طقوس الإعتذارات والتعهدات تكريسا للهيبة: نقابة الحريات على خطى النيابات العامة


2020-04-09    |   

طقوس الإعتذارات والتعهدات تكريسا للهيبة: نقابة الحريات على خطى النيابات العامة

منذ أيام (6 نيسان)، وفي ظل سياسة التباعد الاجتماعي، تسرّب خبر مفاده أن مجلس نقابة المحامين في طرابلس انعقد للإستماع إلى أحد المحامين المنتسبين إليها على خلفية تصريحاته على صفحة التواصل الإجتماعي والتي تعرض فيها للنقابة، نقيبا وأعضاء وأن المحامي المذكور اعتذر عن تصريحاته التي شكلت حسب إقراره إساءة لمجلس النقابة متعهدا بحصر مناقشة أي أمر أو مطلب يتصل بالنقابة داخل النقابة ومؤسساتها. وفيما أن هذه الاستدعاءات والاعتذارات تكررت في الفترة الأخيرة، فإن هذه الحادثة حملت جديدا مذهلا وهو أن مجلس النقابة قرر نشر اعتذار المحامي على مواقع التواصل الاجتماعي بعدما أعلن المحامي في متن اعتذاره على موافقته على النشر. حدث مؤسف في نقابة الحريات. يذكر أن نقابة المحامين في بيروت كانت ألزمت العديد من المحامين المعترضين على ملف التأمين التوقيع على اعتذارات مشابهة، إلا أنها لم تنشر آنذاك هذه الاعتذارات (المحرر).

 

النقابات حول العالم تساهم في تركيب البنية الإقتصادية والسياسية للدول، والإنضمام إلى بعض النقابات المهنية يكتسب الصفة الإلزامية. ورغم الصفحات المشرقة للعمل النقابي على مرّ التاريخ، فالنقابات اليوم تشهد حالات متجذرة من الضعف والخضوع للهيمنة السياسية والأهواء كما محاولات إلحاق النقابات بالأحزاب للتغطية على مكامن الفساد والتغطية على محاولات القمع الأمني لكل الناشطين والساعين إلى الإنتفاضة على الواقع السيء ما يحتّم ضرورة تحديث التشريعات والقوانين المتعلقة بالنقابات المهنية كي لا تبقى مجالس للترف الإجتماعي والمحاباة المستمرة للمسؤولين السياسيين والقضاة.

النيابات العامة تلعب دوراً في مكافحة الجرائم داخل المجتمع، فهي تحّرك الحق العام الذي يمّثل مصلحة المجتمع في القضايا الجزائية، وتخضع التحقيقات الأولية التي تقوم بها الضابطة العدلية عبر المحققين العدليين التابعين للأجهزة الأمنية المختلفة إلى توجيهات وإشراف قضاة النيابات العامة، وإذا ما كان التدخل السياسي في عمل القضاء يجد إنعكاساً واضحاً له فإن هذا الإنعكاس يظهر وبشكل بالغ الوضوح لدى تحريك الدعاوى الجزائية من قبل النيابات العامة، والقدرة على إخضاع بعض الناشطين إلى تحقيقات في جرائم غير خطرة من أجل إخضاعهم وممارسة سياسة كمّ الأفواه بحقهم في حين أن هذه النيابات العامة تتجاوز عن العديد من الفضائح المتعلقة بالفساد المنتشر في المجتمع أو تغضّ البصر عن العديد من الإعتداءات التي تحصل عبر رجال السلطة أو بتحريضهم، الأمر الذي يحّتم أيضاً ضرورة تحديث التشريعات والقوانين المتعلقة بدور وصلاحيات النيابات العامة.

ما بين مطرقة النقابات المهنية وسندانة النيابات العامة يتم سحق حق أساسي مرتبط بالحرية الشخصية هو الحق في حرية الرأي والتعبير، لا سيما على مواقع التواصل الإجتماعي التي باتت منابر مفتوحة قادرة على إيصال المعلومة إلى الجميع. وممارسة حرية الرأي والتعبير لا تعني إطلاقاً التفّلت من أي عقاب في حال ممارستها من دون إنضباط ومسؤولية، لكن مكمن الداء هو في عدم وضع الحدود الواضحة للسلطة الإستنسابية في تقدير مدى توافر الإنضباط والمسؤولية ما يؤدي إلى سوء إستعمال هذه السلطة الإستنسابية في التقدير، الأمر الذي يحّتم مرة أخرى ضرورة تحديث التشريعات والقوانين ذات الصلة من أجل رسم الحدود الواضحة لا سيما على ضوء أحكام الدستور اللبناني وإلتزام لبنان بإتفاقات دولية تفرض عليه إحترام حرية الرأي والتعبير نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي إنضم لبنان إليه في العام 1972 كما الميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي صادق عليه لبنان في العام 2011، وكلها وثائق أقرها الدستور اللبناني في مقدمته[1].

ما يحصل اليوم أنه نتيجة الإتهام المسبق لمواقع وسائل التواصل الإجتماعي بالإنفلات والإنحراف، باتت هناك جهات تستغل هذا الرأي المسبق من أجل قمع حرية الرأي والتعبير بحجة أن هذه الحرية يجب أن تبقى مسؤولة، وصار بعض رجال السياسة المعروفون بفسادهم يستغلون مواقعهم في الدولة من أجل التدخل في عمل النيابات العامة بهدف ملاحقة الناشطين وترهيبهم بأسلوب قانوني وإلزامهم بالتوقيع على تعهدات "غير قانونية" خلال فترة التوقيف الإحترازي الذي بدوره بات أداة ضغط غير منضبطة بحيث يستمر لساعات أو أيام من دون أي سند قانوني يبرره وتظهر كبرى تجلياته عند إجراء تحقيقات أولية مرتبطة بجرائم الذم والقدح التي تقل عقوبتها عن سنة حبساً، وهي العقوبة التي يفرض فيها المنطق السليم عدم توقيف الشخص المعني وعدم توقيعه أي تعهد بل إحالته لينال العقوبة الملائمة أمام حضرة القاضي المنفرد الجزائي الذي يكون له وحده سلطة تقدير خطورة الفعل وترتيب العقوبة المناسبة.

وعلى خطى النيابات العامة تسير بعض النقابات المهنية التي بات أيضاً صدرها يضيق بطرق تعبير بعض الناشطين من المنتسبين إليها عن آرائهم عبر مواقع التواصل الإجتماعي حول سوء أداء المسؤولين النقابيين أو الفساد الحاصل داخل أروقة النقابات أو محاولات تجمع المستقلين من أجل إيجاد قوى ضغط فاعلة لإسترداد النقابات من الهيمنة السياسية والحرص على عودتها لأداء الأدوار المنوطة بها مهنياً ووطنياً، فنجد ظاهرة إستدعاء المنتسبين إلى النقابات أمام المجالس التمثيلية من أجل إلزامهم بالتوقيع على إعتذارات علنية وثنيّهم عن متابعة إنتقاداتهم لبعض المسائل الحيوية والملحة.

حين ندافع عن حرية الرأي والتعبير كحق أساسي فهذا لا يعني الموافقة على إتاحة المجال للنيل من سمعة وشرف الآخرين، فكرامة الإنسان مصانة لدى المؤمنين بسمو المبادئ الأساسية المتعلقة بحقوق الإنسان، والكرامة المتأصلة لدى كل إنسان هي المبتدى وهي المنتهى في مقاربة الأمور، لكن يجب لمقاربة الأمور الركون إلى الموضوعية والقدرة على تقدير مبدأ التناسب بين الفعل وردة الفعل بحيادية تامة وبشفافية. فدون ذلك يفتح المجال، لسياسات القمع وكم الأفواه. ولو كان ما يتم المناداة به مجافياً للقانون، لما حصلت حالات برز فيها تحدي الناشطين لبعض إشارات النيابات العامة بتوقيع التعهدات وخضوع النيابات العامة لعدم ضرورة توقيع التعهدات، كما لما حصلت حالات طلب فيها من الناشطين النقابيين توقيع إعتذارات علنية تحت طائلة الملاحقة التأديبية وحين رفضوا لم تجرِ ملاحقتهم.

أخيراً، لا بد من تخطي عقدة المتابعة مع الجهات الدولية لحالات الإنتهاك الواضح للحقوق الأساسية. ففيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير أناطت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مهام محددة لشخص يحمل صفة المقرر الخاص المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، والمقرر الخاص يمكنه تلقي المعلومات عبر المنظمات غير الحكومية الموثوقة من أجل جمع المعلومات حول حالات الإنتهاك وإعداد التقارير للدول الأعضاء والقيام بكل ما يلزم من أجل الإسهام بتعزيز هذا الحق بالتعاون مع مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان. وهذا المقرر الخاص يرفع تقارير سنوية لكل من مجلس حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة والجمعية العامة للأمم المتحدة. ولا ضرر من الإعداد الجدي وتوثيق حالات الإنتهاك ومراسلة المقرر الخاص فقد كان للبنان تجربة ناجحة مع الضغط الدولي الممارس عليه من قبل المجتمع الدولي لفرض إقرار قانون إنشاء المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان كما إقرار قانون تجريم التعذيب، وإن كانت الدولة اللبنانية عبر سلطاتها المختلفة السياسية والقضائية قد ساهمت في وقت لاحق في تعطيل مفاعيل هذه القوانين. لكن يبقى أنها كدولة تطلب الهبات الخارجية من المجتمع الدولي مفروض عليها إحترام الإتفاقات والتعهدات الدولية المتعلقة بصيانة حقوق الإنسان لا سيما فيما يتعلق بالحقوق الأساسية ومن ضمنها حرية الرأي والتعبير.

 


[1]  في مقدمة الدستور اللبناني هناك إلتزام على حماية حقوق الإنسان فنجد في الفقرة ج منها الآتي "لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على إحترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي …"، والمادة 13 من الدستور تنص على صيانة بعض الحريات الأساسية منها "حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرية الطباعة وحرية الإجتماع وحرية تأليف الجمعيات ضمن دائرة القانون".

المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تنص "لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حريته في إعتناق الآراء دون مضايقة وفي إلتماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة ودونما إعتبار للحدود".

من جهتها المادة 32 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان تنص "يضمن هذا الميثاق الحق في الاعلام وحرية الرأي والتعبير، وكذلك الحق في إستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة، ودونما إعتبار للحدود الجغرافية. تمارس هذه الحقوق والحريات في إطار المقومات الأساسية للمجتمع، ولا تخضع إلا للقيود التي يفرضها إحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم وحماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة".

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني