الإعلام و”عصابة التيكتوكرز”: سبق صحافي على حساب المهنة والقُصّر


2024-05-13    |   

الإعلام و”عصابة التيكتوكرز”: سبق صحافي على حساب المهنة والقُصّر
رسم رائد شرف

لم نعد نشاهد أو نقرأ الأخبار، ولم نعد بسببها نخرج إلى الشارع، ابني إذا كان قد اقترف جرمًا فليُحاسب، ولكن لا مبرر لجلده على الشاشات وهو لا يتجاوز 16 عامًا والتحقيقات لم تنته بعد، إذا خرج لاحقًا بريئًا، من يُعيد كرامته وكرامتنا، الناس لا تنسى”، يقول والد أحد القاصرين الثلاثة الموقوفين في قضيّة ما بات يُعرف بـ”عصابة التيكتوكرز” التي ادّعت فيها النيابة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان بحقّ 17 شخصًا، بجرائم الاغتصاب والتحرّش وتبييض الأموال والاتجار بالبشر ومحاولة القتل ومخالفة قانون المعاملات الالكترونية، علمًا أنّ بين الضحايا والمدّعى عليهم قصّر.

ويعبّر الوالد عن استيائه من تعاطي بعض وسائل الإعلام مع القضيّة من دون التنبّه إلى أنّها حسّاسة وتتعلّق في جانب منها بأطفال. والد آخر يتحدّث عن مشاعر غضب وعجز تنتابه في كلّ مرّة يُرسل له أحدهم خبرًا تناقلته مواقع إخباريّة عن ابنه مع أحكام مبرمة سبقت القضاء، ويتحدّث عن خيبة أمل مِن وصف إحدى الإعلاميات لـ “مَن تقدّمتُ بشكوى ضدّه لاعتدائه على ابني، بالجندي المجهول”،  ليضيف “منيح إنّه إبني ما عم يشوف تلفزيون، لو كان يُشاهد لانتحر ربما”.

وتخبرنا عائلة أحد القاصرين أنّ الأمر لا يتعلّق فقط بأحكام يصدرها بعض الصحافيين على القاصرين أو بنقل صورهم وأسمائهم كاملة، بل أيضًا بتبنّي أخبار غير دقيقة يقولون إنّها “تسريبات من التحقيقات”. “هناك صحافي ذكر اسم ابننا على إحدى الشاشات وتفاصيل عنه قال إنّها تسريبات، وهذه التفاصيل غير حقيقيّة وليست تسريبات أصلًا، تواصلنا معه وطلبنا منه تخفيف الحماسة والشعبوية على حساب أطفال” تقول عائلة أحد الموقوفين.

ينقل ما تعبّر عنه عائلات القاصرين، صورة عن تعاطي بعض المؤسّسات الإعلاميّة وبعض الصحافيين مع قضيّة “عصابة التيكتوكرز”. صورة عكست جهلًا أو تجاهلًا من جانب بعض هؤلاء للطرق الأفضل مهنيًا وأخلاقيًا وقانونيًا للتعاطي مع قضايا تضمّ قاصرين من جهة وأشخاصًا لا يزالون يخضعون للتحقيق من جهة أخرى مع ما يترافق ذلك من انتشار للأخبار غير الموثوقة والأقاويل والشائعات. كل ذلك من أجل تحقيق سبق صحافي على حساب قاصرين ذكرت أسماؤهم الثلاثية وعرضت صورهم مع تفاصيل عنهم في انتهاك لأخلاقيات المهنة وأيضًا للقانون الذي يحمي خصوصية القصّر وسريّة التحقيق، وعلى حساب مبدأ قرينة البراءة إذ تحوّل بعض الصحافيين إلى قضاة يتّهمون ويبرّئون أشخاصًا على هواهم. هذا فضلًا عن نقل أخبار من دون التأكّد من مصادرها أو التفكير في جدوى نشرها وفي المعلومة التي تقدّمها في هذا الملف مع ما يعنيه ذلك من المساهمة في التضليل وتعزيز رواية ما على حساب أخرى. هذا من دون أن ننسى استضافة مشتبه فيهم على الهواء وإعطاءهم منبرًا لعرض رواياتهم.

والسؤال الذي يكاد يتكرّر عند كلّ متابعة إعلاميّة لملف قضائي، يتعلّق بمدى مهنيّة قراءة محاضر التحقيق من صحافيين على الهواء أو نشرها في مقالات مكتوبة وكأنّه أمر طبيعيّ رغم أنّه يعدّ جريمة إفشاء لسريّة التحقيقات، بل أكثر من ذلك كأنّه واجب على الصحافي ويدخل ضمن عمله في إطار إعلام الجمهور بالمعطيات. والأخطر أنّ هذه المعطيات تُقدّم كحقائق في وقت لا أحد يمكنه التأكد من أنّ الإفادات التي وردت في المحاضر لم تؤخذ تحت الضغط. ومن دون التفكير بأنّ نقلها قد يسمح بالتشهير ونقل أمور خاصّة عن أشخاص لا يزالون في دائرة الاشتباه أو قيد التحقيق.

لا يمكن تعميم هذا التعاطي على كافة وسائل الإعلام، فمن خلال الرّصد ومعاينة التغطيات الإعلامية تبيّن أنّ هذا التعاطي ينطبق على جزء من الإعلام المرئي وعلى بعض المواقع الإخباريّة بشكل أكبر من الصحف مثلًا، مع تسجيل تمايز واضح للمؤسّسة اللبنانيّة للإرسال إذ اعتمدت على ما يبدو سياسة تحريريّة تقوم على عدم عرض صورة أو اسم أي شخص من الموقوفين في القضية أو تحوم حولهم الشبهات، وهذا ربما ما يفسّر تغطيتها للملف مع صحافييها ضمن الاستديو وليس من خلال تقارير تحتاج إلى مواد بصريّة.

ومع استفحال الانتهاكات الإعلامية والقانونية في هذا الملف، حثّ تجمّع نقابة الصحافة البديلة في بيان الصحافيين والصحافيات “على اتباع أعلى درجات المهنية في تغطياتهم والالتزام بالمعايير والأخلاقيات الإعلامية، لجهة عدم الاعتماد على مصدر واحد ومقاطعة المصادر ومشاركة آراء الاختصاصيين”. كما ناشد التجمّع “عدم نشر وتداول أي أسماء وصور وإفادات قبل انتهاء التحقيقات ولاسيما المتعلقة بالقاصرين، مع عدم إغفال قرينة البراءة، وعدم استباق التحقيقات بالأحكام العلنية سواء بالإدانة أو التبرئة، والابتعاد عن التحليلات الاستباقية المبنية على معلومات منقوصة ومتناقضة والتركيز أكثر في هذه المرحلة على نقل المعلومات بعد التأكد منها”. كذلك عبّر التجمع عن استغرابه “لاستمرار أجهزة التحقيق بالعمل وفق أسلوب التسريبات المجتزأة في هذا الملف وسواه”.

رابعة الزيّات وهادي الأمين خلال حلقة “فوق 18”

نشر صور القاصرين وأسمائهم كاملة

في حلقة الأسبوع الماضي من برنامج “فوق الـ 18” الذي تعرضه قناة “الجديد” حلقة وصفتها بـ “الاستثنائية” (وكذلك كانت)، تذكّر الإعلاميّة رابعة الزيّات أكثر من مرّة بضرورة مراعاة وجود قاصرين في القضيّة. وتخبرنا بامتناعها عن عرض صور ومقاطع فيديو لهذه الأسباب، ولكنّها لا تُمانع أن تعرض على الهواء صورة دعوى تقدّم بها قاصران يرد فيها اسماهما واضحين، بالإضافة إلى ذكر الصحافي هادي الأمين، الذي شارك الزيّات إدارة الحلقة وتقديمها، اسم قاصر ثالث في معرض ردّه على سؤال لها عن “معلومات عن أطفال تمّ الإتجار فيهم”.

بداية يعتبر نشر صور وهويّات قاصرين يخضعون للتحقيق أو المحاكمة جريمة بموجب المادة 48 من قانون حماية الأحداث التي تحظر “نشر صورة الحدث ونشر وقائع التحقيق والمحاكمة أو ملخصها في الكتب والصحف والسينما، وأية وسيلة إعلامية أخرى”. وبحسب المادة “يمكن نشر الحكم النهائي على أن لا يذكر من إسم المدعى عليه وكنيته ولقبه إلا الأحرف الأولى”. أما عقوبة مخالفة هذه الأحكام فهي السجن من ثلاثة أشهر إلى سنة وغرامة من مليون إلى خمسة ملايين ليرة أو إحدى هاتين العقوبتين.

ولكن الأمر لا يقف عند نشر صور وأسماء القصّر، فالأمين لم يكتف بذكر اسم القاصر الكامل بل أكمل ليقول “ورد أنّه ذهب إلى دبي وقبض مبلغ 75 ألف دولار، ما بعرف إذا قبضا كاش … عمره تحت الـ 18 سنة، ضحية ويعمل مع العصابة يؤمن معهم أولاد”. فهو ذكر اسمه وحسم أنّه ضحيّة وعضو في العصابة وذكر معلومات عنه من دون تكليف نفسه عناء ذكر مصدرها، لتستدرك الزيّات الأمر وتُضيف بما يُشبه التبرير “كلّن ضحايا”.

أسماء هؤلاء القاصرين وردت أيضًا في مواد إعلاميّة أخرى منها ما ذكر الاسم الأوّل والجنسية مع إيراد صورة مغبّشة كما في حلقة الصحافي فراس حاطوم على موقع “تفاصيل” عرضت في 4 أيار الجاري، ومنها ما أورد أسماء القصّر كاملة وجنسياتهم مع مقطع فيديو يظهرون فيه بصورة واضحة تمامًا كما في تقرير على “قناة الجديد” عُرض خلال نشرة الأخبار في 2 أيار الجاري. وعلى الرغم من إشارة معدّة التقرير عند التعريف عن اثنين من الموقوفين بأنّهما قاصران لم تتنبّه إلى أهمّية إخفاء وجهيهما ووجه قاصرين آخرين صودف وجودهما في أحد مقاطع الفيديو وهما غير موقوفين أصلًا. وعرض هذه الأسماء جاء بعد عبارة “الجديد حصلت على كامل أسماء الموقوفين لدى مكتب جرائم المعلوماتيّة” أي في إطار سبق صحافي نقلته عنها صحيفة نداء الوطن مثلًا.

يُشار في موضوع حماية القاصرين، إلى أنّه خلال الحلقة الثانية التي عرضها حاطوم على موقع “تفاصيل” في 8 أيار حول موضوع “عصابة التيكتوكرز”، عرضت مقابلات مع قاصرين اثنين قال إنّهما “قاصران كانا شهود عيان على ما كان يحصل” في إحدى الشقق التي يُستدرج إليها القاصرون. وأشارت معدّة التقرير ملاك قطيش إلى أنّه كان من الضروري إخفاء هويّة وصورة القاصرَين، وهذا مع حصل فعلًا، ولكنّ يبدو أنّ ملاك وحاطوم لم ينتبها إلى أنّ الشاهدين الضحيتين ذكرا أسماء قاصرين موقوفين مع تفاصيل عنهما. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّه على الرغم من عدم إمكانيّة التأكّد من صحة هذه التفاصيل من المتوقّع أن يتمّ تناقلها على أنّها حقائق وسيتمّ استغلالها في إطار التشهير بالقاصر الذي ذكر اسمه ولاسيّما أنّ هذه القضية تحظى باهتمام كبير من قبل الناس. وهذا ما أكّدته عائلة أحدهم لـ “المفكرة”، سائلة إن كان من حقّ أي صحافي عرض هذه الشهادات من دون الإشارة إلى أنّها قد لا تكون صحيحة أو من دون الاستماع إلى الطرف الآخر. وأكّدت عائلة هذه الضحيّة أنّ هذه المعلومات تنتشر بين الناس على أنّها حقائق تُستخدم دائمًا من قبل أشخاص آخرين على وسائل التواصل الاجتماعي للتشهير.

إفشاء سرّية التحقيق

عندما بدأ الصحافي رضوان مرتضى بتسميّة المدّعى عليهم في قضيّة عصابة التيكتوكرز، في حلقة الخميس الماضي (9 أيار) من برنامج “صار الوقت“، قاطعه الإعلامي مارسيل غانم سائلًا إيّاه إن كان من حقّه ذكر أسماء هؤلاء حتى لو تمّت إدانتهم؟ ليجيبه رضوان: “إذا بدّك تحكي بالقانون أكيد ما بحقلنا، المتهم بريء حتى تثبت إدانته ولكن أنا أقول أسماءهم لأنني شاهدت داخل التحقيقات، في شي إله علاقة بفيديوهات يثبت قيامهم بأفعال” فيعود غانم ويقاطعه “ألا يجب أن تكون التحقيقات سريّة؟” ليردّ مرتضى بدوره بأنّ التحقيقات “أكيد سرية. ولكن هيدا جزء من شغلنا بالصحافة”.

ولكن مرتضى بإفشائه معلومات من التحقيق يضرب عرض الحائط القوانين التي تتحدّث عن سريّة التحقيقات ولا سيّما أحكام المادة 53 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تنصّ بوضوح على أنْ “يبقى التحقيق سريًا ما لم تحلّ الدعوى على قضاء الحكم باستثناء ما يتعلق بالقرار الظني”. وهو ما ينطبق على الإعلام كما على القيّمين على التحقيقات (من قضاة نيابة عامة ومحققي الأمن الداخلي) الذين ساهموا في تسريب التحقيق. كما أنّ مرتضى لا يقيم أي اعتبار لقرينة البراءة والأذى الذي يمكن أن يلحقه التسريب بالتحقيقات نفسها وبأشخاص قد تثبت براءتهم وبعائلاتهم. ويكمن الخطر في تعامل مرتضى مع المحاضر التي يحصل عليها وكأنّها حقيقة مطلقة مع غضّ الطرف عن إمكانيّة أن يكون هذا التسريب لأهداف معيّنة كما حصل في قضيّة زيّاد عيتاني، أو أن تكون الإفادات التي يرويها كحقائق، قد اتُخذت تحت ضغوطات معيّنة ما يجعلها مُضلّلة. وهو، أي مرتضى نفسه، قال في الحلقة ذاتها إنّ “هناك ثغرات تحصل في القضاء حاليًا منها منع المحامين من الحضور” وأنّ المطلوب ألّا “يتركّب ملفات”.

 وانطلاقًا من اعتباره الإفادات حقيقة مطلقة، يقول مرتضى في التقرير الأوّل الذي تحدث فيه عن عصابة التيكتوكرز عبر قناة “المحطّة” في الأوّل من أيار الجاري إنّه سينشر أسماء المعتدين والمتورطين الثلاثية وأرقام هواتفهم وحساباتهم الشخصية وصورهم، وهذا بالفعل ما بدأ فعله في الحلقة التالية (لم ينشر صورًا) مع حرصه على عدم ذكر اسم أيّ قاصر.

عدد كبير من الصحافيين أورد بعض التسريبات في تقارير مكتوبة أو مرئيّة فالأمر لا يقتصر على مرتضى بطبيعة الحال، ولكنّه يكاد يكون الوحيد الذي يقرأ المحاضر شبه كاملة كما فعل في التقرير الثاني الذي تناول فيه موضوع العصابة في 7 أيار، كما أنّ ما ينشره يتحوّل في الكثير من الأحيان إلى مصدر أخبار لعدد من المواقع الإخباريّة، ما يساهم أكثر بتسويق  ما ينقله عن التحقيقات كحقيقة مطلقة.

وفي هذا الإطار كان تجمّع نقابة الصحافة البديلة اعتبر أنّ الأجهزة الأمنية والقضائية تتحمّل مسؤولية نقل التحقيقات والأحكام إلى الفضاء الإلكتروني، وبالتالي هزّ ثقة الرأي العام والمواطنين والضحايا في التحقيقات في قضية على هذه الدرجة من الخطورة.

ولا يمكن أن نتحدّث عن متابعة الإعلام للقضيّة من دون أن نُشير إلى أنّ بعض الصحافيين وربما من غير قصد ربطوا بطريقة غير مباشرة  بين الميول الجنسيّة والتحرّش والاغتصاب، فمثلًا ترد على لسان حاطوم في إحدى الحلقتين لدى حديثه عن شخص ذكر اسمه كرأس في العصابة: “لم يُنكر أنّه مزدوج الميول الجنسيّة لكنّه نفى أن يكون قد طلب من أي من القاصرين الذين كان يدعمهم (على تيكتوك) أي صور أو فيديوهات أو أن يكون قد التقى بأي منهم مسبقًا”.

وفي هذا السياق يمكن أن نُشير إلى مقال نُشر في صحيفة “اللواء” تحت عنوان “تراجع التعليم وتفلُّت الأخلاق”، جاء فيه على سبيل المثال: “تبيّن أنّ عوامل الشذوذ والجشع المالي كانت وراء أعمال هذه العصبة (عصابة التيكتوكرز)، التي لا يشكو أفرادها من فقر أو عوز، أو سوء الأحوال الإجتماعية، بل بينهم أصحاب مهن محترمة وميسورين، لم يتورعوا عن الانزلاق إلى هذه المهاوي الأخلاقية”.

صور القاصرين الموقوفين وقد موّهت وجوههم ضمن برنامج تفاصيل

قرينة البراءة ومقاطعة المعلومات

لعلّ غياب احترام قرينة البراءة ولهاث الصحافيين وراء السبق الصحافي على حساب دقّة المعلومة كان أكثر وضوحًا في موضوع الأخبار التي انتشرت حول توقيف أحد المحامين كمشتبه فيه بالقضيّة والتي نقلتها مواقع عدّة منها موقع “نداء الوطن”.

وكان تعاطي إم تي في” لافتًا في هذا الموضوع، ففي حين ذكرت في الخبر الأوّل عن الموضوع في 7 أيار توقيف محام من دون ذكر اسمه، عادت لتنفي الخبر في تقرير لرنيم إدريس خلال نشرة الأخبار في اليوم نفسه، من دون أن تحذف الخبر الأول الذي لا يزال موجودًا والذي نقلته عن “إم تي في” عدد من المواقع الإخباريّة. وأكثر من ذلك عادت “إم تي في” في اليوم التالي لتنشر خبرًا (لا يزال موجودًا) تحت عنوان “بالصورة: هذا هو المحامي الموقوف بقضية الـ”تيك توكرز” أوردت في متنه “بعدما أعلن بالأمس موقع “إم تي في” عن توقيف محامٍ في القضية، نكشف اليوم عن هويته مع صورته”، وطبعًا نقلت مواقع أخرى الخبر مع الصورة.

وليس بعيدًا، نشرت جريدة “المدن” الإلكترونيّة خبرًا تحت عنوان “قضية عصابة “التيك توك”: اعتقال محام وسائق.. والتحقيقات تتوسّع”. وجاء في مقدّمة الخبر “… ارتفع عدد الموقوفين في هذه القضية إلى تسعة متهمين، وذلك بعد توقيف أحد المحامين في نقابة الشمال إثر توجيه أصابع الاتهام نحوه”. وفي حين لم يتمّ تصحيح الخبر الذي لم يرد فيه اسم المحامي، عادت الجريدة وذكرت اسم المحامي كاملًا مع قولها: “وهو من المتهمين أيضًا بهذه القضية” في مادة لاحقة. ونقلت من إفادة أحد الضحايا أمام الأجهزة الأمنية أنّ المحامي كان متواجدًا داخل إحدى الشقق التي تعرّض فيها الضحية للاغتصاب، في مخالفة لسريّة التحقيقات ومن دون أن تخبرنا أقلّه أنّ المحامي غير موقوف وأنّ النيابة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان طلبت الإذن لملاحقته من مجلس نقابة المحامين في طرابلس.

وتطرح هذه الأمثلة الكثير من الأسئلة ولكنّ السؤال الأكثر إلحاحًا هو كيف يمكن الوثوق بمعلومات ينقلها صحافيون سبق ونقلوا أخبارًا خاطئة كان سهلًا التأكّد من صحتها كخبر توقيف المحامي حيث كان يكفي على سبيل المثال الاتصال بنقابة المحامين في الشمال.

ومن الأمور التي يمكن ملاحظتها في تعاطي الإعلام مع القضية اعتماد بعض الصحافيين على رواية واحدة وإيرادها كأنّها حقيقة من دون حتى الإشارة إلى أنّ هذه الرواية هي رواية طرف واحد أو طرح السؤال عن مصلحة هذا الطرف، وكان ذلك واضحًا تحديدًا في تعاطي بعض الإعلاميين مع أحد المشتبه فيهم المدعو ح. س. ولاسيّما قبل صدور بلاغ بحثٍ وتحرٍ ومذكرة إحضار في حقه بشبهة التورّط ضمن العصابة.

فعلى سبيل المثال يرد في التقرير الإخباري على قناة “الجديد”  في 2 أيار الجاري الذي أتينا على ذكره سابقًا أنّه عرض صور الموقوفين القاصرين، سؤال مفاده: “ولكنّ السؤال كيف كُشفت هذه العصابة” لتجيب معدّته: “الجندي المجهول وهو ح. س” (تذكر اسمه كاملًا)، مشيرة إلى أنّه مقرّب من أحد الضحايا الذي تقدّم بالشكوى ما أوصل بدوره إلى فك شيفرة هذه العصابة. لتعود وتختم التقرير بأنّ هذا الرجل تعرّض للتهديد بالقتل وتمّ التشهير به وبعائلته عندما رفض الانضمام إلى العصابة، ما بدا محاولة لإظهاره كضحيّة وبطل في الوقت نفسه.

العبارة نفسها أي “الجندي المجهول” استخدمت في متابعات صحافية أخرى، إذ نشر وعلى سبيل المثال أيضًا موقع “ليبانون ديبايت” مقالًا في 2 أيار قال فيه “أما الرواية التي تقشعر لها الأبدان، فيرويها “الجندي المجهول” الذي فجّر الفضيحة وهو ح. س. ويضع الموقع اسم الرجل كاملًا وينقل عنه قصّته التي “ساهمت في كشف العصابة” في ثمانية مقاطع، ومن دون أيّ تدخل من المحرّر أو الصحافي. ونُشير هنا إلى أنّه لم يكن واضحًا في متن المادة إن كان الموقع التقى ح. س. أو نقل عن مصدر آخر.

هذا “الجندي المجهول نفسه” كان ضيفًا في حلقة “فوق الـ 18” التي ذكرناها سابقًا، ولكن هذه المرّة بتسميات أخرى ومتنوّعة. فمرّة نرى الزيّات تدافع عن استضافته بقولها إنّ ضيفها الذي ورد اسمه في التحقيقات لا يزال غير محكوم وتقدّمه بـ “الشاهد المتّهم” ومرة تنفعل عليه وتقول “أنت الأساس” وبعدها يصفه الأمين بـ “الكاذب”.

اللهاث وراء السبق الصحافي

في حلقة “فوق الـ 18” أيضًا لم يكن ح. س. هو مالك الرواية إذ حاولت الزيّات والأمين مواجهته بأسئلة تُضعف روايته كشاهد في الملف ومحرّك أساسي له، ولو بطريقة رأى فيها الكثيرون أنّها أقرب إلى طريقة عنصر الأمن أو المحقق منها إلى طريقة الصحافي.

ورغم ما تقدّم، لا بدّ من السؤال عن الجدوى من استضافة الرجل وفتح الهواء له، لا سيّما أنّه أعاد سرد رواية كنّا قرأناها أو سمعنا أجزاء منها. كما أنّ ما ووجه به بمعظمه بات معروفًا فكان سبق لمرتضى أنّ “فيّشه” على حد تعبير الأخير أي طلب له النشرة لمعرفة مدى وجود ملاحقات في حقّه، كما سبق لحاطوم أنّ عرض مستندات من محادثات ومقاطع صوتية وضعته في خانة المشتبه فيهم.

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأمين نفسه اعتبر أنّ ح. س. ظهر على الهواء لأنّه “عندو غايات مع أشخاص” وبعدها استدرك موضحًا أنّ البرنامج لم يعطه الفرصة لتحقيق هذه الغايات إذ لم يعرض ما أرسله هذا الضيف من صور ومقاطع فيديو في إطار دفاعه عن نفسه، وإن كان أعطي “هوا كتير” على حد قول رابعة نفسها.

وإذا اعتبرنا أنّ ح. س. لم يصل إلى غاياته رغم تكراره خلال الحلقة أنّه لولاه لما كُشفت العصابة، فعلينا أيضا أن نُشير إلى أنّه لم يُعطِ “فوق الـ 18 ” السبق الذي يبحث عنه خارج سبق ظهوره الذي عبّرت عنه الزيّات بقولها “اليوم ح. س. حصريًا بـ فوق الـ 18”. ففي حين اكتفى ح. س. بتكرار ما كان انتشر عنه سابقًا، رفض أن يذكر على سبيل المثال اسم شخص أطلق النار عليه بحجّة سريّة التحقيقات وذلك لدى سؤال الأمين والزيّات عن هويّته وإلحاحهما عليه ليفعل ذلك. وبدا واضحًا من هذا الإلحاح أنّ الهدف “تحصيل” سبق صحافي، وهذا ما عبّرت عنه الزيّات نفسها عندما قالت: “الإعلام لليوم بعد ما حكي عنه”.

ويبدو أنّ الزيّات حاولت جاهدة أن تمسك العصاة من الوسط بحيث تُحافظ على السعي وراء السبق الصحافي والمشاهدات أو ما يحبّ “جمهور البرنامج” مشاهدته من جهة وعلى معايير يفرضها التعاطي الإعلامي مع هذا النوع من الملفات من جهة أخرى، مستعينة بالصحافي هادي الأمين وبمقدّمة أخبرتنا خلالها أنّها تنطلق “بحلقة واضحة المعالم، مكاشفة، وبحث استقصائي مهني”. وهذا ربما ما أربكها. إذ في حين  بدأت الحلقة بمقدمة ورد فيها “أنا لا أتشرّف باستضافة مغتصب وأنا ما بعمل فحص قبلما يجو لعندي على الأستديو… لا أتشرف باستضافة هذا المجرم وأي مجرم” في تعليقها على استضافتها سابقًا لأحد الموقوفين المشتبه فيهم في القضيّة الحاليّة، نراها لاحقًا تفتح الهواء لأحد الأشخاص الذين ورد اسمهم في الملف وتواجهه مع الأمين بسجلّه العدلي الذي يؤكّد، حسبهما، أنّ عليه أحكامًا قضائيّة ومنها ما يتعلّق بالتحرّش، لتعود “وتقول نحن مش بس منحاور الأوادم وهيدا الإنسان بعده متهم وما صدر بحقه شي لهيدي اللحظة”. وهي أيضًا نفسها التي أعطت لهذا الشخص مجالًا للحديث والأخذ والرد وانفعلت غاضبة وأنهت الاتصال مع شخص آخر ورد اسمه في هذه القضيّة والذي وصفته بـ “أحد أكثر المتهمين” وبـ “المغتصب الأكبر بالقضية”، مشيرة إلى إنّ البرنامج حصل على مقاطع فيديو تظهره وهو يعتدي على أحد القاصرين.

وفي إطار ما بدا بشكل واضح أنه تبرير لاستضافة ح. س. وجدنا رابعة تقول وبعد إصدار المحامي العام الاستئنافي في جبل لبنان طانيوس السغبيني، خلال الحلقة بلاغ بحثٍ وتحرٍ ومذكرة إحضار في حقه بشبهة التورّط ضمن العصابة “لما نحاور هيك إنسان ونعمل هيك شي بكون الهدف خدمة المصلحة العام وأخلاقنا”، ما يُحيلنا إلى سؤال إن كان القضاء ينتظر حلقة “فوق الـ 18” على الرغم من نقل الصحافي يوسف دياب في مقال في صحيفة “الشرق الأوسط” عن مصدر قضائي أنّ “إصدار المذكرات القضائية بحقّ ح. س. جاءت بعد إفادة أدلى بها أحد الأطفال الضحايا، وتعرّف فيها على صورة ح. س. وجزم بأنه كان في عداد الشبكة التي ساهمت في استدراجه والإيقاع به مع غيره من الأطفال”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، قرارات قضائية ، حقوق الطفل ، لبنان ، مقالات ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني