تداعيات الحجر الصحي على التونسيين: بين تنامي العنف والإضطرابات النفسية وإعادة اكتشاف الذات


2020-04-23    |   

تداعيات الحجر الصحي على التونسيين: بين تنامي العنف والإضطرابات النفسية وإعادة اكتشاف الذات

يعيش العالم اليوم مرحلة إستثنائية بكل المقاييس. إغلاق تام، دفن بلا جنازات، تداعيات إقتصادية كبيرة جعلت عددا من المفكرين والفلاسفة يتحدثون في نظرية "ما قبل وما بعد الكورونا". لكن التقارير الواردة من أكثر من دولة أوروبية حول إرتفاع حالات الإنتحار والعنف الأسري جعلت زخم هذا الجدل يتراجع ليأخذ مكانه جدل الحجر الصحي وتداعياته النفسية والإجتماعية على سكان الكوكب. أكثر من 3 مليارات شخص يعزلون أنفسهم اليوم مخافة العدوى بفيروس كورونا المستجد، في حالة لم يرَ العالم لها مثيلا. هذا الإغلاق التام خلق تداعيات نفسية خطيرة إنتهت في بعض الحالات بالإنتحار وفي بعضها الآخر بالعنف الأسري مثلما ورد في تقرير لمجلة فورين بوليسي بعنوان "عندما يكون البيت أكثر خطورة من فيروس كورونا" والذي تحدثت فيه عن إرتفاع وتيرة العنف ضد المرأة في دول كثيرة في العالم مثل بريطانيا. تونس أيضا كان لها نصيب من هذه التداعيات، فبالنظر إلى حجم المكالمات التي تلقتها خلية الإحاطة النفسية خلال شهر والذي بلغ 69 ألف اتصال، يمكن القول أن الحجر الصحي الشامل قد بدأ يلقي بتداعياته على التونسيين خاصة على أصحاب السوابق في الأمراض النفسية.

 

لا أستطيع حجر نفسي في بيت مساحته 40 مترا مربعا

إلى حين كتابة هذه الأسطر، أمضى التونسيون 30 يوما في الحجر الصحي الشامل: إغلاق تام لجميع المؤسسات بجميع أنواعها، تخفيض في عدد الموظفين العموميين المزاولين إلى ما يقرب الثلث ومنع تام للمواطنين من الخروج إلا لقضاء بعض الحاجات الضرورية. تزامنا مع هذه الإجراءات، بدأ الإعلام التونسي حملة لحث الناس على الإلتزام ببيوتهم كما أطلق بعضها هاشتاغ #شد_دارك في محاولة لإقناع الناس بأن الفعل ليس تقييدا للحرية بقدر ما هو واجب وطني. ثلاثون يوما قضاها التونسيون خلف أبواب مغلقة بغض النظر عن وضعياتهم النفسية والصحية والعقلية، كانت سببا في عدد من المشاكل النفسية، خاصة بالنسبة للذين لم يجدوا الطريقة المثلى للتعامل مع هذا الظرف الإستثنائي. فريد بن حامد الملقب بالباشا (39 سنة)  يعمل كحلاق في أحد الأحياء الشعبية بولاية القصرين، الباشا لم يألف هذا الوضع الذي بدأ حسب رأيه يلقي بآثاره النفسية عليه و على عائلته. يقول الباشا في حديثه مع "المفكرة القانونية" إن الوضع الحالي قد تسبب في عدد من الإشكاليات، أولها نفسي و ثانيها إقتصادي، ليضيف: "لم أعش في حياتي كلها وضعا كهذا، أنا من الذين يجب عليهم العمل يوميا من أجل توفير قوت يومهم. هذا الإغلاق أدى في مرحلة أولى إلى شلل إقتصادي في البيت ، غياب المال تسبب لي بالتوتر و الإنفعال السريع، حتى علاقتي مع زوجتي لم تعد جيدة". على الجانب الآخر، تعيش زهرة السالمي (45 سنة) العاملة في مصنع نسيج، مشكلة أخرى، فهي تعيش في بيت متواضع جدا لا تتجاوز مساحته 40 مترا مربعا وهو ما سبب مشاكل كبيرة في الحجر الصحي. تقول زهرة في تصريحها للمفكرة "مع بداية الحجر بدأت المشاكل والخصومات في البيت، الجميع أصبح منفعلا جدا، الجو العام في البيت أصبح مشحونا ويغلب عليه التوتر وهو ما يدفعني في بعض الأحيان إلى البكاء، وأشعر في أحيان أخرى أن جدران المنزل أصبحت ضيقة جدا ولم يعد بوسعي التحمل".

الطبيبة النفسية المختصة في علاج الصدمات ورئيسة خلية الإحاطة النفسية بضحايا الكوارث التابعة لوزارة الصحة، أنيسة بوعسكر ترى أن التونسيون مروا بمراحل عديدة في ما يتعلق بالتداعيات النفسية للحجر الصحي، تفسر بوعكسر في تصريحها للمفكرة القانونية قائلة "في الأسبوع الأول، كانت المشاكل تنحصر في الخوف من المرض، هذا الخوف يتولد عنه حالات من الهلع وإضطرابات في الأكل وكوابيس متكررة. أما في الأسبوع الثاني، فأصبح الحجر بحد ذاته هو المقلق بالنسبة للتونسيين. بدأ هذا القلق يُترجم من خلال إضطرابات في الأكل وفي النوم ثم بعد ذلك تبدأ التساؤلات والبحث عن إجابات، تساؤلات من نوع "ماذا بعد الكورونا؟" هل سأفقد عملي؟ وهي تساؤلات يطرحها المواطن يوميا على الناس وعلى نفسه." وترى بوعسكر أن المصابين بالوسواس القهري هم أكثر الناس تأثرا بالحجر، فهناك من يبالغ في غسل يديه وهناك من ذهب إلى غسل وجهه بمادة الجفال وهذا خطير جدا كما أن هناك من يترجم القلق الذي بداخله إلى عنف يمارسه على أسرته.

 

خطر العنف داخل المنازل وخطر الكورونا خارجها

عادت ظاهرة العنف ضد النساء لتطفو على السطح مرة أخرى بعدما عبرت وزيرة المرأة والأسرة أسماء السحيري في تصريحات إعلامية محلية عن قلقها، بسبب تضاعف معدلات العنف المسلط على النساء خمس مرات مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وذلك في ظل تلقي الوزارة شكاوى من نساء معنفات وأطفالهن. وكشفت أنّ وضعية الحجر الصحي العام وحظر الجولان للتوقّي من فيروس كورونا، تسبّبا في خلق مشاكل بسبب الضغط النفسي داخل العائلة، تحول في عدد من الحالات إلى عنف مادي ولفظي ضدّ النساء. هذه الوضعية الدقيقة دفعت الوزارة إلى تحويل الرقم الأخضر المخصص لتلقي الإشعارات وطلبات التدخل من النساء، والذي كان يشتغل حسب التوقيت الإداري، (من 8:30 إلى 17:30 مساء) ليستقبل المكالمات على مدار 24 ساعة وطوال أيام الأسبوع.  إلى جانب العنف ضد النساء تسبب الحجر الصحي في إرتفاع ظاهرة العنف ضد الأطفال.

أمام تنامي هذه الممارسات، قررت وزارة الصحة تفعيل خلية الإحاطة النفسية بضحايا الكوارث التي تم بعثها منذ 18 مارس 2015 للإحاطة بضحايا العمليات الإرهابية. لكن بعد تفشي فيروس كورونا المستجد في تونس، أصبحت مهمتها معالجة التداعيات النفسية التي أحدثتها الوباء على المواطنين، مع توجيههم إلى كيفية التعامل مع هذه الأزمة. وتعتمد الخلية على التطوع وتضمّ طلبة في الطب ومختصين في علم النفس ومتطوعين من الهلال الأحمر، حيث يستقبل المتطوعون المكالمات ثم يوجهونها إلى أطباء نفسانيين أو أخصائيين نفسيين. وتوضح رئيس الخلية أنيسة بوعسكر في هذا السياق قائلة أن "هناك أكثر من 240 طبيبا وأخصائيا نفسانيا تبرعوا بساعات عمل في الأزمة، حيث يتم تحويل المكالمات حسب الاحتياجات والاختصاصات ومدى توفر الأطباء". وقد استقبلت الخلية حوالي 69 ألف اتصال منذ بداية ظهور الوباء في تونس، كما تمّ تحويل 2400 شخص إلى أطباء ومختصين في علم النفس.

حول تنامي هذه الظاهرة وارتباطها بجائحة كورونا، يعلّق الباحث فؤاد غربالي موضّحا أن لارتفاع معدلات العنف داخل الأسرة تفسير منطقي. فغربالي يرى أن المقهى أو الحانة ليسا مرافق عادية بل هي مؤسسات إجتماعية بالأساس تمثل بدائل عن المنازل ودائما مايتم تصدير المشاكل إلى هذه الفضاءات، ليضيف في تصريح للمفكرة القانونية: "في الحجر الصحي، الفضاء الوحيد التي بقي هو المنزل وبالتالي تبقى جميع أنواع القلق والمشاكل في البيت، مما ينتج عنه تراكم في الفضاء الضيق ويصبح الأفراد وجها لوجه ما يخلق حالة من التوتر وتصبح المشاكل التي تُصدّر الى الفضاء العام أو تؤجل حاضرة في هذا المربع المحدود، هذا بالإضافة إلى إستدعاء مشاكل أو خلافات قديمة، وهو ما يمكن أن يصل إلى العنف". كما يرى فؤاد غربالي أن إرتفاع نسب العنف تعطينا فكرة على المجتمع إذ يوضّح قائلا: "هناك أزمة هيكلية داخل المجتمع التونسي وهو ما يثبت أن القوانين لا تكفي للقضاء على هذه الظواهر، وهو ما يثبت أيضا أن المؤسسات الأخرى الكفيلة بترسيخ جملة من القيم والقواعد السلوكية والاجتماعية على غرار المدارس والجامعات لم تؤدّ وظيفتها كما يجب".  في المقابل ترى الطبيبة أنيسة بوعسكر أن ممارس العنف ليس بالضرورة عنيفا، "في بعض الأحيان هناك أشخاص غير عنيفين ولكن بسبب الحجر يتم استدعاء المشاكل قديمة على غرار التجارب السيئة في مرحلة الطفولة أو أزمات نفسية سابقة والتي تتطور إلى حالات من العنف".

 

الحجر الصحي ليس بتلك الصورة القاتمة دائما

العيش خلف أبواب مغلقة خلّف لدى الكثيرين مشاعر سلبية ومزيجا من التوتر والخوف وفي بعض الأحيان نوبات من الهلع. لكن هذه الصورة القاتمة للحجر الصحي تبدو مغايرة لدى البعض الآخر. الحاج محمد البرهومي واحد من الذين تمكنوا من إستغلال فترة الحجر الصحي بشكل جيد. يقول البرهومي في حديثه مع المفكرة القانونية: "لم أحقق إنجازات تاريخية و لم أقم بتأليف كتب في هذه الفترة، ولكنني حاولت إستغلال الوقت قدر الإمكان في إنجاز أعمال مهمة كنت دائما أؤجلها، تمكنت أولا من إصلاح جميع الأعطال بالمنزل مثل أقفال الأبواب و بعض التجهيزات المنزلية. كما استطعت الإقلاع عن التدخين منذ أكثر من أسبوعين، هذا إضافة إلى أنني أحاول تحفيظ أمي بعض السور من القرآن الكريم لأنه لم يسعفها الحظ في الماضي بأن تتعلم القراءة و الكتابة، ولطالما كان يحزنني دائما أنها ورغم قيامها بمناسك الحج إلا أنها لا تحفظ من القرآن غير الصور القصيرة". يمتلك الحاج محمد موهبة في إصلاح الآلات الكهربائية، مكنته فترة الحجر الصحي من العمل على تهيئة ركن في بيته الفسيح كورشة لممارسة هوايته المفضلة. كما طوّر نشاطه إلى إصلاح بعض الآلات الكهربائية والمنزلية لعدد من جيرانه بالمجان. "أشعر بسعادة عارمة وأنا في هذا الركن، هذا العمل يجلب لي السعادة إضافة إلى أنه يقوي روح التضامن بيني وبين جيراني وهذا مهم جدا بالنسبة لي". رغم نجاحه في صناعة عالمه الخاص خلال فترة الحجر الصحي العام، إلاّ أن الحاج محمد لم يخفِ اشتياقه لعمله كمدير في أحد المعاهد الخاصة وانتظاره بشوق العودة إلى العمل مع التلاميذ.

 

الحجر فرصة للاكتشاف والحوار والنقاش

مثل الحاج محمد، كثيرون في تونس وفي العالم ممن حاولوا استغلال فترة الحجر الصحي في أشياء مفيدة تقيهم من التداعيات النفسية للحجر. ويرى الباحث في علم الإجتماع فؤاد غربالي أن التخفيف من وطأة الحجر الصحي على التونسيين يقع على عاتق الدولة أولا؛ "يجب على الدولة أن تقدم خطابا واضحا لأن الغموض يسبب التوتر والخوف كما يجب عليها توفير الضروريات الحياتية وأهمها المواد الغذائية لأن الأوبئة تجلب معها الجوع كما ثبت ذلك على مر التاريخ". أما عن كيفية التعامل مع ما تبقى من فترة الحجر فينصح فؤاد بتحويل هذا الحجر إلى فرصة للإكتشاف والحوار والنقاش؛ "يجب على أفراد العائلة تحويل الحجر إلى فرصة لإعادة اكتشاف أنفسهم وفرصة لبناء أو إصلاح المناخ العائلي وإرساء أساسيات جديدة للحوار صلب البيت الواحد". في المقابل ولتفادي التداعيات النفسية للحجر الصحي، ترى الطبيبة أنيسة بوعسكر أن أهم فكرة يجب أن يقتنع بها التونسيون هي ـأن هذا الإجراء ليس عقابا أو سلبا للحرية ولكنه آلية نلجأ إليها لحماية الأشخاص الذين لا يملكون مناعة قوية، لتضيف موضحة؛ "هو ليس عزلا اجتماعيا بل تباعد جسدي. إذ لا يجب الإنقطاع عن التواصل مع الآخرين لأن التواصل الإجتماعي حتى من خلال ما توفره لنا التكنولوجيا له آثار إيجابية جدا على نفسية الشخص. كما أنه لا يجب تغيير أنظمة حياتنا بشكل جذري بل على العكس يجب إدخال بعض العادات الجديدة لمقاومة القلق والتوتر".

إذن لم تقتصر آثار فيروس كورونا على الجوانب الصحية أو الاقتصادية، بل ألقى بظلاله على الجانب النفسي لدى أفراد المجتمع بسبب الحجر الصحي الشامل الذي فُرض على الحكومات لمواجهة هذه الأزمة والتي فرضته بدورها على مواطنيها. بسبب هذا الإجراء، يعاني كثيرون خلف الأبواب المغلقة سواء بسبب العنف أو التوتر أو الوسواس القهري، لكن في المقابل تمكن آخرون من إستغلال فترة الحجر في نشاطات، ولو على بساطتها، إلا أنها خلقت تأثيرا إيجابيا كبيرا على أصحابها.

 

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، الحق في الصحة والتعليم



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني