العمّال الأجانب يثورون ضدّ “متعهّد الجمهورية”: سعر الصّرف الرسمي أداة لتشريع العمل القسري وإغلاق المطار حجة لضمان استمراره


2020-05-14    |   

العمّال الأجانب يثورون ضدّ “متعهّد الجمهورية”: سعر الصّرف الرسمي أداة لتشريع العمل القسري وإغلاق المطار حجة لضمان استمراره

قد يكون اعتصام عمّال رامكو الأجانب احتجاجاً على سوء معاملتهم في لبنان الأوّل من نوعه. وهذا الأمر إنّما يؤشّر إلى خطورة ما وصلنا إليه من استغلال جعل هؤلاء يشعرون أنّه لم يعد لديهم ما يخسرونه. فالرّاتب الذي يتقاضونه بات ثلث ما كانوا يتقاضونه من قبل بعدما باشرت الشركة تسديده بالليرة اللبنانية وفق سعر الصّرف الرسمي الذي فرضه مصرف لبنان في المعاملات بين المصارف (والذي بات يقارب ثلث سعر السوق). وعليه، بات ما يتقاضونه مقابل عملهم زهيداً لدرجة أمكن معها الحديث عن عمل قسري (وهو أحد أشكال الاتجار بالبشر) أو عمل بالسّخرة. وقد زاد على ذلك تعامل الشركة معهم ابتداءً من بدء إجراءات الحجر الصحي على أنّهم مياومون بحيث لا يتقاضون أيّ راتب عن الأيام التي لا تعمل الشركة فيها. وفيما هم يطالبون بمغادرة لبنان هرباً من هذا الواقع، يجد مدير الشركة ما يبرّر استمرار استغلالهم بواقعة إغلاق المطار. فكأنّما عدم قدرة الشركة على تسفيرهم يحتّم عليها الاستمرار في استغلالهم عملاً بمقولة: “ليس باليد حيلة”. من هذه الزاوية، تبدو قضية رامكو وكأنّها منعطف مرشّح أن يفتح ملفّ العمّال والعاملات الأجانب، المقيمين منهم أو من قد نستقدمهم لاحقاً، على مصراعيه. وفيما نشرت هذه المقالة على موقع المفكرة القانونية بتاريخ 14/5/2020، رأينا إعادة نشرها في هذا العدد الخاص بالنظر لما تحتويه من إضاءات على أوضاع العمّال في زمن الأزمات الاقتصادية وبخاصّة تداعيات إجراءات الحجر الصحي بعد بروز جائحة كورونا (المحرّر).

 

بدت الأجواء هادئة في حرم شركة رامكو لجمع النفايات يوم الأربعاء 13 أيار 2020، بعد تنفيذ العمّال الأجانب فيها اعتصاماً نهار الثلاثاء رفضاً لدفع أجورهم بالليرة اللبنانية، ومعه انتهاكات وُصفت بالجسيمة لحقوقهم وإنسانيّتهم. وعند المدخل الرئيسي للمبنى المخصّص لمنامات العمّال وركن آليات جمع النفايات، يقف خمسة عمّال أجانب وحارسان من أمن الشركة. ولدى سؤالهم عن أسباب الإضراب، يأتي الجواب بتحفّظ تامّ أنّه بسبب تقاضي الأجور بالليرة اللبنانيّة، وعمّا يساق بأن الشركة تنتهك الحقوق الإنسانيّة لعمّالها وهو أمر مبالغ فيه وفق ما قاله الحرّاس وهم من الجنسية اللبنانية.

 وكان ناشطون نشروا فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي من أجواء اعتصام الثلاثاء لهرج ومرج في باحة الشركة يظهر عناصر من مكافحة الشغب تفضّ اعتصام العمّال في إثر استدعائهم من قبل الشركة إلى داخل المبنى الواقع على أوتوستراد المتن السريع وعشرات من عمّال النظافة الغاضبين بلباسهم الرمادي، يتبادلون مع عناصر مكافحة الشغب الرشق بأدوات التنظيف. ويقول مدير شركة رامكو وليد بو سعد لـ”المفكرة القانونية” إنّ “الشركة طلبت تدخّل قوى مكافحة الشغب بعد إصرار العمّال على منع الآليّات من الخروج كون الشركة ملتزمة بتأمين الخدمة العامّة التي لا يمكن أن تتوقف عن تأمينها”، علماً أنّ جزءاً منهم بدأوا الاعتصام قبل نحو أسبوعين احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية. وكانت الشركة بدأت منذ تشرين الثاني 2019 دفع رواتب العمّال الأجانب بالعملة اللبنانية، بعدما توقّفت الدولة اللبنانية عن الدفع للشركة بالدولار.

بيان العمّال: انتهاكات خطيرة تجاه الشركة وحرّاس الأمن

بعد مرور ساعات من انتهاء الاعتصام، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي بيان موقّع باسم “كافّة العمّال في شركة رامكو”، يتطرّق إلى تراكم أحداث واجهت العمّال أدّت إلى غضبهم، مطالباً بتدخّل السفارة البنغالية لحمايتهم. ويُشير البيان إلى تعرّض العمّال لسوء معاملة نتج عنه “اعتداءات بالضّرب، وحجز حرّية بعضهم، وحجز الرّواتب أو التأخّر بدفعها، وحرمان العاملين من التغطية الصحّية”. وقد ورد في البيان اتهامات خطيرة تجاه الشركة وحرّاس الأمن التابعين لها، منها طمس حادثة انتحار أحد العمّال البنغاليين، وسجن عامل بنغالي يعاني من اضطراب عقلي في غرفة تحت الأرض لثلاثة أيّام من ثم محاولة قتله من قبل بعض عناصر الحرس التابعين للشركة؛ وهي اتّهامات لم تتمكّن “المفكرة” من التحقّق من مدى صحّتها. إضافة إلى ذلك يلفت البيان إلى حرمان العمّال من التغطية الصحّية، وتخويفهم بإعادتهم إلى بلادهم إذا احتجّوا على أيّ أمر. ومن جهته يؤكدّ رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان كاسترو عبد الله لـ”المفكرة” أنّ “عمّالاً من الجنسية البنغالية يتعاونون مع الاتحاد بشأن قضايا العمّال الأجانب أكّدوا على حصول جميع هذه الانتهاكات وما ورد في البيان بحقّ عمّال رامكو، بعدما تواصلوا مع أقرانهم العاملين في الشركة”. ويقول عبدالله إنّ دفع الشركة لرواتب العمّال بالليرة اللبنانية يخفّض الراتب من 350 دولاراً إلى مئة وعشرة دولارات أي إلى الثلث، وهذا مخالف لعقد العمل. ولا يتناسب مع طبيعة العمل والدوام.

وبعد انتشار فيديوهات لأحداث الغضب والقمع الذي مورس على العمّال من قبل عناصر مكافحة الشغب، نفّذ ناشطون وناشطات اعتصاماً أمام مكاتب الشركة في الحمرا يوم الأربعاء 13 أيار 2020، تزامناً مع حملة استنكارات واسعة من المجموعات الحقوقية الناشطة في لبنان التي ندّدت بعملية قمع عمّال أجانب لا صوت لهم في لبنان. وفيما اعتبر المشاركون في الاعتصام أنّ شركة رامكو هي غطاء للمقاول جهاد العرب الذي يصفه كثيرون في لبنان بـ”متعهد الجمهورية” نظراً إلى الأعداد الهائلة من المشاريع التي يتولّى تنفيذها في هذا البلد، وجّهوا الهتافات نحوه: “حرامي حرامي… جهاد العرب حرامي”. وهناك أسفل مبنى السارولّا في الحمرا، حاول المعتصمون دخول المبنى بهدف الوصول إلى مكاتب الشركة فكانت عناصر القوى الأمنية تمنعهم بوقوفها سدًّا بينهم وبين بوّابة المبنى. فهتف المعتصمون بوجه عناصر الدرك: “العسكر واقف بوّاب”.

بعدئذ، نقل عدد من العمّال رسائل إلى “المفكرة” يستشف منها تمسّكهم إضافة لما تقدم، بوجوب احتساب أجرهم الشهري على أساس 26 يوماً كلّ شهر من دون اقتطاع رواتبهم في حال تعطّلت الشركة عن العمل أو لم تشغّلهم لسبب أو لآخر فضلاً عن وجوب تغطية الشركة تكلفة الخدمات الصحّية للعمّال، إضافة إلى تحسين نوعية الطعام الذي تقدمه لهم. كما أنّ بعض الرسائل التي تلقتها “المفكرة” أشارت إلى خشية العديد منهم الإصرار على مطلب تسديد البدلات بالدولار بعد تسفير الشركة بعض العمّال الذين كانوا قد رفضوا تقاضي الرواتب بالليرة.  

عمّال رامكو يفضحون غياب العمل النقابي في لبنان

استنكاراً لدخول قوى مكافحة الشغب لفضّ اعتصام العمّال الأجانب في رامكو، أصدر “تجمّع العاملين والعاملات في المنظمات غير الحكومية” بياناً يُدين “اعتداء قوى مكافحة الشغب على العمّال الأجانب الذين انتفضوا للمطالبة بحقوقهم بعد نفاذ صبرهم من انتهاكات شركة رامكو المتكرّرة، آخرها سلبها لأجورهم والإصرار على تسديدها بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر الصرف الرسمي (1500 ليرة)”. واعتبر البيان أنّ قوى مكافحة الشغب “لبّت نداء رامكو كأنّها شركة أمن خاصة تعمل تحت إمرتها”. وأثار بيان التجمّع “غياب النقابات العمّالية وكأن العمال غير اللبنانيين ليسوا عمّالاً، فضلاً عن الصمت الإعلامي المريب الذي يسود”. واعتبر أنّ “مثل هذه الانتهاكات تطال كلّ العمّال والعاملات في لبنان، المواطنين وغير المواطنين، وكلّ موقف يعطي الأولويّة للعمال اللبنانيين على حساب غيرهم هو موقف منحاز إلى إمبراطوريات المال”.

من جهته توقف الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان  في سياق إدانته لما تعرّض له عمال شركة رامكو عند الظروف الصحيّة الخطيرة التي يعمل فيها عمال النظافة “في جمع النفايات في ظل انتشار وباء كورونا ويعانون من أصعب الظروف من دون أي حماية صحية، مضافاً إليها نتائج الأزمة الاقتصادية”. وأكّد البيان أيضاً على أنّ “هذه المعاناة ليست فقط مع عمال شركة رامكو، بل مع غيرهم من عمال الشركات التي تستخدم عمالا أجانب مهاجرين وعمالا لبنانيين”.

رامكو تنفي انتهاك حقوق العمّال: القضية مسألة رواتب فقط

يوضح بو سعد بأنّ غالبيّة العمّال الأجانب في الشركة هم من الجنسيّتين البغالية والهندية، ويتقاضى كل فرد 400 دولار أميركي، فيما يعملون بين 9 و12 ساعة يومياً. وينفي الاتهامات الخطيرة الموجّهة إلى الشركة، مؤكّداً أن طلبات العمّال تتمثل بـ”دفع الرواتب بالدولار إضافة إلى طلبهم المستجدّ بالعودة إلى بلادهم”. ويضيف: “ليس لدينا حلول بالنسبة لموضوع الرواتب كون الدولة اللبنانية توقفت عن الدفع بالدولار، ولسنا قادرين اليوم على تسفير طالبي العودة ولا يمكن ذلك إلّا بعد معاودة فتح المطار”.

وعند سؤاله بشأن احتساب أجور العمال وفق عدد أيام العمل وكأنهم مياومون، يوضح بو سعد أنّ “الشركة خفّضت نسبة تشغيل العمل بنسبة 60% لمدّة 7 أيام فقط بسبب تأخّر الدولة عن دفع المستحقات في أول آذار لكنها لم تمسّ برواتب العمّال. ومن ثمّ تمّ التوقّف لمدّة 5 أيام أخرى بسبب إقفال مطمر برج حمود. وعادت الشاحنات لنقل النفايات بعد معاودة فتحه”. ويُضيف: “لاحقاً تراجع العمل لمدّة أسبوعين بسبب التعبئة العامّة حيث انخفضت نسبة إنتاج النفايات، إضافة إلى أنّ قرار التعئبة العامّة لم يكن يشمل، من ضمن الاستثناءات، أعمال لمّ النفايات، وقد عرّض ذلك شاحنات الشركة لمحاضر ضبط”. ويؤكّد في هذا الصدد أنّ العمّال “اعتقدوا أنّ الشركة لا تريد تشغيلهم، بخاصة وأنّها (الشركة) تُعطي العمّال بدلات على ساعات العمل الإضافية”. وبحسب قوله، فإنّ “رواتب بعض العمّال الأجانب تتخطى أحياناً المليون ليرة بسبب ساعات العمل الإضافية”. ويلفت بو سعد إلى أنّ الشركة خصمت فقط من رواتب العمّال الذين أضربوا عن العمل بما يفوق سبعة أيام.

وينفي ما قيل لناحية سجن عامل بنغالي في غرفة تحت الأرض، بل يبرر بما يشبه الاعتراف بأنّ “المبنى يحتوي على غرفة عزل أنشئت تحسّباً لإصابة أحد العمّال بأيّ عدوى ليتمّ تحويله إليها إلى أن يتعافى، وليست معدّة للسجن”. إضافة إلى ذلك، يشير بو سعد إلى أنّ العامل الذي تكلّم عنه البيان، “تعرّض لصدمة نفسية لسبب عائلي وكان يطالب بالعودة إلى بلده لكن ذلك غير ممكن بسبب تسكير المطار. فساء وضعه وبدأ يتعرّض لنوبات عصبية عرّضته للضرب من قبل زملائه. لذا قمنا بنقله إلى المستشفى حيث أُجريت له الفحوصات وتبين أنّه يعاني من وضع نفسي يتطلّب وضعه في غرفة العزل وإعطاءه الأدوية اللازمة”. ويُضيف، “قمنا بإخراجه بعد حين من الغرفة وسلّمناه لزملائه، وكان هذا العامل من ضمن المتظاهرين”. أمّا بالنسبة لحادثة الانتحار، فينفيها بو سعد كليّاً.

ولا ينفي بو سعد حقّ العمّال في الإضراب، فمنذ أسبوعين كان نحو 60 عاملاً بنغالياً بدأوا الإضراب ولم تحاول الشركة ثنيهم عن ذلك. إلّا أنّه ولسبب مجهول “انتفضوا البارحة (الثلاثاء 12 أيار) وحاولوا منع الآليات من الخروج إلى العمل وهو ما دفعنا إلى طلب تدخل القوى الأمنية”. وتلا ذلك التدخل، “استهداف العمّال لبعض آليات الشركة، فقاموا بتكسيرها وحاولوا إحراقها، كما جرى رمي العناصر الأمنية بالبنزين”، كما يقول من دون أن تتوفّر إثباتات على ذلك. ويُشير بو سعد إلى أنّه “تم اعتقال شخص واحد من العمّال بسبب إقدامه على التعدّي على أحد العناصر الأمنية، فيما لم تدّعِ الشركة على أي من عمالها”.

سفارة بنغلادش ووزارة العمل ومطالب العمّال

من جهته، أفاد قنصل بنغلادش في لبنان عبدالله المأمون لـ”المفكرة” أنّ السفارة تابعت موضوع عمّال رامكو، وأخذت بعين الإعتبار مطالبهم. وينقل بأنّه سيتم إعداد لائحة تتضمن المطالب والإقتراحات وإرسالها للشركة ليجري النقاش حول إمكانية إيجاد حلول. ويقترح المأمون من ضمن الحلول بأن ترفع الشركة الراتب بالليرة اللبنانية للعمّال.

بدورها، تؤكّد المديرة العامة لوزارة العمل بالوكالة مارلين عطا الله، أنّ “مفتشي وزارة العمل كشفوا على المبنى وتأكّدوا من سير العمل، ووقفوا عند مطالب العمّال”. وتلفت إلى أنّه “مبدئياً توصّل مفتّشو الوزارة إلى التأكيد على أنّ احتجاجات العمّال تتعلّق بالرواتب وإشكالية اختلاف سعر صرف الليرة”. وتُضيف: “تبيّن أيضاً أنّ هناك عدداً من العمّال يُطالبون بالعودة إلى بلادهم، والأمر كان يصطدم بتسكير المطار”. وتشدّد عطا الله على أنّ “الملف لا يزال قيد التحقيق، ويجري البحث في الحلول”.

***

كيف انتهت عمّال قضية رامكو؟

بعد مضي أشهر على هذه القضيّة، تبين أنّ الشركة قامت بتسفير جميع العمّال الأجانب لديها في صيف 2020، بحسب مدير الشركة وليد بو سعد. ويلفت بو سعد إلى أنّ “العمال طلبوا العودة إلى بلادهم بسبب عدم تقاضيهم أجورهم بالدولار الأميركي”. ويُقدّر عدد العمّال الأجانب من الجنسيّتين البنغاليّة والهنديّة الّذين تركوا العمل لدى رامكو بـ 350 عاملاً، فيما بقي في الشركة ما لا يزيد عن 10 عمّال أجانب لا يزالون يعملون لديها. ويتّضح بحسب تفسيره أنّ الشركة تعتمد اليوم على عمّال لبنانيين لتأمين خدماتها، فيما لم يعد هناك أيّ نيّة لدى الشركة لمعاودة استقدام عمّال أجانب بسبب عدم قدرتها على توفير الأجور بالعملة الأجنبيّة.

 

لقراءة المقالة مترجمة إلى اللغة الإنكليزية

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، تحقيقات ، مجلة لبنان ، لبنان ، حراكات اجتماعية ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني