اقتراحات قوانين استرداد الأموال المنهوبة: آليات مُفرّغة من مضمونها وغير مؤهلة لمواجهة المهمة الهائلة


2019-12-16    |   

اقتراحات قوانين استرداد الأموال المنهوبة: آليات مُفرّغة من مضمونها وغير مؤهلة لمواجهة المهمة الهائلة

لقد اكتسب مطلب استرداد الأموال المنهوبة أهمية رمزية كبيرة منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين، كونه يعكس في شعار واضح وبسيط مدى سَأم المجتمع من النهب الفادح المستمر في المجال العام والغياب التام للمحاسبة السياسية. ورداً على هذه الهتافات، تم إعادة النظر مؤخراً في اقتراحات قوانين استرداد الأموال المنهوبة التي قدمتها قوى سياسية مختلفة على مدى الأشهر والسنين الماضية، وأبرزها اقتراحي النائب سامي الجميل لعام 2017 وتكتل لبنان القوي لعام 2019.

في هذا السياق، سنهدف إلى تبيان بعض نقاط ضعف القوانين المقترحة وتسليط الضوء على النهج المتبع دوليا للتصدي لهذه الإشكالية، خصوصاً في ظل الإطار القانوني الذي استحدثته الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد لعام 2004، آخذين النظام التشريعي لاسترداد الأصول المنهوبة في المملكة المتحدة نموذجاً للمقارنة. وباختصار، فإننا نرى أن القوانين المقترحة غير مؤهلة لمواجهة المهمة الهائلة المتمثلة باسترداد الأموال العامة المنهوبة، كونها تتضمن آليات مفرغة من مضمونها، إذ تم تضييق نطاق تطبيقها بحيث يصبح تنفيذها أمر مُستبعَد على أرض الواقع.

 

اقتراح قانون تكتل لبنان القوي: آليات مفرغة من مضمونها وغير قابلة للتطبيق

إذاً، يقتضي التساؤل أولاً عن مدى أهليّة مشروع قانون تكتل لبنان القوي للتصدي لإشكالية استرداد الأموال المنهوبة، ولا سيما في بلد كلبنان حيث تغلغل الفساد في شرايين الدولة ومؤسساتها. وبرأينا، فإن الاقتراح يعاني من نقاط ضعف جسيمة، من شأنها أن تجرّد السلطات المعنية من الصلاحيات الفعالة في هذا المجال. وأبرز نقاط الضعف هذه تكمن في حصر صلاحية بدء الملاحقة بالنيابة العامة التمييزية وتضييق نطاق تطبيق القانون بحيث تُصبح الآليات القانونية المقترحة غير قابلة للتطبيق بفعل الواقع. فيما يتعلق بالنقطة الأولى، يرجى مراجعة مقال سابق للمفكرة تناول هذه المسألة وإشكاليات عديدة في القانون بشكل مفصّل، بحيث نقصر حديثنا هنا على مسألة نطاق تطبيق القانون المقترح.

 

فمن أهم خصائص القانون المقترح، اشتراط آليات استرداد الأصول المنهوبة بصدور حكم قضائي مبرم يثبت أن الأصول المعنية نتجت عن جرم جزائي. ومن شأن هذا الشرط أن يعرقل كافة المحاولات لاستعادة الأموال المنهوبة وأن يقوّض فعاليتها إلى حد إفراغها من أي مضمون فعلي، للأسباب الآتية:

أولاً، يُرجح أن يؤدي هذا القيد إلى تأجيل عملية الاسترداد لمدة سنين فيما تتم محاكمة التهمة الجزائية والطعن بها، حيث قد تمنح هذه المهلة فرصة للمتهم أن يقوم بتبديد الأصول أو إخفائها.

ثانياً، في حالات الفساد السياسي وملاحقة كبار المسؤولين، من المرجح أن تُمارَس ضغوطات سياسية على أي محاكمة جنائية، من شأنها أن تحول دون الحصول على حكم قضائي مبرم في القضية.

ثالثا، في حالات هروب المتهم من الملاحقة، قد لا تكون الإدانة الجنائية واقعية.

رابعاً، قد لا تكون الإدانة ممكنة في حال تمتع الجاني بالحصانة الشخصية ضد الملاحقة القانونية، الأمر الذي له أهمية بارزة في لبنان، نظراً للحصانات الدستورية والتشريعية التي يتمتع بها النواب والرؤساء وغيرهم من المسؤولين في الدولة.

ونرى أن مفاد هذا الشرط المتعلق بضرورة صدور حكم قضائي مبرم هو تضييق نطاق تطبيق آليات استرداد الأصول المنهوبة بحيث يصبح تنفيذها في ملفات متعلقة بفساد سياسي أمراً مستبعداً وبعيداً عن الواقع. فبرأينا، يجب أن يتضمن أي قانون مقترح لاستعادة الأصول المنهوبة آليات لحجز ومصادرة الأصول عن طريق دعاوى مدنية عينية موجهة للممتلكات نفسها، أي من دون الاستناد بالضرورة إلى وجود حكم جنائي مبرم ضد المتهم، لأسباب سوف تتبلور بوضوح بعدما نتناول الإطار القانوني الذي استحدثته الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد.

 

اقتراح قانون حزب الكتائب: التباسٌ وافتقارٌ إلى الاستقلالية

أما بالتطرق إلى مقترح النائب سامي الجميّل الذي قُدم العام 2017، نرى أنه يعاني كذلك من نقاط ضعف فادحة، من شأنها عرقلة مساعي استرداد الأموال المنهوبة.

يُلاحظ أولاً أن نص الاقتراح لا يشير إلى ضرورة صدور حكم جنائي مبرم لتفعيل آليات الاسترداد، بل يكتفي بتعريف “الأموال المنهوبة” بأنها الأصول التي تثبت ملكيتها من قبل أشخاص طبيعيين أو معنويين بطرق غير قانونية من أموال وموارد الدولة، وهذا أمر مرحب به نظراً للإشكاليات الناجمة عن ربط الاسترداد بصدور حكم مبرم. ولكن بالمقابل لا نجد أي تعريف بالنص لمفهوم “الإثبات” في هذا السياق، ما قد يفسح مجالاً للجدل حول معيار الإثبات، بحيث قد يتحجج المدعى عليه بضرورة صدور حكم جنائي أو الإثبات بواسطة معيار الإثبات الجنائي. وبينما يبدو ظاهرياً أن الاقتراح يشير إلى إجراء مدني خارج عن إطار المحاكم الجنائية، إلا أنه يجب توضيح هذا الأمر في النص ذاته تجنباً لأي التباس.

وفي هذا الصدد، يجدر الانتباه أيضاً إلى أن مفهوم “طرق غير قانونية” الذي ورد في تعريف  الاقتراح للأموال المنهوبة كذلك لا نجد له شرحاً بالنص، الأمر الذي قد يولد التباساً في نطاق تطبيق القانون. فهل هو ينحصر في الأصول التي تم الحصول عليها بوسائل تُعتبر جرماً جزائياً أو أنه يمتد إلى وسائل غير مشروعة أخرى (كانتهاكات القانون المدني والإداري)؟ وحصيلة هذه النواقص هي تغلغُل الغموض في نطاق القانون، ما قد يحدّ من فعاليته ويقلص قيمته في مشروع القضاء على الفساد السياسي.

لكن نقطة الضعف الفادحة في هذا الاقتراح تكمن في تشكيل لجنة مختصة بالكشف عن الأموال العامة المنهوبة، إذ تكوين هذه اللجنة إنما يطرح تساؤلات حول استقلاليتها ومدى جدية الاقتراح فيما يتعلق بملاحقة كبار المسؤولين في الدولة. فأعضاء اللجنة المقترحة إما وزراء أو ممثلون لوزراء أو قضاة في مناصب معيَّنة لا يجري انتخابهم، بالإضافة إلى ممثل عن جمعية المصارف التي لا نرى مبرراً لتمثيلها باللجنة سوى النفوذ السياسي الذي تتمتع به في جميع القضايا المتعلقة بالقطاع المصرفي. وهؤلاء ذاتهم من الفئة التي لا بد من أن تتم ملاحقتهم بقضايا الفساد السياسي، أو على الأقل يرجح أن يكونوا مقربين من بعض المتهمين، ما قد يؤدي إلى ممارسة ضغوطات سياسية على اللجنة قد تحول دون الادعاء الفعال.

وإشكاليات تكوين اللجنة بدورها تطرح سؤالاً مبدئياً حول إصرار السلطة التشريعية على اللجوء في القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد إلى تشكيل هيئات استثنائية ومنشقة عن أجهزة القضاء العادية. فمن شأن هذه التدابير أن تؤدي إلى إنشاء أجهزة قضائية-سياسية موازية للقضاء العادي، بدلاً من تمكين النيابات العامة وأجهزة القضاء من ملاحقة جرائم الفساد وتوسيع صلاحياتها في هذا المجال. وهنا يجب التوضيح بأن التخصص أمر مرحّب به بلا شك، وخصوصاً في مجال تقني ومعقد كتعقب الأصول المنهوبة. ولكن يُفضَّل أن يتم إنشاء مؤسسات متخصصة مندمجة في الأجهزة القضائية العادية، كمحاكم مختصة ومكتب تحقيق مختص في النيابات العامة، بدلَ تشكيل لجان خارجة عن هذه الأجهزة كلياً وخاضعة للحسابات السياسية ونموذج المحاصصة.

 

النهج المتبع دولياً: ثنائية المصادرة الجنائية والمصادرة المدنية

جاءت الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد لعام 2004 لتوحيد الجهود الدولية لمكافحة الفساد وتنسيق الآليات القانونية المتوفرة للحكومات لتعقب واسترداد الأصول والأموال المنهوبة، بهدف تيسير التعاون ما بين الدول والتضييق على الفساد السياسي. فالفصل الخامس من الاتفاقية يوفر إطاراً موحداً لآليات استعادة الأصول المنهوبة، ويطالب الدول باتخاذ التدابير اللازمة من أجل تقييد عائدات الفساد ومصادرتها. وبالتوازي، تم إنشاء مبادرة استرداد الأصول المنهوبة للبنك الدولي ومكتب الأمم المتحدة المختص بمكافحة الجريمة والإتجار بالمخدرات للإشراف على عمليات مكافحة الفساد وتوفير الدعم التقني للدول المعنية.

ومن أبرز الآليات المتوفرة التي تشير إليها اتفاقية مكافحة الفساد، ثنائية المصادرة الجنائية والمصادرة المدنية، أي المصادرة التي لا تستند إلى حكم إدانة جنائية. فذُكر كلتا الآليتين في الفصل الخامس من الاتفاقية، حيث تنص المادة 54(1)(c) أن على الدول “النظر في اتخاذ ما قد يلزم من تدابير للسماح بمصادرة تلك الممتلكات من دون إدانة جنائية في الحالات التي لا يمكن فيها ملاحقة الجاني بسبب الوفاة أو الفرار أو الغياب أو في حالات أخرى مناسبة”.

وتختلف المصادرة الجنائية عن المصادرة المدنية في الإجراء المعتمد قانونيا، حيث المصادرة الجنائية عبارة عن دعوى قضائية شخصية تستوجب محاكمة جزائية وإصدار حكم إدانة بواسطة معيار الإثبات في القانون الجزائي، أي بشكل “لا محل فيه لشك معقول”؛ بينما المصادرة المدنية عبارة عن دعوى عينية ضد الممتلكات نفسها، بمعزل عن أي محاكمة جنائية للمالك، إذ يشترط فقط إثبات أن الممتلكات “ملوّثة” (أي أنها عوائد سلوك جرمي) استناداً إلى معيار موازنة الاحتمالات. وعليه، ففي إجراءات المصادرة المدنية يُعتبر صاحب الممتلكات عموماً طرفاً ثالثا وله الحق في الدفاع عن الممتلكات المعنية وإثبات عدم تلوّثها بالسلوك الجرمي.

 في هذا السياق، يشير التقرير الصادر عن مبادرة استرداد الأصول المنهوبة تحت عنوان “عوائق استرداد الأموال” إلى أن من أبرز العوائق أمام مساعي استرداد الأموال إفقار بعض الدول إلى آليات المصادرة المدنية، إذ قد تكون هذه الآليات في بعض الحالات “الوسيلة الوحيدة لاسترداد عائدات الفساد، واقتضاء قدر من العدالة”. ويؤكد التقرير أن للمصادرة المدنية فعالية مميزة في حرمان الفساد السياسي من ثمار جرائمه واسترداد الأصول المنهوبة لمواطني الدولة الضحية. ففي حين أنه ينبغي ألا تكون المصادرة المدنية بديلاً باتّاً للمحاكمة الجنائية، إلا أنها قد تكون الأداة الأكثر فعالية حيثما قد يمنع نفوذ المسؤولين الفاسدين وغير ذلك من الوقائع العملية من الحصول على حكم إدانة جزائية مبرم.

ويُلاحظ أيضاً أن المادة 31(8) من اتفاقية مكافحة الفساد تنص على أنه “يجوز للدول الأطراف أن تنظر في إمكانية إلزام الجاني بأن يبيّن المصدر المشروع لهذه العائدات الإجرامية المزعومة أو للممتلكات الأخرى الخاضعة للمصادرة، ما دام ذلك الإلزام يتوافق مع المبادئ الأساسية لقانونها الداخلي ومع طبيعة الإجراءات القضائية والإجراءات الأخرى”. وكما سنرى في مثال المملكة المتحدة، فإن الآليات من هذا النوع، أي التي تقوم عملياً بعكس عبء الإثبات بحيث يضطر الجاني إلى إثبات شرعية مصادر الممتلكات المعنية، لها قيمة عالية في الملفات المتعلقة بالفساد، وخصوصاً حيثما يتم تحويل الأصول المعنية عبر عدة دول ودمجهم مع أصول أخرى “شرعية” في محاولة لإخفاء مصدرها الحقيقي.

 

النظام التشريعي في المملكة المتحدة نموذجاً

من هذا المنطلق، سوف نأخذ النظام التشريعي البريطاني لاستعادة الأصول المنهوبة نموذجا للمقارنة، فرغم أن المملكة نفسها لا تعاني من مستوى فساد مرتفع في نظامها السياسي الداخلي، إلا أن مؤسساتها المالية أصبحت ملاذاً لأموال الفساد المهربة من الدول النامية في العقود الماضية، ما أجبر السلطات التشريعية إلى إقرار قوانين بهدف القضاء على هذه الظاهرة، تطبيقاً للإطار القانوني الذي استحدثته الاتفاقية الدولية.

يوفّر قانون المملكة المتحدة للأجهزة القضائية كلا آليتي المصادرة الجنائية والمصادرة المدنية، بهدف استرداد عائدات الفساد والإجرام المنظم على وجه الخصوص، مع العلم بأن صلاحيات المصادرة لا تقتصر على هذه الجرائم بل تنطبق على أي جرم سواءً ارتُكب داخل المملكة أو خارجها، شرط أن يكون الفعل المعني مُجرَّماً في كلا من المملكة المتحدة والدولة التي ارتُكب فيها.

بالنسبة للمصادرة الجنائية، ففي حالة إدانة المتهم وإثبات إفادته من السلوك الجرمي، يحق للنيابة العامة المعنية أن تطلب من المحكمة قراراً بمصادرة أمواله (confiscation order)، كي يشمل القرار إما الأصول الملوثة ذاتها أو أموال بقيمة استفادة المتهم من سلوكه الجرمي إذا لم يتم العثور على الأصول الملوثة. وبالإضافة إلى ذلك، يتوفر للسلطات المعنية صلاحية الطلب من المحكمة الجنائية تجميد أصول المتهم عند بدء تحقيق بحقه (restraint order)، لتجنب احتمال أن يقوم بتبديدها أو إخفائها فور علمه بالملاحقة.

أما بالنسبة للمصادرة المدنية، فيحق للسلطات المعنية أن ترفع دعوى عينية أمام المحكمة العليا (المدنية) على الممتلكات المشبوهة، وعندئذٍ يتوجب على المحكمة أن تقرر، استناداً إلى توازن الاحتمالات، إذا ما كانت الأصول ملوثة أو تمثل عائدات سلوك جرمي.

كذلك يمنح قانون عائدات الجرائم للسلطات المعنية صلاحية طلب من المحكمة إصدار “أوامر الثروة غير المبررة”، (unexplained wealth orders) التي تفرض على المدعى عليه (أي مالك الأصول المشبوهة) التزاماً قانونياً بإثبات مصادر أصوله المشكوك بأمرها. فإذا لم يستجب المدعى عليه على الأمر، تُعتبر الأصول المعنية تلقائياً قابلة للمصادرة؛ بينما إذا استجاب فعلى سلطة الادعاء أن تقرر، نظراً للأدلة المتوفرة، إذا ما يجب اتخاذ تدابير إضافية متعلقة بالأصول، كرفع دعوى للمصادرة المدنية مثلاً. وكما أشرنا سابقا، فمفاد أوامر الثروة غير المبررة هو عكس عبء الإثبات، الأمر الذي يسهّل عملية استرداد الأموال المنهوبة بشكل ملحوظ. وشروط مطالبة هذه الأوامر هي الآتية:

  • أن تكون هنالك أسباب معقولة لاعتقاد أن الأصول المعنية ملكية المدعى عليه وتتجاوز قيمتها £50,000
  • أن تكون هنالك أسباب معقولة لاعتقاد أن مصادر ثروة المدعى عليه الشرعية غير كافية لتفسير ملكيته للأصول المشبوهة
  • أن يكون المدعى عليه “شخصية سياسية بارزة” أو منخرط بالإجرام المنظم

 

خاتمة

يتبين مما تقدم أن الصلاحيات المتضمنة بمقترحات استرداد الأموال المنهوبة في لبنان، تبقى منقوصة وقاصرة عن مكافحة الفساد، وهي أقرب إلى البروباغندا منه إلى مسعى حقيقي لتحقيق هذا الهدف الوطني.

 

 

 

 

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني