعنية.

وشرح وزير الاقتصاد السابق راوول نعمة خلال مؤتمر صحافي في 9 أيلول، أنّ رب العائلة يملأ الاستمارة، وأنّه المهم جدا تضمينها “معلومات صحيحة. ما يعني ومن ضمن القانون يرفع السرية المصرفية عن حساباته”. وكان ورد في نص القانون الصادر عن مجلس النواب، المادة 6، ما حرفيته “تعتبر السرية المصرفية مرفوعة حكماً عن كل مقدم طلب للاستفادة من البطاقة التمويليّة لكافة العملاء لدى المصارف والذين لديهم حسابات دائنة وتتوافر فيهم شروط  الإستفادة منها”. فكيف يكون من اليسير هكذا استثناء الطبقات الفقيرة من قانون السرية المصرفية، فيما يستخدم القانون نفسه حجة لمنع التدقيق المالي، ولإفلات المعتدين على المال العام من المحاسبة؟

أمّا فيما يخص الإستنسابية في الإفادة من البطاقة، فمن الواضح غياب الرقابة لمجرد رفض القيام بمسح دقيق وشامل للسكان ولأوضاعهم المعيشية. وكان أكّد الوزير مشرفيّة بدوره في المؤتمر أنّ البطاقة ليست بطاقة “انتخابية”، وتحدّث عن نظام لتقديم وتلقّي الشكاوى، موضحاً أنه يمكن اللجوء إليه “اذا أردتم مساعدة، وتبلغوا أيضا إذا وجدتم أحدا غيركم أخذ البطاقة وهو لا يستحق”. أي حوّلت الحكومة مسؤولية الرقابة من الدولة إلى المواطن بعد استعصاء هذه المهمة عليها.

ويُشار إلى أنّه يوجد برامج أخرى غير البطاقة كانت اقترحتّها وزارة الشؤون الاجتماعية. وكان الوزير مشرفيّة كرّر في مؤتمر 9 أيلول الحديث عن برنامجين، الأوّل متعلق بجائحة كوفيد، عبارة عن قرض مطروح من البنك الدولي بقيمة 246 مليون دولار يستفيد منه 160 ألف أسرة. والثاني “البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقرا”، يتم العمل عليه منذ عام 2011 على إثر أزمة نزوح اللاجئين من سوريا، ممول من الاتّحاد الأوروبي ويستفيد منه 36210 أسرة. عليه، تعزّز الخلافات التحاصصية مؤخراً حول وزارة الشؤون أكثر الهواجس من أهداف إنتخابيّة من وراء هذه المشاريع.

وبالعودة إلى البطاقة، رغم أحاديث إعلامية أنها ستؤول إلى التنفيذ في أواخر أيلول، فقد أشارت بعض المقالات (“جريدة الأخبار” 11 آب، “جريدة النهار” في 12 آب) إلى أنّ آلية التنفيذ تحتاج ثلاثة أشهر على الأقل. أي أنّ فترة التنفيذ ستكون على بُعد أشهر قليلة من الانتخابات النيابية المقبلة. وشكّك آخرون في إمكانيّة تطبيق البطاقة ما لم تتوافق وأهداف أحزاب السلطة الإنتخابية. ويبدو من خلال بعض المؤشرات، كالتراجع الطفيف بسعر الصرف وإعادة الحديث عن بعض الإصلاحات (ومنها ما يتعلق الكهرباء والبنزين) أنّ البطاقة لن تكون الوسيلة الوحيدة المستخدمة لأغراض انتخابيّة.

 

البطاقة كمخدّر في الوقت الضائع

بعد إعلان المصرف المركزي توقفه عن الدعم في 11 آب، جرى انتقاد الحاكم لعدم انتظاره تطبيق البطاقة. ولم تتمكن الحكومة من تأمين تمويل البطاقة وترك الناس لمصيرهم. النائب ياسين جابر تحدّث في 20 آب ل”الجمهورية” عن إمكانيّة تمويل البطاقة عبر الاقتراض من مصرف لبنان، على ان يُعاد تسديده عندما يتوفر التمويل. وبدا واضحاً خلال الجلسة النيابيّة في 20 آب، أن الجميع طرح الأمل بالبطاقة التي لم تنفذ بعد، كتعويض عن معاناة الناس المعيشية الناتجة عن أزمة المحروقات والكهرباء والأزمات التي أضيفت إلى الواقع المأزوم بعد رفع الدعم. فقال النائب جبران باسيل في خطابه في المجلس: “نحن مع رفع الدعم، لذلك قدمنا قانون البطاقة التمويلية”. ودعا النائب هادي أبو الحسن إلى المبادرة، “اليوم قبل الغد، فلتباشر الحكومة بالخطوات العملية للبطاقة التمويلية بالتعاون مع البنك الدولي وبإشرافه كي لا تتحول البطاقة التمويلية إلى بطاقة انتخابية، على أن يبدأ العمل بها خلال 45 يوماً”. وتناسى أبو الحسن أنّ إقرارها بعد هذه المدة، هو أحد مقومات تحوّلها إلى بطاقة انتخابيّة. فبذلك، وبدلاً أن يؤول “الإنجاز الترقيعي” لحكومة تبرّت جميع الأطراف منها، سيؤول الإنجاز إعلامياً إلى حكومة “حي على خير العمل”.

بدوره اعتبر النائب سمير الجسر أنّ ” تنفيذ البطاقة التمويلية وتحرير السوق هو الحل”. بينما ختم بري الجلسة، قال “الحل في تشكيل حكومة جديدة في أسرع وقت والبطاقة التمويلية وتحرير السوق، صدق”. ولاقى رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع سائر الآراء إذ دعا في تغريدة إلى “تحرير الأسعار فورا وإقرار البطاقة التمويلية”.

ارتفعت الآمال المعلقة على البطاقة إذاً. نقرأ مطلع مقال في مجلّة الأفكار يقول “مع بداية كل نهار ونهايته لا حديث في لبنان حالياً إلا عن البطاقة التمويلية”. ويضيف المقال “صحيح أن الموعد المعلن لن يتجاوز شهر أيلول المقبل، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة تحضيرات وإجراءات لم تنجز بعد بشكل كامل”. ووصف أحد المواقع مشروع البطاقة ب”طبخة بحص“. كان التشكيك واسعاً على المواقع وفي الإعلام بالبطاقة. و”ما زاد الطين بلة” مؤخراً، إعلان حاكم مصرف لبنان مجدداً عن عدم فتح اعتمادات جديدة بالدولار. بمعنى آخر، وبصيغة أخرى، تم رفع الدعم دون أي إجراء وقائي يرتقب مفاعيله، حتى لو كان على شاكلة “بطاقة تمويلية” بأهداف انتخابيّة.

 

كيف تعالج البطاقة المروحة التالية من الأزمات؟

يتقدم مشروع البطاقة التمويلية اليوم ليحيّد الناس عن التفكير ببديهيات حقوقية، إذ أنّ التصوير بأن نصف المجتمع بات يعوّل على هذه البطاقة، في معالجة كافة أزماته يعني أولاً أن هذا مجتمع مستنزف الخيارات، لا حول له ولا قوة. وتصوير المجتمع بهذه الطريقة عبر سياسة حكومية وبرلمانية تسويفية وتضليلية هو في سبيل التعمية عن كل ارتكابات هؤلاء بحق المجتمع، سواء في موقعهم في الحكومة أو في المجلس النيابي. وعليه، فإنّ آثار الأزمات الماضية لم تُمح ولم يقم أحد بمعالجتها، ووجود تلك الأزمات هو الذي يوجب طرحها على الجدل العام، لا خطابات قوى السلطة. فإنّ تقلب الأزمات بسرعة شهرا بعد شهر وأسبوعا بعد أسبوع كما تقلب أوراق كتاب، أدّى إلى تدهور وضع الناس المعيشي وحتى النفسي. وبإمكاننا القول أننا دخلنا مؤخراً في مفاعيل الshock doctrine “عقيدة الصدمة”، والتي تحاول من خلال تعريض الناس لضغط الأزمات المتتالية زعزعة مقومات وجودهم اليومي، وبالتالي إحباطهم وجعلهم يرضون بالقليل من الأمن المعيشي.

ومن المفيد تعداد بعض الأزمات التي لن تعالجها البطاقة. ومنها أزمة شحّ الدولار التي ظهرت معالمها قبل أيلول 2019، وسياسة دعم للمحروقات التي هددت احتياطات العملات الصعبة، وتدهور قيمة العملة وتعدد أسعار الصرف وإفلاس المصارف، وتراجع القيمة الشرائية، والاعتداءات في مناسبات مختلفة على المتظاهرين، وتهريب الأموال إلى الخارج ثم عرقلة القضاء في قضية تهريب الأموال. ولا ننسى الأزمات الطبية والصحية بكافة جوانبها وتفجير المرفأ وتفجير عكار، وصولا إلى أزمات التخزين والاحتكار  وطوابير الذل وتعطل المرافق العامة وتعطّل الإنترنت. وفي الصورة الكبيرة مشهد من الفقر والبطالة والفوضى.

كيف تعالج البطاقة كل هذه الأزمات وتداعياتها؟ وهل من إصلاحات أخرى موعودة بحدها الأدنى، قادرة أن تقلب موازين القوى من طرف المافيات إلى طرف مؤسسات الدولة وقوانينها؟

 

 

 

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

حقوق المستهلك ، لبنان ، مقالات ، الحق في الصحة والتعليم ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني